قراءة في انتخابات بلدية لن تقع
نجح مسلسل حكومة الوحدة الوطنية في إلهاء الرأي العام عن الاهتمام بمصير مشروع قانون الانتخابات البلدية، الذي كان من المفترض أن يصادق عليه البرلمان في بداية شهر جويلية، حتى يتسنى إجراء هذه الانتخابات في الموعد المقرر لها، وهو نهاية شهر مارس 2017.
فتواصل "المشاورات" والتجاذبات حول برنامج حكومة الوحدة الوطنية، ثم عملية البحث عن الفارس النادر الذي سيقودها والمساومات المحمومة لاختيار الوزراء، التهمت كامل أشهر جوان وجويلية وأوت ولم ينتبه أحد إلى أن كل رزنامة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قد سقطت في الماء. وحتى رئيس الهيئة شفيق صرصار اكتفى، بعد فوات أجل المصادقة على القانون الانتخابي، بالإعلان عن وفاة مشروع الانتخابات البلدية، دون التظاهر بتحديد موعد جديد أو اقتراح خيارات أخرى.
والغريب أن كامل أطياف الطبقة السياسية والأحزاب والمنظمات "الوطنية" وحتى المجتمع المدني قد أجمعت دون استثناء على ملازمة الصمت المطبق تجاه هدا التصريح وتجاه إلغاء الانتخابات البلدية وكأن وضع بلدياتنا على أحسن حال والمواطن يقضي يومه متجولا بين الأزهار. فكيف يمكن تفسير هذا الاتفاق على الصمت وتجاهل الانتخابات البلدية، التي تمثل أساس الديمقراطية؟
في الحقيقة تلتقي كل الأحزاب تقريبا، باستثناء النهضة ومن حالفها، حول عدم الرغبة في إجراء الانتخابات قريبا وربما هي تحبذ إلغاءها نهائيا. فالعديد من هذه الأحزاب تمر اليوم بحالة تفكك وتشرذم وانشقاقات قد لا تسمح لجانب كبير منها بالتمكن من جمع العدد الكافي من المترشحين في كل الدوائر الانتخابية، دون الحديث عن الفوز بأصوات الناخبين والسيطرة على الدوائر البلدية. وفي ضوء هذه الوضعية المزرية التي تعيشها عديد الأحزاب "الكبرى"، على غرار نداء تونس وآفاق والوطني الحر والتكتل والجمهوري والمؤتمر وحراكه وغيرها، لسنا في حاجة للحديث عن عشرات الأحزاب المجهرية التي لم نعد نذكر أسماءها أو أسماء القائمين عليها، لكن نفهم رغبتها في عدم تنظيم الانتخابات في انتظار أوقات أفضل.
الاستثناء الكبير في هذه الصورة يبقى حركة النهضة، التي مازالت تحافظ على تماسكها واستمراريتها رغم ما يقوله عنها منافسوها. لكن المفارقة هنا هي أن هذا الحزب قد لا يرغب هو الآخر في إجراء الانتخابات البلدية في موعد قريب، رغم أن كل المؤشرات تدل على أنه سيكون قادرا على كسبها بسهولة لسببين رئيسيين ومترابطين.
- السبب الأول هو الانضباط الكبير الذي تتميز به قواعد النهضة ووفاؤها لاختيارات القيادة والتأكد من أن هذه القواعد ستتجند للتصويت لفائدة مرشحي الحزب، على عكس قواعد الأحزاب الأخرى، التي قد تبرز بهجر الصندوق ومقاطعته يوم الاقتراع،
- أما السبب الثاني، وهو امتداد للأول، فيتمثل في نفاذ صبر المواطن عامة تجاه طبقة سياسية ما انفكت تتنافس على نيل الامتيازات والكراسي منذ تغيير 14 جانفي، حتى وإن كلفها ذلك التعامل مع الأجنبي ومع المال الفاسد وأصحابه وانعدام أي بديل واضح لخدمة البلاد والعباد. وهذه وضعية غير مسبوقة عندنا من العزوف عن السياسة وأهلها، قد تؤدي إلى تسجيل نسبة قياسية في الامتناع عن التصويت إذا انتظمت الانتخابات.
وكما نرى يصب السببان المذكوران، وغيرهما كثير، في مصلحة النهضة رغم ما أضاعته من دعم ومناصرة وشعبية خلال فترة حكم الترويكا وما بعده. فكيف يمكن إذا فهم إصرار النهضة على تجاهل هذا الموعد الهام وعدم سعيها إلى استغلال العوامل المذكورة من أجل تحقيق نتائج انتخابية تكاد تكون مضمونة وتمكنها من تعويض تراجعها النسبي في انتخابات 2014؟
للنهضة مشاغل أخرى قد لا تلتقي "بالمعقول" الانتخابي. لذلك فهي لا يضيرها في شيء أن تتأجل الانتخابات البلدية إلى موعد غير محدد. ويبدو أن النهضة قد استحسنت، منذ تحالفها مع نداء تونس في الحكم، شغل المنصب الثاني أو الجلوس في كرسي الصف الثاني ووجدت فيه من الراحة والأريحية ما يمكنها من إعادة بناء ذاتها دون تحمل ضغوط الأوساط الرافضة لها بكل الطرق، وهي ضغوط كانت أجبرتها إلى حد بعيد على التراجع عن الحكم والقبول بسياسة التوافقات وما يرافقها من تنازلات.
والنهضة واعية تمام الوعي بمأزق الأحزاب الأخرى، ولكنها أكثر وعيا بأن تحقيق نتائج ترجعها إلى الصف الأول في الانتخابات البلدية، إن وقعت، ستجلب لها سخط المعارضين من كل الآفاق مثلما حصل في 2012، وتشحذ تخوفاتهم وتوحد جهودهم في محاربتها وتجاوز تشرذمهم السياسي ولو إلى حين. لهدا السبب الأساسي نراها لا تسعى إلى تنظيم الانتخابات البلدية، لكن ترحب في صمت بتأجيلها أو إلغائها. بل إنني أزعم أنه لو حصل وانتظمت الانتخابات في موعد منظور فإن النهضة سوف لن تسعى للتفوق فيها وجلب الانتباه إلى نتائجها، حتى وإن تطلب منها الأمر عدم الترشح في كل الدوائر أو الاكتفاء بتسجيل مشاركة صورية تبقيها في صف الاهتمام الثاني.
تلك هي بعض أحكام السياسة التي قد لا تخضع إلى المنطق السليم.
خميــس الشايــب
إعلامـــي تونســـي
- اكتب تعليق
- تعليق