أخبار - 2016.11.16

مقاربة مختلفة في تناول موضوع ميزانية الدولة وقانون المالية لسنة 2017 وحلول عملية للخروج من الأزمة

مقاربة مختلفة في تناول موضوع ميزانية الدولة وقانون المالية لسنة 2017 وحلول عملية للخروج من الأزمة

ليس هناك تناسق بين قانون المالية وميزانية الدولة لسنة 2017، فبينما يقدّم قانون المالية إجراءات تقشفية من زيادة في الأداءات وتجميد للأجور والانتدابات في الوظيفة العمومية، تذهب ميزانية الدولة في زيادة في حجهما هي الأكبر من نوعها منذ الثورة. وبالتالي تندرج ميزانية الدولة لهذا العام في إطار مقاربة محاسباتية بدون أي رؤية اقتصادية واضحة ولا علاقة لها بالتوجهات المرسومة بالمخطط الخماسي للتنمية 2016-2010 وكأنها تريد أن ترضي أطرافا خارجية تعتبر المموّل الرئيسي لميزانية الدولة، وهو صندوق النقد الدولي، بدون أن تقدّم حلولا معقولة لذلك. الإجراءات المقترحة في قانون المالية لسنة 2017 لا تمكّن من بلوغ نسبة النموّ ب2.5 % ولا نسبة التضخم المقدّرة ب 3.6 % بما أنها لا تحفّز على الاستثمار الخاص بل تعطّله بمساهمة استثنائية على الأداء على الأرباح وبرفع السرّ البنكي. عندما لا تتحقّق نسبة النمو المنتظرة، فإن الناتج المحلي الاجمالي لن يرتفع بالنسبة المرجوّة التي تمكّن من التخفيض في حصة الأجور من الناتج وهو ما حصل بالفعل في السنتين الأخيرتين 2015 و2016 وبالتالي فإن هذا الشرط لصندوق النقد الدولي لن يتحقق. فتجميد الأجور لا يمكن أن يكون حلّا يمكّن من تحقيق شرط صندوق النقد الدولي نظرا للتداعيات الاقتصادية السيئة على المحرك الوحيد الذي لا يزال يشتغل وهو الاستهلاك الخاص وعدم تأجيل الزيادة في الأجور يمكن أن يفيد الاقتصاد التونسي إذا صاحبه ارتفاع في نسق الاستثمار الخاص. بهذه المقاربة الاقتصادية، يمكن لمحركات النمو المتعطّلة الى حد الآن أن تشتغل لتفيد الاقتصاد التونسي باستحثاث نسق النمو.

وهذه ملاحظاتي حول مشروع قانون المالية وميزانية الدولة لسنة 2017:

1) ميزانية الدولة لسنة 2017 رصدت زيادة كبيرة ب 3 .3 مد لم تشهدها أي حكومة منذ 2012 بالرّغم من صعوبة تعبئة الموارد الداخلية والخارجية والتوجّه نحو سياسة التقشف من تجميد للأجور وترفيع في الضغط الجبائي. هذه الزيادة تفترض نموّا ب15،7 % في الموارد الجباية والحال أننا لم نتمكن من تحقيق حتى نسبة 0% في 2016 بالرغم من تقديرات قانون المالية لسنة 2016 من المحافظة على  الزيادة في حجم الميزانية متأتّية أساسا من زيادة في الاقتراض الخارجي (1,6) ليصل الى 6,2مد وفي الجباية (1,2) لتصل الى 21,8مد. مزيد التوجّه نحو الاقتراض الخارجي يتطلّب التأكّد من قدرة الحكومة على مزيد تعبئة هذه:

الموارد خاصة وأن هذه الأخيرة لا تزال تعاني من هذه المشكلة لإغلاق ميزانية 2016. كذلك هناك شكّ في قدرة الحكومة على الترفيع في الموارد الجبائية ب 15,7% بالرغم من الإجراءات الجديدة في توسيع قاعدة الأداء على الدخل وهي التي لم تقدر على تحقيق حتى عشر النسبة التي قدرتها في ميزانية 2016 (11.2 %) بل تقهقرت الموارد الجبائية بأكثر من 2% حتى موفى جويلية 2016.  

2) توجه نحو الاقتراض الخارجي وعدم الاعتماد على الموارد الذاتية: تضاءلت نسبة الموارد الذاتية من ميزانية الدولة ب15 نقطة كاملة مقارنة بما قبل الثورة خاصة فيما يتعلّق بالموارد الجبائية القارة والتي تراجعت ب 9 نقاط مقابل ارتفاع هام في حصة التداين الخارجي ب 12 نقطة

3) لا نيّة للحكومة في بذل مجهود نحو مزيد تعبئة الموارد غير الجبائية: بالرغم من الزيادة المشطّة في حجم الميزانية، لم تبدي الحكومة نيّة في بذل مجهود إضافي قصد تعبئة الموارد غير الجبائية والتي تراجعت ب 0،3مد والتي يمكن لها أن تجنّبنا مخاطر تعبئة الموارد الجبائية وموارد الاقتراض الغير المضمونة بعد الزيادة في نسبة الضغط الجبائي والتي يمكن أن تزيد في تنامي ظاهرة  التهرب الجبائي  وصعوبة الولوج الى السوق المالية بعد تدهور مؤشرات المالية العمومية.

4) المبلغ المرصود للتنمية يصعب تحقيقه والمرصود لوسائل المصالح غير مقنع: في أحسن الحالات، لم تتمكن حكومات ما بعد الثورة من إنجاز أكثر من 4،8 م د وحتى المبلغ المقدّر في ميزانية الدولة لسنة 2016 غير متأكد خاصة وأن ما أنجز حتى موفى جويلية 2016 لم يرتقي حتى الى النصف مما قدّر في قانون المالية لنفس السنة وهذا يؤكّد محدودية طاقة الاستيعاب في الاقتصاد التونسي والذي لا يمكّن من انجاز 

المبلغ المقترح في ميزانية 2017. الإشكال الحقيقي في هذه الميزانية هو الزيادة الغامضة في النفقات الأخرى والتي تشمل وسائل المصالح والتي ارتفعت ب0،9 م د وهو المبلغ الكافي الذي لو وجهناه الى الزيادة في الأجور لتمكنّا من تحقيق السلم الاجتماعي اللازم لتحسين مناخ الأعمال ونحن قادمون على تنظيم مؤتمر للاستثمار في أواخر هذا الشهر علاوة على أن هذه الزيادة تخلق العديد من التساؤلات في توجّه نحو التقشف مما قد يبرر طلبات بعض المنادين بضرورة التدقيق في المالية العمومية خاصة فيما يتعلق بمحور النفقات الأخرى.

5) نفقات الدولة متوجهة أساسا نحو الأجور (خاصة بعد 2015) ونفقات المصالح على حساب التنمية: المتأمل في هيكلة النفقات العمومية يلاحظ أن حصة الأجور من حجم الميزانية لم تتجاوز الحصة المخصصة لها في ميزانية 2010 إلا منذ 2015 حيث أصبحت هذه الحصة (45% في سنة 2016) مقلقة مما دفع صندوق النقد الدولي الى تنبيه الحكومة التونسية أن لا تتجاوز نسبة 12% من الناتج المحلي الإجمالي في موفى 2020 وهي مقدّرة في حدود 14،4% في 2016 وتأمل حكومة الوحدة الوطنية في التخفيض فيها إلى حدود 14،2% في سنة 2017.  يجدر الإشارة إلى أنه يمكن التخفيض من هذه النسبة باللجوء الى سياسات التحفيز الموجهة للاستثمار الخاص والتي بإمكانها أن ترفّع من نسق النمو الاقتصادي وتخلق المزيد من مواطن الرزق مما قد يخفف العبء على القطاع العام ويوفر للدولة موارد جبائية إضافية تجنبها المزيد من اللجوء إلى التداين الخارجي.

6) الموارد الجبائية أصبحت لا تفي إلا بدفع الأجور واستخلاص الدين لكنها لا تكفي لسداد الأجور والدعم واستخلاص الدين: سياسات المالية العمومية الصحيحة هي التي تبنى على الموارد القارة وهي الموارد الجبائية. لكن الفجوة التي تفصل الموارد الجبائية على النفقات الضرورية الدنيا وهي الأجور واستخلاص الدين أصبحت أكثر ضيقا منذ 2015 ولم يتبقى إلاّ نصف مليار دينار للدعم والتنمية ووسائل المصالح. و حتى أذا أضفنا الموارد غير الجبائية، فإن الموارد الذاتية للدولة لا تكفي للإنفاق العادي لها من أجور ودعم واستخلاص للديون وأصبحت الديون الخارجية سياسة واضحة لتمويل موازنة الدولة مما جعلنا نبتعد كثيرا على الوضعية المالية لميزانية الدولة لسنة 2010 حيث أصبحنا على بعد 23 نقطة كاملة للدين العمومي من الناتج المحلي الإجمالي وأكثر من 37 مليار دينار لبلوغ نسبة 40،7% للدين العمومي من الناتج.

7) ليس هناك نيّة لحكومة الوحدة الوطنية لمقاومة الفساد في قطاع الديوانة: الاجرءات الجديدة لم تشمل قطاع الديوانة بالرّغم من الفساد المستشري خاصة في ميناء حلق الوادي، إعادة هيكلة هذه المؤسسة يمكن أن يوفر موارد إضافية للدولة.

8) ميزانية الدولة لسنة 2017 ترتكز على نسبة نمو اقتصادي من الصعب تحقيقها بالإجراءات الجديدة لقانون المالية 2017: يشكل سوء تقدير نسبة النمو الاقتصادي المعضلة الكبرى لاختلال توازنات المالية العمومية منذ 2015. ففي قانون المالية لسنة 2016 قدّرت الدولة نسبة النمو الاقتصادي ب 2،5% ولم تتمكن من تحقيق إلا نسبة ضعيفة قد تصل الى 1،5% مما قلّص من الموارد الجبائية للدولة وضاعف من اللجوء إلى التداين الخارجي. فرضية نسبة نمو اقتصادي ب 2،5% لسنة 2017 رهين تجاوب توفّر عوامل عديدة منها رجوع المستثمر الخاص الى الاستثمار والعامل الى العمل. إلا أن الإجراءات الجديدة في قانون المالية لسنة 2017 من مساهمة استثنائية للمستثمرين ورفع السّر البنكي من ناحية وتجميد للأجور من ناحية أخرى قد تدفع المستثمرين الى البحث عن مناخات أكثر تحفيز للاستثمار  وأكثر استقرار والعمال الى مزيد من الاحتقان الذي قد لا يمكّن من تحقيق نسبة النموّ المنتظرة مما قد يدفع الحكومة الجديدة الى مزيد اللجوء إلى التداين الخارجي.

9) فرضية تضخم مالي ب3،6% صعبة التحقيق بإجراءات ترفّع من الأداءات غير المباشرة: منذ جانفي 2016 أخذت نسبة التضخم المالي منحى تصاعدي وصلت به الى 4،2% في حدود شهر سبتمبر 2016 بعد أن كانت في منحى تنازلي في 2015.  التحكّم في نسبة التضخم المالي تتطلب إجرءات تحفّز على البذل والعطاء من استثمار خاص وعودة الى العمل حتى تنمو الثروة المنتجة وهذا غير متوفر في قانون المالية لسنة 2017

10) بلوغ نسبة نمو اقتصادي ب2،5% مع نسبة تضخم مالي ب3،6% يتطلب من المنظمة الشغيلة القبول بتأجيل الزيادة في الأجور مع القدرة على إرجاع العملة والموظفين الى حضيرة العمل ومن منظمة الأعراف القبول بالمساهمة الاستثنائية وبرفع السرّ البنكي مع إقناع المستثمرين بضرورة الاستثمار لإنقاذ البلاد من الركود الاقتصادي وهو أمر صعب التحقيق.

10) الاستجابة الى طلب المنظمة الشغيلة وعدم تجميد الزيادة في الأجور ممكنة: يكفي أن تخفض الدولة أمّا في نفقات التنمية والاقتصار على المبلغ الممكن تحقيقة وهو 4،8مد وهو ما يوفر 1،4مد أو التدقيق في نفقات وسائل المصالح من أجل التقليص فيها علما وأن مبلغ الزيادة في الأجور لا يتجاوز 1مد. ولكي لا تتجاوز حصة الأجور من الناتج المحلي الاجمالي النسبة المطلوبة من صندوق النقد الدولي، لا بد من العمل على الترفيع في الناتج المحلي الاجمالي عبر إجراءات تحفّز على الاستثمار الخاص حتى يتجاوب مع الزيادة المتوقعة للطلب الداخلي الناتجة عن الزيادة الممكنة في الأجور. مقاربة المنظمة الشغّيلة التي تقوم على دفع الاستهلاك الخاص عبر الزيادة في الأجور لن تجدي نفعا في الاقتصاد إلا إذا اصطحبت بالزيادة في الاستثمار الخاص وبالتالي لا مفر من التعاون والتوافق بين المنظمتين لكي يتحرك معا محرّكا النمو الاقتصادي، الاستثمار الخاص والاستهلاك الخاص. فعلاوة على التوافق السياسي والذي يعطي رسالة جيدة للاستثمار الخاص حول الاستقرار السياسي، لا بد أن تبرهن المنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف على قدرتهما على تأسيس توافق اقتصادي بينهما وهما الحائزتان عل جائزة نوبل للسلام.

12) الاستجابة إلى شرط صندوق النقد الدولي بتخفيض نسبة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي الى 12% في حدود 2020 لا يمكن الوصول إليه عبر الضغط على الأجور بدون اعتبار تأثير هذا الضغط على الناتج المحلي الإجمالي. ارتفاع حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي ناتجة أساسا من سوء تقدير النمو الاقتصادي من طرف الحكومات ما بعد الثورة والتي لم تتوفّق في اتخاذ الإجراءات اللاّزمة لدفع النمو الاقتصادي عبر تحفيز الاستثمار الخاص. وبالتالي لكي نجعل من الأجور عاملا من عوامل النمو الاقتصادي عبر الاستهلاك الخاص، لا بدّ لمحركات النمو الأخرى أن تشتغل، وهي الاستثمار الخاص والتصدير. العقدة في المنشار هو الاستثمار الخاص وهذا الأخير مرتبط بعوامل غير اقتصادية من عدم استقرار في المشهد السياسي والأمني والنقابي وغموض في مسألة العدالة الانتقالية وعدم قدرة الدولة على تطبيق القانون. علاوة على هذه العوامل غير المشجعة على الاستثمار، أدرج قانون المالية لسنة 2017 إجراءات قد تزيد في تعطيل محركات النمو الاقتصادي، فالمساهمة الاستثنائية ورفع السر البنكي قد يدفعان المستثمرين التونسيين الى البحث عن مناخات استثمار أكثر اطمئنان وأكثر تحفيز والزيادة في الأداء على القيمة المضافة في العديد من المواد علاوة على الترفيع المتوقّع في بعض الفواتير ومن بينها الكهرباء يعطّل محرك النمو الوحيد الذي  لا يزال يشتغل وهو الاستهلاك الخاص.

أ.د. رضا الشكندالي
أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.