رشيد خشانة: حتّى تكون العدالة الانتقــــــاليّة لحظة لكتابة التاريخ
العدالة الانتقالية هي فلسفة ومنهجية، هدفها معالجة ميراث انتهاكات جسيمة، ومساعدة الشعوب على الانتقال بشكل مباشر وسلمي وغير عنيف إلى الديمقراطية
أولى التونسيون موضوع العدالة الانتقالية اهتماما كبيرا على إثر سقوط النظام السابق، باعتبارها رُكنا أساسيا من أركان الانتقال الديمقراطي. وتجسد هذا الاهتمام بإحداث هيئة الحقيقة والكرامة في أواخر 2013. لكن بقدر الإجماع على ضرورة هذه الآلية وحاجة البلاد إليها بُغية «محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وتعويض الضحايا وردِ الاعتبار لهم»، مثلما جاء في القانون المُحدث للهيئة، تباعدت المواقف من تشكيلة أعضائها ومن ملابسات تكوينها وانتهاء بالحكم على أدائها.
ويمكن اختزال المآخذ التي أثيرت ولاتزال تُثار حولها في النقاط الجوهرية التالية:
التكوين
تمَ إحداث هيئة الحقيقة والكرامة في نهاية 2013 بعد مصادقة المجلس التأسيسي على «قانون العدالة الانتقالية». وحُدِّدت مهامها بـ«كشف حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان طيلة الفترة المُمتدة من أول جويلية 1955، (أي بعد شهر من حصول تونس على الاستقلال الداخلي)، إلى 31 ديسمبر 2013» (أي تقريبا تاريخ إنشاء الهيئة نفسها). وبدأت التشققات تظهر على جدارها منذ تشكيل الهيئة وتوزيع المسؤوليات بين أعضائها، إذ كان خروج المناضل الحقوقي خميس الشماري منها «لأسباب خاصة» ضربة قوية لمصداقيتها، لاسيما أن المعايير الموضوعية كانت تُبوئُهُ اعتلاء رئاسة الهيئة، بحكم معرفته بعديد التجارب في العدالة الانتقالية، ومنها تجربتي المغرب وأفريقيا الجنوبية، وهما من التجارب العالمية المُهمة في هذا المجال.
ثم توالت الاستقالات والإقالات حتى كادت تشمل نصف أعضاء الهيئة الأصليين (بقي تسعة أعضاء فقط من أصل 15 عضوا). وتم الاحتكام في بعض الإقالات للقضاء، الذي أبطل قرار إعفاء نائب رئيس الهيئة من مهامه، غير أن رئاسة الهيئة لا تزال ترفض تطبيق القرار القضائي إلى اليوم. وهذا يدلُّ على محدودية الصفات القيادية للرئاسة وافتقارها للقدرة على التجميع. ولا يمكن فصل تشكيل الهيئة عن سياقه التاريخي المتمثّل في سيطرة «الترويكا»، وتحديدا «حركة النهضة»، على حقيبتي العدل والعدالة الانتقالية، وهو ما ستظهر بعض تجلياته في ميل الهيئة إلى عائلة سياسية دون العائلات الأخرى من ضحايا النظام السابق. وستكون حصص الشهادات العلنية الأولى المُقرّرة ليوم 18 من الشهر الجاري محكا لمعرفة مدى ميلان الكفة إلى طرف دون آخر.
الأداء
لم تشرع الهيئة في تلقّي الملفات والشكاوى إلا يوم 15 ديسمبر 2014، أي بعد مرور سنة بكاملها على تكوينها، وفي حين كان مُقرّرا أن تنتهي من تلك العملية يوم 15 ديسمبر 2015 قرّرت تمديدها إلى 15 جوان 2016، علما أن القانون ضبط مدة عمل الهيئة بأربع سنوات قابلة للتمديد مرة واحدة ولسنة واحدة فقط. وأسباب هذا التأخير مزدوجة فهناك عدالة انتقائية باشرتها حكومة «الترويكا»، قبل تشكيل هيئة الحقيقة والكرامة، إذ تفاوضت مع رجال النظام السابق وبعض رجال الأعمال المُقرّبين منه على تسويات تحت الطاولة، مما ألقى ظلالا كثيفة في وقت مُبكر على مسار العدالة الانتقالية. وتمثل السبب الثاني في أن اهتمام رئاسة الهيئة اتجه إلى إدارة المعارك الداخلية والبحث عن المظاهر، وهو ما جعل التعاليق السلبية تطغى على متابعة وسائل الإعلام لنشاط الهيئة.
معضلة الوثائق
منذ أن أرسلت الهيئة شاحنات نقل الأثاث من باب الخضراء إلى قصر قرطاج لتسلُّم وثائق رئاسة الجمهورية والمراقبون يتساءلون عن سرِّ الإصرار المُتكرِّر على جمع الوثائق ذات الطابع السياسي والمالي، وتحديدا عن احتمال وجود رابط بين هذا المسعى والعلاقات المُتوتّرة بين رئيسة الهيئة ومسؤولين حاليين في الدولة، وكذلك خصوماتها مع نشطاء سابقين في الحركة الحقوقية. وهذا يستدعي العودة إلى التذكير بالمعاني الأصيلة للعدالة الانتقالية بوصفها لا تنبني على الثأر والانتقام، وإنما على الوصول إلى حل وسط بين الحاكم السابق والمحكوم، بين مُقترفي الانتهاكات وضحاياهم. وهي بالأحرى محاولة لمراجعة ما حدث من أجل الخروج منه بطريقة سلمية، بُغية إعادة بناء وطن يسع الجميع في المستقبل، قوامه احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون. بهذا المعنى يُشكّل تطبيق العدالة الانتقالية شرطا ضروريا لمعالجة ملفات الماضي، ومن ثمَ التقدم إلى الأمام لتحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود. فالتعامل مع ميراث الانتهاكات يفتح الطريق أمام مناهج متعدّدة تشمل، من بين ما تشملهُ، العدالة الجنائية وعدالة جبر الضرر والعدالة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية... ولذا فإنها لا تقتصر على محاسبة مُقترفي الجرائم، وإنما ترمي أيضا إلى الاتعاظ منها لمنع تكرارها في المستقبل.
الفرصة الفريدة
قبل أيام زار تونس الإعلامي العتيق ماكس دوبريز Max du Preez الذي كافح ضد نظام الميز العنصري في أفريقيا الجنوبية، قبل أن يتولى مسؤولية البث التلفزيوني لشهادات ضحايا ذلك النظام. وذكَر دوبريز التونسيين بأن مسار العدالة الانتقالية لحظةٌ عظيمةٌ لا تحدث سوى مرة واحدة، ولا يمكن تكرارها ولا مقارنتها بكتابات المؤرخين. وأنقُل من كلامه هذه الجُملة التي تُغني عن أي تعليق أو إضافة، إذ قال «تونس لديها الآن لحظة لكتابة التاريخ. لحظة فريدة من نوعها لتقول: لا نستطيع فعل ذلك عن طريق مؤرّخ واحد أو كاتب واحد، بل نستطيع كشعب تسجيل كل تاريخنا، ما حدث قبل الثورة وأثناءها، وهذا (التسجيلُ) سوف يبقى. إن أضاعت تونس هذه الفرصة، فلن تأتي مرة أخرى... لن تأتي مرة أخرى. ولهذا عندما يتعلّق الأمر بالحقيقة، وعندما يتعلق الأمر بالتاريخ … فنحن نكتب التاريخ الآن».
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق