جذور الانتفاضة الليبية
يبرهن الباحث التونسي الخبير في الشؤون الليبية رافع طبيب في كتابه الجديد «ناقة الله وسُقياها... في جذور الفوضى الليبية»* الصادر مؤخرا بالفرنسية (155 صفحة) على مقت معمر القذافي لأيّة محاولة لمأْسسة الدولة في ليبيا أو تحديث المجتمع. ويسعى المؤلف إلى قراءة الأسباب الاجتماعية والسياسية التي قادت إلى انتفاضة شاملة بعد 42 عاما من الحكم المطلق الذي كتم أنفاس المجتمع باسم «الثورة»، مُستعينا بالخبرة الميدانية التي راكمها على مدى عشرين سنة منذ إعداد رسالة الدكتورا التي كتبها عن منطقة جفـارة، الواقعــة على الحدود بين تونس وليبيا.
يُفكك رافع طبيب النظام السياسي الذي أقامه القذافي والمُعتمد بالأساس على الدولة الريعية، أي استخدام عائدات النفط والغاز لضخ الرشوة السياسية التي تضمن الولاء للسلطة القائمة. ويُوضح كيف قضى على الدور السياسي التقليدي للقبائل وقوّض نسيجها الاجتماعي، ليُحوّلها إلى أداة لإدارة الصراعات ومجـرد وسيـط بين النظام والشعب. وبذلك أحدث ما يمكن تسميته بـ«أزمة مؤسسات» دائمة ومُركّبة حالت دون تحقيق أي نوع من التحديث الاجتماعي أو السياسي. فقد كان رؤساء القبائل هم المسؤولون عن تصرفات أبناء القبيلة، يُراقبون حركاتهم ويسهــرون على ألا ينضــمّوا إلى صفـوف المعارضـة. وعلى عكس القبائل المقربة كانت القبائل الأخرى عُرضة للتضييقات والاستفزازات من «اللجان الثورية». ولم ينتبه القذافي، بحسب رافع طبيب، إلى التّحوّلات التي غزت المجتمع الليبي بفعل تيارات العـولمة التي كانـت تهب عليهـا، ما جعل القبيلة تبدو، مع بواكير هذه الألفية، كما لو أنها الحصنُ الأخير الذي يُحافظ على الجماعة والفرد في آن معا. ويعتقد المؤلف أن المحافظة على الهويات القبلية كانت مفيدة لأولئك الذين نجحوا، بفضل التحالف مع «القائد»، في تحصيل قسم من العطايا والهبات، ولكن استفاد منها أيضا أولئك الذين كانوا يُعانون من التهميش. ففي الوقت الذي قصّر فيه القذافي في توزيع الريع النفطي على الشبكات القبلية الموالية له، اضطرت قطاعات واسعة من الليبيين المُستبعدين من العطـاء إلى الالتحاق بشبكات التجارة الموازية، حيث برزوا بحنكتهم في التهريب وكل أنواع التحايل على القوانين.
واستطاع القذافي خلال العقود الثلاثة الأولى من حكمه (1969 - 2011) بفضل الريع النفطي، أن يُحصي أنفاس المجتمع ويستخدم العنف ضد خصومه، من دون أن يُثير ذلك التّسلّط انتقادات أو مقاومة للنظام. غير أن استمرار تلك القبضة الحديدية بعد رفع العقوبات الدولية عن ليبيا في مطلع الألفية الحالية وترسيخ احتكاره لمصادر الثروة وللقوة القاهرة، ولَدا انتفاضات مُجهضة وأحقادا قبلية ونزوعا إلى الثأر الأعمى، مع تضخّم الفساد على نطاق واسع. وفي هذا المناخ استطاع أبناء القبائل المُستبعدة من سخاء «القائد» أن تنشئ فضاءات اقتصادية شبه مستقلة بعيدا عن مجال تدخّل السلطات، تقع في الأحياء الحزامية الفقيرة، ومن عمق تلك الفضاءات المُهمّشة اندلع التمـرّد السيـــاسي في سنة 2011، الذي قاد إلى الإطاحة بالجماهيرية.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق