أخبار - 2016.10.17

عبد اللّه هلالي : وداعا أيّها القاضي الفاضل، الهادي بالصّادق

 الهادي بالصّادق : وداعا أيّها القاضي الفاضل

 كان الوقت المتاح حاليا لا يسمح بتقديم دراسة موسعة موثقة عن حياته القضائية، وهي جديرة بذلك، فلا أقل من كلمة وداع تذكّرنا بالقيم الرفيعة التي تمسك بلادنا، والتي كثيرا ما تنُسى في زحام القيم المعاصرة، عسى أن تسمح الفرصة بما هو أشمل وأكثر نفعا للأجيال الحاضرة والقادمة. لقد عرفت الفقيد لأول مرة يوم أول ديسمبر 1957 وأنا أخطو الخطوة الأولى في مهنة أو «بلّية» القضاء، وكان يومئذ قاضي ناحية لكن يستعان به في المجلس والنيابة، يستعان به قاضيا أو مستشارا ويستأنس به زميلا وصديقا، يطلب رأيه حتّى من كان أكبر منه سنّا ومركزا، وهي حال صاحبته طوال حياته. وأصبح التعارف زمالة وصداقة وتعاونا، وتواصلت وتوطدت مع الأيام في مصلحة القضاء والمتقاضين، دون أن يكون بيننا أي لقاء في مصلحة شخصية لي أو له، رغم طول الزمالة التي بلغت أربعين عاما، وجمعتنا ظروف العمل مرة أخرى لما كُلّف برئاسة المجلس الدستوري وكنت عضوا فيه بحكم صفتي، وتواصلت علاقة المودة بيننا حتى الوداع الأخير.

وأحسب أن طول العشرة وطبيعتها يسمحان لي بتقديم شهادة عن بعض ما قدّمه لوطنه. وأنا ملتزم بما يلتزم به الشاهد الأمين. فقد عرفت في الفقيد مسؤولا ناجحا في أيّ مهمة أسندت إليه، ومنها رئاسة محاكم نواح ومن أهمّها محكمة ناحية العاصمة ورئاسة الدائرة الرابعة المخصصة عادة للقضاة المتميّزين وإدارة الدراسات والتشريع ورئاسة محكمة الاستئناف بالعاصمة ثم رئاسة محكمة التعقيب، إضافة إلى المهمّات القضائية والقانونية في الداخل والخارج، وأخيرا رئاسة المجلس الدستوري. ولم يباشر، ولو عرضا، أي عمل غير قضائي. وقد كان في كل حياته المهنية تلك قاضيا يعطى المثل في مواصفات القاضي المهنية والسلوكية، قاضيا ملتزما باستقلال القرار ونزاهة الاختيار وكفاءة الأداء واستقامة السلوك. فقد كان ملتزما بتلك القيم وهو يستمع، ملتزما وهو يفاوض زملاءه، ملتزما وهو يرأس جلسة أو دائرة أو محكمة أو مؤسسة، ملتزما وهو يعيش حياته اليومية. 

كان يستمع فيُحسن الاستماع، ويشعر المتكلّم باهتمامه دون ملل أو تذمّر، ويعتبر ذلك من حق كل متقاض ومن واجب كل من انتصب للقضاء. كان تصرّفه تعبيرا حيّا عن وصيّة عمر بن الخطاب في القضاء « وآس الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك». فإذا دخل في المفاوضة زميلا أو رئيسا كان متميزا في التزامه بقواعد التفاوض وبآدابه، فلن تشعر معه بإساءة أو بتجاوز أو بوجود رأي جاهز لديه، بل تجد لديه دراية بجزئيات الملف، واستيعــــابا لمواقف الأطــــراف وللمراجع القانونية ، وقدرة فائقة على تبسيط المســــائل وعلى الإقناع، وفي نفس الوقت حرصا على فهــــم رأيك وتقديرا له سواء كان موافقا أو مخالفا. كان ملتزما بالقانون لا يقبل تجاوزه أو تحريفه، ويعتبره المصدر الوحيد لصلاحيات القاضي، لكنه يتمسك أيضا بالإنصاف ويعتبره رسالة القاضي والهدف من وجوده، ويمتلك قدرة على الجمع بين تطبيق القانون وتحقيق الإنصاف بيسر ودون تكلّف. كان ملتزما وهو يرأس دائرة أو محكمة أو مؤسسة، فمع التزامه بحسن سير العمل طبق القانون فهو في كلّ المهام التي تولاها، على كثرتها وأهميتها ومستوى أعضائها، لم يفقد القدرة على الاحتفاظ باحترام رؤسائه، ومحبّة زملائه، وتحفيز مساعديه، وتقدير المتعاملين معه كالمحامين ومساعدي القضاء، وثقة المتقاضين والمواطنين، وكانت هذه الثقة هي أكبر مشاغله.

كان ملتزما في حياته اليومية، فلم يكن يجد فرقا بين الحياة المهنية للقاضي والحياة الخاصة، فلا يعتبر الحياة العادية للقاضي خاصة به ولا هو حرّ فيها، بل هي جزء من حياته المهنية، ومن حق مواطنيه أن يطلعوا عليها ليطمئنوا إلى أنها لا تدعو إلى الريبة أو الخوف. فقد كان ملتزما في مظهره أنيقا، دون إفراط، في ملبسه وفي سلوكه وفي حديثه، فلن تشهد نشـازا ولا فحشا في القول أو الفعل، مع أدب جم وتواضع طبيعي، ولا يتأخّر في مساعدة كل من يحتاج لمساعدته.وقد أخبرني منذ يومين صديق لي عن واقعة حصلت له في الخمسينات وهو طالب، فقد كان انتقل من الوسط إلى بلدة في الجنوب ليرفع قضية في استخلاص دين لإخوته الصغار، ولما وصل البلدة مساء لم يجد مكانا يبيت فيه، وبينما هو يتحدث حائرا مع بعض من لقيهم مرّ قاضي الناحية، وكان المرحوم، فلما أخبروه اهتم به وأخذ منه ما لديه من معطيات ووجد له مكانا للمبيت وطلب منه أن يرجع صباحا لبلده لأنه لن يجد بعد ذلك وسيلة للتنقل وليعتبر قضيته رفعت. وفعلا حصل على حق إخوته دون أن يرجع إلى المحكمة. وبقي يحمل منذ ذلك التاريخ مشاعر التقدير والاحترام لهذا القاضي ولم تتغير نظرته إليه رغم مرور الأيام وتغيّر الأحوال، ولا شك في أن مثل هذا التصرف قد تكرر قبل تلك الحادثة وبعدها، وهو مما يفسّر ثقة الناس فيه أينما حل.

فهو في هذه الواقعة قد استعمل طريقة الإجراءات المنطبقة يومئذ لكن بمرونة تنصف صاحب الحق دون أن ترهقه، وهذا تطبيق سبق به ما تسعى إليه الآن مؤسسات البحث القضائية الحديثة في المجتمعات المتقدمة من تيسير الحصول على الخــدمة القضـــائية أو ما يسمى «المجال الســابع لتميـز المحـــاكــــم» أو «بالانــقـــليــــزيــــــة»

7 Affordable and Accessible Court في «إطار العمل الدولي لتميز المحاكم»(1) وهو توفير خدمات يسهل تقديمها والوصول إليها..ولم يكن هذا هو السبق الوحيد في حياته المهنية.فوداعا أيّها القاضي الفاضل ، لقد كرست حياتك للقضاء فنفعت بها القاضي والمتقاضي والمواطن والوطن، وكنت مدرسة في القضاء تستوجب الدراسة والتحيين والتطبيق، رحمك اللّه وأسكنك فردوس جنّته.
عبد اللّه هلالي
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.