في بداية الفترة الحديثة وبحكم موقعها الجغرافي وجدت تونس نفسها في خضم الصراع التركي- الاسباني الذي ترك مكانه في الفترة المعاصرة للصراع الأوروبي -الأوروبي بين الدول الاستعمارية الصاعدة خاصّة فرنسا وانقلترا وبدرجة أقل ايطاليا وألمانيا.
في هذه الظرفية المضطربة والمتغيّرة شقت تونس طريقها نحو بناء كيان مستقل وحاولت المحافظة على هذا الكيان رغم الأزمات والحروب وعدم الاستقرار في الداخل والخارج. ومرّت علاقاتها الخارجية بثلاث مراحل كبرى مرحلة ما قبل 1881 أو مرحلة البحث عن الذات وبناء كيان تونسي مستقل ثم مرحلة الحماية الفرنسية وتواصل الدفاع عن الذاتية التونسية ثم مرحلة الاستقلال وهي مرحلة النضج وبناء الدولة المستقلة.
تونس دولة منفتحة على العالم
وقعّت تونس حتى 1956 مع الدولة الأجنبية خاصّة الغربية 101 معاهدة واتفاقية منها 68 اتفاقية ومعاهدة محفوظة بالأرشيف الوطني والبقية نعلم بوجودها وبنصوصها عن طريق مصادر أخرى. وقعت هذه المعاهدات مع اغلب دول أوروبا مثل فرنسا والممالك الايطالية ثم ايطاليا الموحدة وبريطانيا والبرتغال واسبانيا والنمسا والسويد .... إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية. وتثبت هذه المعاهدات انفتاح تونس وتنوع علاقتها الخارجية وتوازن تلك العلاقات.
كتبت المعاهدات بلغات مختلفة
- 26 معاهدة واتفاقية كتبت باللغة العصمانلية إلى جانب لغة أخرى (اسبانية أو ايطالية)
- 20 معاهدة واتفاقية استعملت فيها اللغة العربية وذلك بداية من 1839
- 10 معاهدات أو اتفاقيات استعملت فيها اللغة الاسبانية خاصّة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر
- 61 اتفاقية ومعاهدة استعملت فيها اللغة الفرنسية
- 25 اتفاقية ومعاهدة استعملت فيها اللغة الايطالية
- 09 معاهدات واتفاقيات استعملت فيها اللغة الانجليزية.
وقّع هذه المعاهدات والاتفاقيات حكام ايالة تونس وليس ممثلي الباب العالي وفي أغلب الأحيان دون الرجوع للباب العالي ممّا يطرح مسألة حقيقة العلاقة وحدودها بين تونس والدولة العثمانية
تونس والباب العالي
تراوحت العلاقة بين تونس والباب العالي بين المتانة والفتور وبين التبعية والاستقلالية. كان تضامن تونس مع اسطنبول تضامنا فعّالا ولامحدودا زمن الأزمات ولكن العكس لم يكن دائما صحيح. فعلى سبيل المثال والذكر ساهمت تونس في أواسط القرن السابع عشر في الإنزال العسكري التركي بجزيرة كريت بسفن حربية. وفي سنة 1827 دمّر الجزء الأهم من الأسطول التركي المصري بعد مهاجمته من قبل تحالف فرنسي-انكليزي- روسي وذلك على إثر السعي اليوناني للاستقلال، وهو سعي مدعوم من البلدان الغربية وروسيا. وفي سنة 1856 شاركت تونس مشاركة هامة في حرب القرم بشكل لا يتناسب مع إمكانياتها العسكرية حيث دفعت بما يقارب عشرة آلاف رجل إلى هذه المعركة قضى معظمهم واستقر عدد منهم بتركيا بعد انتهاء الحرب. وكان خير الدين مبعوث الباي إلى فرنسا قد باع مجوهرات للإعداد لهذه المشاركة إلى جانب الدولة العثمانية.
أما في خصوص الجنوح إلى الاستقلالية فإن عدد المؤشرات والوقائع تدعم هذا السعي. لقد أخد العلم التونسي ملامحه النهائية الحالية منذ حسين باي الثاني (حكم من 1824 إلى 1837) وهي راية تختلف عن الراية العثمانية وان كانت تشبهها. فإضافة إلى توقيع الاتفاقيات مع الدول الأجنبية دون الرجوع إلى الباب العالي فإن مسألة استعمال اللغة العربية والإحجام عن اللغة العصمانلية يعد أمرا بالغ الأهمية. ان الوثائق التي تم جمعها وحفظها عند إنشاء "خزنة حفظ مكاتيب الدولة" سنة 1874 من قبل الوزير الأكبر خير الدين والتي تهم مجمل ما أنتجته الإدارة حتى ذلك التاريخ كتبت في أغلبيتها الساحقة باللغة العربية. لقد قام المؤرخ روبارت منتران بجرد الوثائق التركية بأرشيف دار الباي المتعلق بفترة ما قبل 1881 فوجد أن عددها لا يتجاوز 1500 وثيقة و100 دفتر على مجموع يفوق 400 ألف وثيقة و15 ألف دفتر.1
وحتى في التراسل مع الباي العالي أصبح احمد باي منذ سنة 1838 يستعمل اللغة العربية. من جانب آخر استعملت العائلة الحسينية الحاكمة بتونس منذ 1710، وبشكل تدريجي وتصاعدي، عناصر تونسية محلية بالمدن وقبائل مخزنية بالأرياف لممارسة السلطة وبسط نفوذها على المستوى المركزي والمحلي ووتثبت الوثائق الإدارية والدفاتر المحفوظة بالأرشيف الوطني ذلك.فمنذ احمد باي ضعفت العلاقة مع الدول العثمانية وأصبحت تونس تتعامل مع الخارج كدولة مستقلة تماما إلى درجة أن احمد باي رفض العمل بالإصلاحات التي أقرتها اسطنبول سنة 1837 بل وأرسل أحمد ابن أبي الضياف إلى الباب العالي لإبلاغ هذا الرفض وشرحه.
وفي المقابل تمتنت علاقة تونس بأوروبا وخاصّة فرنسا التي زارها أحمد باي في بداية سنة 1846 وأعجب بنهضتها وقرّر النسج على منوالها. كما أقام خير الدين مبعوث للدولة التونسية بباريس بين 1853 و1856 للدفاع عن المصالح التونسية في القضية التي رفعتها تونس ضدّ محمود بن عياد الذي اختلس أموال الدولة وفرّ إلى أوروبا. وعاد خير الدين مرّة ثانية لأوروبا ممثلا الدولة التونسية بين 1863 و1867. كما أن محمد الصادق باي الذي تولى الحكم سنة 1859 سافر إلى الجزائر وتقابل مع نابليون الثالث سنة 1860.
بعد الاحتلال
أدت صعوبات الخزينة التونسية والصراع الغربي على المستعمرات إلى وقوع تونس تحت الحماية الفرنسية سنة 1881 وفقدت استقلالها فأصبحت مشمولات العلاقات الخارجية لتونس في يد فرنسا. لكن النخبة الوطنية رفضت ذلك وأصبحت الناطقة باسم المصالح التونسية. كان محمد باش حامبة خلال الحرب الكبرى من أبرز الناشطين في الحركة المعادية لفرنسا والموجودة في سويسرا وألمانيا حيث شارك في شهر جوان 1916 باسم تونس والجزائر في المؤتمر الثالث للقوميات المنعقد بمدينة لوزان وقد نظمه اتحاد القوميات العالمي وألقى فيه خطاب ندّد فيه بالسياسة الفرنسية الاستعمارية بتونس والجزائر. وفي جينيف أسس محمد باش حامبة "اللجنة الجزائرية التونسية لتحرير المغرب العربي" وبإسم هذه اللجنة وجّه تقريرا مفصّلا إلى مؤتمر الصلح المنعقد في فرنسا تحت عنوان "مطالب الشعب الجزائري التونسي وقد أمضاه كل من :
- الشيخ صالح الشريف- أستاذ سابق بالجامعة الزيتونية
- محمد الخضر بن حسين
- الشيخ محمد الشيبي التونسي
- محمد بيراز الجزائري
- حمدان بن علي الجزائري
- محمد باش حامبة
كما وجهت اللجنة برقية يوم 02 جانفي 1919 إلى الرئيس الامريكي ولسن تطالب فيها بحرية الشعبين التونسي والجزائري. أصدر محمد باش حامبة عدّة نشريات تدافع عن القضية التونسية- الجزائرية وخاصّة "مجلة المغرب" بجينيف. وكانت ردّة فعل فرنسا على نشاط الوطنين خارج تونس كان إصدار أمر علّي بحجز أملاك كلّ من:
- إسماعيل الصفايحي القاضي الحنفي السابق
- صالح الشريف المدرس السابق بجامع الزيتونة
- الطيب جميل أمين فلاحة سابق
- محمد باش حامبة حاكم سابق بالدربية
وتوفي محمد باش حامبة بالمنفى ببرلين سنة 1920 ودفن في مقبرتها الإسلامية. وفي نفس الظرفية برز نشاط النخبة الوطنية في تونس وفرنسا حيث تم إصدار كتاب تونس الشهيدة بباريس في 1920 حيث قام الشيخ عبد العزير الثعالبي بدور أساسي وفعال في إعدادا وبلورة الكتاب الذي حرّره أحمد السقا المحامي بباريس. وقد تم الاعتماد في صياغته على تقارير أعدّها الشباب التونسي بتونس. وحُوكم الثعالبي بعد رجوعه لتونس بسبب هذا الإصدار. ثم جاءت هجرة الشيخ الثعالبي إلى المشرق من 1923 إلى 1937 حيث قام بنشاط مكثف بالعديد من البلدان.
وفي الثلاثينات برز نشاط الطلبة التونسيين في "النجم الشمال إفريقي" وكذلك في "جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين" بباريس في أوساط الطلبة الونسيين والجزائريين والمغاربة ونشأ بين هؤلاء تلاحم وتضامن عظيمين.
النشاط الخارجي للوطنيين بعد الحرب العالمية الثانية
تميزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بالنشاط الحثيث للزعيم الحبيب بورقيبة . سافر بورقيبة إلى مصر في مارس 1945 أين تأسس مكتب المغرب العربي. وفي ديسمبر 1945 يسافر بورقيبة إلى نيويورك ثم يعود إليها في ديسمبر 1946. وفي أثناء هذه الزيارة وفي يوم 6 ديسمبر يلتقي الأمير فيصل وبالم دين اتشسون مساعد وزير الخارجية الأمريكي في حفل إقامة ممثلو الدول العربية لدى الأمم المتحدة على شرف فيصل. وفي 15 جانفي 1947 يلقي بورقيبة محاضرة عن قضية شمال إفريقيا بالنادي المشرقي بواشطن.
ثم تقابل من جديد مع اتشسون واندرسون رئيس شعبة الشرق الأدني والشمال الإفريقي بوزارة الخارجية الأمريكية الذين أصغيا لبياناته عن قضية تونس والمغرب العربي وكانت مقابلة رسمية وذلك يوم 23 جانفي 1947.عاد بورقيبة إلى القاهرة لمواصلة كفاحه وفي ديسمبر 1948 أسندت له خطّة الأمانة العامّة للجنة تحرير شمال إفريقيا التي يرأسها الشيخ الخضر حسين. وفي 13ديسمبر 1949 فجعت تونس بوفاة الدكتور الحبيب ثامر في حادث طائرة لما كان عائدا من لاهور إلى كراتشي حيث كان يمثل تونس في المؤتمر الاقتصادي الإسلامي.
في أفريل 1950 سافر بورقيبة إلى فرنسا وفي بداية شهر ماي 1950علّق بورقيبة وهو في باريس على خبر يتعلق بنية إحدى الدول العربية تقديم القضية التونسية على هيئة الأمم فقال:
"أن موقف الحزب الحر الدستوري التونسي لم يتغير، حيث مازال هذا الموقف يرتكز على مبدأ إجراء محادثات بين تونس وفرنسا مباشرة للوصول إلى استقلال لا تنقطع بسببه علائق الود والتعاون التي يقع الاتفاق عليها بكل حرية بين الطرفين".
وفي مارس 1951 : يسافر بورقيبة إلى الهند وباكستان . وفي 14 أفريل 1951: بورقيبة يخطب أمام البرلمان الأندنوسي. وفي17 جويلية 1951 بورقيبة يتحول إلى أوروبا حيث حضر الندوة السنوية للنقابات الحرّة CISL بمدينة ميلانو.
- وفي 24 جويلية تم استقباله بمقر البرلمان الأنقليزي من طرف كتلة حزب العمّال.
- وفي بداية أوت قام بجولة دعائية إلى البلدان السكندنافية ثم عاد إلى لندن في 21 من نفس الشهر
- في7 سبتمبر 1951 يحل بالولايات المتحدة ويقوم صحبة فرحات حشاد بالدعاية للقضية التونسية أين تم استقباله صحبة حشاد من طرف أعضاء من الكونغرس الأمريكي.
- في 25 أكتوبر 1951 يصل بورقيبة إلى مدريد ثم ينتقل إلى طنجة (01 نوفمبر) تليها روما (05 نوفمبر) وفي 01 ديسمبر ينتقل بورقيبة إلى تركيا ومنها إلى القاهرة.
- وفي 15 ديسمبر 1951 صدرت المذكرة الفرنسية الموجهة للباي معلنة عن فشل المفاوضات وفي 23 ديسمبر يصرح بورقيبة من باريس "لم يبق أمام الشعب إلا الأمم المتحدة ووسائله الخاصة لخوض معركة المصير". وفي 02 جانفي 1952 يعود بورقيبة إلى تونس.
- وفي 18 جانفي يبعد بورقيبة والمنجي سليم إلى طبرقة ثم إلى رمادة ثم إلى جزيرة جالطة أين بقي عامين وفي 26 مارس تمت إقالة حكومة محمد شنيق وإبعاد أعضائها إلى الجنوب
- في 04 ديسمبر 1952 بدأت مناقشة القضية التونسية في الأمم المتحدة
- في 05 ديسمبر يتم اغتيال فرحات حشاد
- في 06 ديسمبر صادقت الأمم المتحدة على قرار يدعو الطرفين التونسي والفرنسي للتفاوض. وبعد أشهر عديدة وفي 20 أكتوبر 1953 بدأت مناقشة القضية التونسية في المنتظم الأممي وطالبت الكتلة العربية الآسيوية باستقلال تونس على مراحل تتم على 3 سنوات. كما صادقت المنظمة الأمميّة على لائحة تطالب بتعيين حكومة تونسية مسؤولة عن طريق برلمان منتخب انتخابا حرّا. وتتولى هذه الحكومة التفاوض مع فرنسا.
- وفي 20 ماي 1954 نقل بورقيبة من جالطة إلى قروا على سواحل مقاطعة بريطانيا الفرنسية وفي17 جويلية 1954 نقل من جزيرة قروا إلى قصر لافيرتي على بعد 110 كلم من باريس وشرعت فرنسا في التفاوض معه عن طريق احد قادة الحزب الاشتراكي.
- وفي 31 جويلية 1954 جاء تصريح بيار منداس فرانس أمام الباي واقراره مبدأ الحكم الذاتي لتونس
وبدأت المفاوضات، فتكوّنت حكومة الطاهر بن عمار وتم الحصول على الاستقلال الداخلي في 03 جوان 1955. وفي 29 فيفري 1956 بدأت المفاوضات من أجل الاستقلال التام التي قادها كل من:
- الطاهر بن عمار
- الباهي الأدغم، كاهية رئيس الحكومة –وزير المالية
- المنجي سليم وزير الداخلية
- محمد المصمودي وزير الاقتصاد
وتم توقيع وثيقة الإستقلال التام لتونس في 20 مارس 1956.
استرجاع السيادة وبناء دولة الاستقلال: دور هام للديبلوماسية التونسية
فتح الإستقلال مجالا واسعا للدبلوماسية التونسية التي رفعت راية الدفاع عن المصالح التونسية ومبادئ العدل والمساواة والتحرر من الإستعماروالميز العنصري. ففي 26 جويلية 1956 أوصى مجلس الأمن بقبول تونس عضوا بالامم المتحدة.
وفي16 أوت 1956 أعلنت تونس تضامنها مع مصر وتأييد حقها في تأميم قناة السويس وأعلن الشعب التونسي اضرابا تضامنيا.
وفي 22 أكتوبر 1956 حل محمد الخامس ملك المغرب بتونس لحضور ندوة توحيد المغرب العربي وفي مساء نفس اليوم وقع تحويل وجهة الطائرة إلى تقل قادة جبهة التحرير الجزائرية من قبل قائد الطائرة وطاقمها وتم انزالها بمطار الجزائر تم افشال انعقاد الندوة وكان رد فعل تونس يتمثل في تحديد تحركات الجيش الفرنسي وإستقدام السفير التونسي من فرنسا وإعلان الإضراب العام.
وصرّح بورقيبة أن حادث القرصنة قد يؤدي بتونس والمغرب إلى المساهمة المباشرة في حرب التحرير الجزائرية. وفي الواقع كانت الإعتداءات الفرنسية على الحدود التونسية متكررة ولا تتوقف. ورغم انعكاسات الأزمة بالجزائر فإن تونس كانت توسع علاقاتها ويزداد إشعاعها. ففي 12 نوفمبر 1956 صادقت الجمعية العامّة للأمم المتحدة على قبول تونس عضوا بها. وفي 22 نوفمبر 1956 بورقيبة يلقي خطابا من على منبر الجمعية العامة ثم يقابل الرئيس إبزنهاور وعدّة قادة.
في 06 جانفي 1957 وقع بورقيبة ومصطفى بن حليم رئيس الحكومة الليبية معاهدة الإخاء والتعاون وحسن الجوار بين تونس وليبيا. في 21 فيفري 1957 بدأت زيارة الملك سعود بن عبد العزيز إلى تونس.
وفي 03 مارس 1957 يسافر بورقيبة إلى أكرا لحضور احتفالات عيد استقلال غانا.
في 18 مارس يحل نائب الرئيس الامريكي نكسون بتونس .
وفي 20 مارس 1956 تحتفل تونس بالذكرى الأولى للاستقلال وكانت هذه الاحتفالات حدثا ديبلوماسيا عظيما ساهمت فيه وفود 65 دولة من أهمها:
- نائب الرئيس الأمريكي نكسون
- الأمير فيصل من المملكة السعودية
- فرانسوا ميتران وزير العدل الفرنسي
- حسين الشافعي وزير الشؤون الإجتماعية عن مصر
أرسلت كل من المغرب ولبنان رئيسي حكومتيهما أما سورياو ايطالياو بريطانيا فقد أرسلت وزراء لتمثيلها مثل الاتحاد السوفياتي رئيس المحكمة العليا ومثل المارشال دون أوغستان كراندس اسبانيا.
وإبان اعتداء ساقية سيدي يوسف في 08 فيفري 1958 ازداد توتر العلاقة مع فرنسا.
وفي 13 مارس 1958 يقول بورقيبة في خطابه الاسبوعي "آن الأوان لأ مريكا أن تختار بين مؤازرتها للشعوب المتطلعة للحرية أو مؤازرتها للاستعمار"
وفي 23 مارس 1958 في تصريح ل س– ب-س الأمريكية : "إن السلام لن يستقرفي شمال افريقيا وأن العلاقات بين فرنسا وبين شعوب هذه المنطقة لن تعود إلى مجراها العادي إلاّ إذا أقرت فرنسا مبدأ استقلال الجزائر".
وفي نهاية أفريل 1958 شاركت تونس في مؤتمر طنجة لتوحيد المغرب العربي الذي أقرمبدأ تحقيق الوحدة الفيدرالية بين أقطار الشمال الإفريقي والعمل على استقلال الجزائر
وتم الانضمام للجامعة العربية في 01 أكتوبر 1958وكانت تونس قد تقدمت بالطلب يوم 30 سبتمبر وفي 8 أكتوبر 1958 انتخبت تونس عضو في مجلس الامن الدولي.
استقلالية القرار الوطني التونسي
في 13 نوفمبر 1958 أعلن بورقيبة إعتناق تونس مبدأ عدم الانحياز وقرار الحكومة شراء الاسلحة من اسبانيا ويوغسلافيا وتشيكسلوفاكيا بعد فشل مساعي شرائها من أمريكا وبريطانيا.
وبالفعل كانت مصالح تونس وقضايا العرب العادلة هي المحدّدة في موافقه فقد وقف بورقيبة موقفا صارما تجاه الولايات المتحدة الأمريكية عند اجتياحا اسرائيل للبنان 1982 وعند قصفها لحمام الشط سنة 1985.
نعت بورقيبة من قبل "اخوانه العرب" بأنه رجع الغرب ورجل أمريكا لكنه لم يكن كذلك بل لعلّه أقلهم تورّطا في الموالاة لهذا الطرف أو ذلك وأكثرهم حرصا على استقلالية القرار الوطني. كان يعتقد أن موقع تونس الجغرافي ومصالحها العليا تحتم عليها الإرتباط بأوروبا وخاصّة أوروبا الغريبة بأكبر قدر ممكن دون السقوط في معاداة المجموعة السوفياتية. وبالفعل كانت لتونس علاقات واتفاقات مع دول الكتلة الشرقية منها ما كان متميزا مثل تلك التي ربطتها مع دول بلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا. كما كانت تونس من أوّل الدول التي اعترفت بالصين الشيوعيّة.
وفي هذا السياق كان الإنتماء للفضاء الفرنكفوني وسيلة لكسر الإحتكار اللغوي والثقافي الذي تمارسه فرنسا لأن هذه اللغة نافذة على العالم وهي ملك لبلدان أخرى لنا معها مصالح مثل كندا وبلجيكا وسويسرا وعديد البلدان الإفريقية.
تونس وحركات التحرّر ومناهضة الميز العنصري
أبدت تونس تعاونا وتضامنا فعالا وبناءا ومتواصلا مع حركات التحرر عموما وحركة التحرّر الجزائرية بالأخصّ وكان لبورقيبة موافق مشرفة من هذه القضية حيث دعى في رسالة إلى مسالي الحاج بتاريخ 22 جانفي 1959 قال له بأن التاريخ يحفظ أنّك أب الوطنية الجزائرية وعبّر له عن أسفه بأن يتم تجمّع الجزائريين وتوحدهم من أجل استقلالهم بدون مسالي الحاج وربّما ضدّه.
وكان قبل ذلك بسنوات عديدة وفي رسالة بتاريخ 29 جويلية 1946 وجهها لفرحات عباس طالبه فيها بالإلتحام بمسالي الحاج وبحزب الشعب الجزائري لأن في ذلك نجاة الشعب الجزائري. وأن يبتعد عن وهم "الإتحاد الفرنسي" لأن ذلك مناورة من المناورات الإستعمارية ليس إلاّ.
ورغم التضامن الفعال الذي أبدته تونس مع الجزائر إلا أن بن بلة الذي فرضه جيش التحرير بالخارج ضدّ إرادة الحكومة الجزائرية المؤقتة أراد بالإتفاق مع صالح بن يوسف وعبد الناصر أن لا تتفاوض تونس حول استقلالها سنتي 1955و1956 وأن تواصل القتال مع الجزائر.
وكانت رؤية بورقيبة ترى الحل الأمثل في أن إستقلال تونس يتيح وجود حكومة تونسية غر منخرطة في الحرب رسميا ولكنها تساند الجزائريين بشكل فعال وهو ما تمّ بالفعل. وكان أعضاء الحكومة الجزائرية المؤقتة وأعون بذلك وكان هؤلاء أصدقاء لتونس ولبورقيبة. وفي وقت لاحق بعد استقلال الجزائر تخلت تونس عن مطالبها المتعلقة بالنقطة 233 وأمضت اتفاقية ترسيم الحدود مع الجزائر في 06 جانفي 1970.
كما وقفت تونس موقفا مبدئيا وحازما ضدّ الميز العنصري في جنوب افريقيا وساندت سياسيا وماديا المناضلين ضدّ هذا الميز وعلى رأسهم نلسن مندلا. وفي اطار هذه الرؤيا الشاملة للعلاقات بين الدول وبعلاقة بمسألة الإستعمار وحركات التحرّر تتنزّل موافق بورقيبة من قضية فلسطين منذ ثلاثينات القرن العشرين.
تونس والقضية الفلسطينية
فمنذ سنة 1937 أصدر مؤتمر الحزب الحر الدستوري التونسي (الجديد) في جلسته الختامية وبتاريخ 02 نوفمبر 1937 بيانا عبّر فيه عن تضامن الشعب التونسي الفعّال مع الشعب الفلسطيني في جهاده التحريري وفي 04 مارس 1946 كان لبورقيبة دور أساسي في اعداد مذكرة بلدان المغرب العربي (ليبياـ تونس الجزائر والمغرب) إلى اللجنة الأنجلو- أمريكية المكلفة بالتحقيق في القضية الفلسطينية.
وقد أتت هذه المذكرة على المبادئ والأفكار التالية :
- فضح النوايا الاستعمارية للحركة الصهيونية،
- تضامن المغرب مع المشرق،
- الأثر المدمّر للدعاية الصهيونية على العلاقة بين الجالية اليهودية والمسلمين بشمال افريقيا
- ما يحدث بفلسطين استعمار استيطاني على غرار ماحدث بشمال افريقيا،
- ما أتته الصهيونية من شطط هو الذي تسبب بقسط وافر في ويلات اليهود، شأنها شأن الزعماء النازيين،
- حل القضية اليهودية ليس في فلسطين، انه في أوروبا وذلك برفع الظلم والاضطهاد عن اليهود بها.
وقد شارك في اعداد هذه المذكرة كل من :
- الحبيب بورقيبة – تونس،
- عمر الغولى - طرابلس،
- الشاذلي المكي- حزب الشعب الجزائري،
- أحمد المليح – حزب الاستقلال المغربي.
في ندوة صحفية بنيويورك (13 ماي 1961) وفي حديث عن القضية الفلسطينية أكد بورقيبة على "أن الأمر يتعلق بمسألة استعمارية، استعمار من نوع جديد ليست هيمنة شعب على شعب بل إحلال شعب مكان شعب آخر. فرنسا حاولت فرض أمر مشابه على الجزائر وبعد 130 سنة فشلت." وأضاف "أن العرب فرضت عليهم ظروف لا تختلف عن التي كان فيها اليهود أثناء الحرب العالمية الأخيرة.فالمشكل يتمثل اذا في وجود اسرائيل ويوم يتسنى للعرب ولليهود النازحين من أوروبا أن يلتقو وجها لوجه في ذلك اليوم ربما يمكن الحديث عن حل أو عن مفاوضات. هذه مظلمة وكان يتعين وضع حدّ لآلام شعب اسرائيل وبؤسه وتقتيله يكون مغايرا للحل الذي اختير وهو .. دولة اسرائيل على أرض يعيش فيها سكانها منذ قرون بحجّة أن الحياة أصبحت مستحيلة بالنسبة لليهود في ألمانيا والنمسا." "هناك مظلمة نتألم منها مثلما نتألم لو اختير عوضا عن فلسطين قطر آخر مثلا ليطرد منه سكانه ويحل محلهم سكان آخرون."
وفي مؤتمر القمة العربي الأول في 16 جانفي 1964 بالقاهرة أكّد "أن القضية الفلسطينية ليست قضية العرب وحدهم هي احدى قضايا العصر واحدى قضايا الانسانية عامة. وأضاف أن هناك اعتقاد ضال بأن ما نزل باليهود يمكن جبره بالقهر وبسفك الدماء وتشريد الأبرياء. إن قضية فلسطين قضية لا تختلف عن قضية الأفارقة بجنوب افريقيا فهي قضية استعمارية. فمنذ 1948 أصبحت الدول العربية لا شغل لها إلا تحرير فلسطين ولم تفلح في ذلك وليس من المعقول أن تفلح إذا هي أصرّت على اعتبار أن سبيل تحرير فلسطين هي الحرب الكلاسيكية. يجب أن نضع المشكل في إطاره الحقيقي وهو فلسطين وأن نعمل على بعث حركة المقاومة وأن نغذّيها بصورة مستمرة فعالة وأن نحتضنها كلفنا ذلك ما كلفنا من تضحيات لكن محور المقاومة يجب أن يكون في فلسطين، فالعبرة ليست بكثرة العدد أو ضخامة العدّة ثم ينبغي أن يصير المشكل يشغل العالم بأسره والدول لا تهتمّ بالقضايا العادلة إلا بقدر ما تحتد الأزمات."
وذكر أن سنوات 1952، 1953و 1954كانت تونس البلد الافريقي الوحيد الذي قاوم الاستعمار بمجموعات مسلّحة من المقاتلين الواعين. واضرموا حربا لم يكفوا عنها إلاّ بأمر من القيادة الحزبية. لذا على الفلسطينيين أن يقوموا بالدور الرئيسي وأن يقوم العرب بواجباتهم بصدق واخلاص كلّفنا ذلك ما كلّفنا مثلما فعلت تونس مع الجزائر رغم الإعتداءات الدامية والمتكرّرة. فقد وفّرت تونس للجزائر خطوط الرجعة مضمونة ومفتوحة. يجب اخراج القضية إلى طور حاسم وطرحها على الضمير العالمي لأنها قضية جوهرها التعدّي بالقوة والقهر على شعب أعزل آمن في عقر داره. وأضاف "علينا أن نقتنع أن هذا الكفاح سوف يطول وسوف يكون عسيرا وسوف يكون حتما على مراحل". "والظروف على ماهي عليه لا يمكن أن نصل إلى الهدف مباشرة وإذا فكرنا في الظفر بالحل الكامل دفعة واحدة نكون قد تجاهلنا الواقع وحدنا عن الطرق الناجعة. وليس هناك طريقة ناجعة غير طريقة المراحل وهي لا تعنى التخلّي عن الهدف أو الرضى بأمور تافهة نضفي عليها لقب المراحل. بل أن طريقة المراحل الايجابية الثورية أشبه ما تكون بالخطة الحربية التي ترمي إلى احتلال المراكز الحساسة التي تساعد على مواصلة السير والتوغل في الميدان والاقتراب أكثر فأكثر من الغاية القصوى."
"لا بد من التمييز بين الحلول المنقوصة الايجابية الثورية التي تساعد على السير وتزيد من قوّة الكفاح وبين الحلول المغشوشة التي تعرقل السير وتوصد الأبواب وتزيغ بالكفاح عن الطرق النافذة.
ليس هناك صلة بين هذه الطريقة والسلوك الذي عرف بمبدأ "خذ وطالب" والذي فيه ما لا يخفي من معاني الاستكانة والتسول والرضى بأي شئ". "إن اختيارطريقة في الكفاح مجازفة وشبه مراهنة على الأحداث وليست الأحداث دوما طوع اليد ولكن يجب على المسؤول أن يرضى بعبئ المسؤولية وما ينجرّ عنها من أخطار لشخصه وسمعته."
وفي 18 جويلية 1964(الندوة الثانية لمنظمة الوحدة الافرقية بالقاهرة). انتقد بورقيبة تعاون بعض الدول الافريقية مع إسرائيل فهذا التعاون لا يساعد على تحقيق الوحدة الافريقية وأبرز تناقض في موقف بعض دول افريقية من الاستعمار داخل القاّرة وخارجها (فلسطين) وكذلك عاد بالقضية الفلسطينية إلى اتفاقية سان ريمو 1920 وإلى الانتداب البريطاني وفضح الدعايات الخادعة الغربية والصهيونية وقال "اقيمت دولة على انقاض العدالة وحقوق الانسان، شرد شعب من دياره وحكم عليه بأن يعيش حياة الذل والشقاء في الغربة والالتجاء والذين بقوا كتبت عليهم حياة الضيم والاعتساف لا تختلف في جوهرها عن حياة الافريقيين في جنوب افريقيا".
وفي 03 مارس 1965 وأمام اللاجئين الفلسطينيين بأريحا ألقى الرئيس الحبيب بورقيبة كلمة لخّص فيها رؤيته للقضية الفلسطينية وإلى ما تردت فيه وأبرز ما قاله :
- "العاطفة والمشاعر لا تكفيان للإنتصار على الإستعمار رغم انهما ضروريان"
- اصحاب الحق يجب أن يكونوا في الطليعة
- لا بدّ من قيادة حكيمة توفر أسباب النّجاح والزعيم المسؤول على نجاح المعركة عليه أن يتثبت في الطريق وأن يختار المسالك وإذا تبين أن الخط المستقيم لا يؤدّي إلى الهدف عليه أن يسلك سواه.
- إذا كان المكافحون على استعداد للبذل والحماس بينما الإنتصار بعيد المنال رغم الجهود فإن مرجع العلّة يعود إلى القيادة دون ريب.
- الدعوة إلى تحكيم العقل والإعتراف بأن المعركة ليست يسيرة لذلك وجب الإبتعاد عن سيادة الكلّ أو لا شيئ فهي سياسة لا تجرّ إلاّ للهزائم لأن تجزئة الكفاح إلى مراحل يسهّل على العدو قبول التنازلات.
وفي ختام كلمته قال بورقيبة " أناشدكم الأخذ بهذه النصائح والأفكار" حتى لا نظل بعد سبعة عشر عاما أخرى أو عشرين أو مائة نردد بدون جدوى أغاني العودة والوطن السليب، ذلك أن كفاحنا إذا اقتصر أمره على العاطفة الملتهبة فحسب فإننا سنبقى على هذه الحال قرونا وقرونا. "
خلاصة القول
كان الهدف الأسمى للدبلوماسية التونسية قبل الاستقلال وبعده هي مصالح تونس وسيادتها وسمعتها وبورقيبة بمواقفه وخطبه وزياراته ومبادراته أعطى للسياسة الخارجية التونسية بعدا وثقلا تجاوزا حجم تونس وحدودها. ففي منظور بورقيبة السياسة الخارجية وسيلة اضافية لبناء تونس وتدعيم حضورها الدولي.
- كان في توجهاته لا يعترف بالمسلمات والأفكار المسبقة حيث قبل عدم الانحياز وشارك في مؤتمر بلغراد سنة 1961 صحبة تيتو وعبد الناصر وفي ماي 1963 ساهم في تأسيس منظمة الوحدة الافريقية
- وضّح بورقيبة موقفه من السياسة الدولية ومن الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي في مناسبات عديدة. ففي جريدة le Monde Diplomatique في حوار مع Jean lacouture في ماي 1969.
قال "إن السلم يبنى إما على العدل أو توازن القوى. وقال أنه عاش حربين عالميتين اسبابها اانخرام موازين القوى."
وفي خصوص الصراع الأمريكي السوفياتي قال: "لا بدّ من التعاطي مع هذا الصراع بكثير من الحكمة والتروي والمرونة." وكان يري أن الاتحاد السوفياتي المعتمد على نظرية السيادة المحدودة للدولة الاستراكية الحليفة له أشدّ خطورة على استقلالية القرار الوطني من الكتلة الغربية (وهذا الأمرأكدته الوقائع في براغ وفي بودابست و في أفغانستان وماعانته الكتلة الشرقية عموما). كما ذكر أن في البحر الأبيض المتوسط هناك دول صغيرة تريد الهيمنة على دول أصغر منها. لقد كانت مصالح تونس وقضايا العرب وافريقيا العادلة هي المحدّدة في مواقف دولة الاستقلال الخارجية.
Mantran (Robert) : Inventaire des documents d’archives Turcs à Dar El Bey (Tunis). Puf- 1961-1
د. الهادي جلاب
المدير العام للأرشيف الوطني