زعامة المرأة في الإسلام المبكّر: بين الخطاب العالِم والخطاب الشعبي
ذهبت صاحبة الكتاب ناجية الوريمي بوعجيلة، أستاذة الحضارة العربية الإسلامية بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية - جامعة تونس المنار- بعيدا في الغوص في الخطاب التاريخي الرسمي الذي اهتم بمسألة الزعامات النسائية خلال الفترة الاسلامية الأولى، من خلال استعراض استقصائي تحليلي لبعض التجارب النسائية في سياقات مختلفة، مركزة على جوانب من سيرة ثلاث نـساء وقصصهن، نجد لهن ذكرا ضافـــيا في كثير من المراجع، وضمن مدوّنات المؤرخين العـرب الأوائـل.
سجاح وعائشة والكاهنة
يتعلّق الأمر بسجاح التي قامت بدور لافت في قيادة قومها بغرض تبوُّءِ موقع في خارطة القبائل المتنافسة على زعامة الجزيرة العربية في الإسلام المبكر؛ وأم المؤمنين عائشة - المرأة المرتدة - زوج الرسول وقائدة التمرد الشهير على ابن عم النبي علي بن أبي طالب، وأحد أبرز الوجوه في الصراع السياسي بين الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان وأنصاره، وأميـر المؤمنين علي بن أبي طالب وأنصاره، وحضورها الفاعل في واقعة «الجَمَل» الشهيرة (36 هجري) في صَفِّ أعداء علي من منطلق ثورتها «من أجل دم عثمان»؛ وكذلك القائدة البربرية ذائعة السيط، والكاهنة التي واجهت جيش المسلمين «الفاتِح»، والتي تمثل نموذجا آخر من الزعامات النسائية يختلف عن دور سجاح الزعيمة العربية، وعن دور عـائشة الزعيمة المسلمة.
ما خص الله به الرجال دون النساء
في استعراضها لهذه الزعامات العربية والبربرية النسائية التي علا نجمها في سماء الإسلام المبكر، تناولت ناجية الوريمي «الخطاب التاريخي الرسمي» بالتحليل المعمّق، كاشفة بالخصوص مقاصده الأصلية المتمثّلة في إعلاء شأن الـقيم التي انتشــرت في الجزيرة العربية في سياق الدعوة المحمدية والفتح الإسلامي وفي تكريس ثقافة ناشئة بقوة، وقائمة على «تشذيب حقائق الماضي» ومعطياته (انظر مقدمة الكتاب) وتُحَوِّلُهُ إلى مَعين تستمد منه مشروعيَّة وحُجَجا تضفي عليها صفة الواقعية و« التاريخية». ومن أبرز معالم هذه الثقافة المقترنة بالسلطة والرائجة في تلك العهود على نطاق واسع، رفْضُ الاعتراف للمرأة بأي شكل من أشكال الزعامة والريــادة والقيادة وتقديمـــها في صورة الأنثى الخاضعة، الخافضة الطرف أمام الرجل الفحل، قدَرُها المحتوم أن تكون أنثى دائبة على إشباع غريزتها الجنسية الملتهبة، ’’ فاشلة عسكريا، غانمة جنسيا’’، غير مؤهلة لتولي الوظائف العامة، وذلك على خلفية قراءة متزمِّتة ومتشددة وضيّقة ظلّت طاغية على المنظومة الفقهية التي استقرّت لاحقا والتي يسعى المؤرخ الفقيه أو «الخطاب العالِم»، كما تقول المؤلفة، إلى الاستدلال الدائم على صحتها استنــادا إلى ما يُجْمِعُ فقهاء الإسلام بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم المذهبية على عدم أحقِّيَّة المرأة في مشاركة الرجل المسلم في جملة من الأمور والمهام «الجليلة» كالإمامة والقَوامة والجهاد الخ. وهي مسائل يقولون إنّ الله خصّ بها الرجال دون النساء بما فضل بعض المؤمنين على بعض. من ذلك أن العبادات التي تحتاج إلى قوة وجسارة ومخاتلة كالجهـاد، أو إلى ولاية كالإمامة، أو إلى الكسب وإتيان الرزق كالقَـوامة... تبقى جميعا من خصائص الرجال وحدهم . ويستدلون على ذلك بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال ينسبونها إلى بعض الإئمة والفقهاء والمفسّرين وأصحاب الكلام، وجلها تشوبه الشّبهات ولم يثبت فيه إجماع على حدّ قول بعض الشراح والأيمة
استشهادات مجــــانبة للموضوعيّة
لكن معظم هذه الاستشهادات التي فيها تقزيم وانتقاص للمرأة وحطّ من شأنها وإجحاف في حقّها وِفْقَ منظور سلطوي ذكوري، والتي ظل الخطاب العالِم متشبّثا بها، نجد لها في أكثر من مصدر ما يدحضها ويؤكد مجانبتها للموضوعية وبعدها عن الحقيقة، ولا تبدو المرأة فيها ذلك الكائن الضعيف والمستكين والمهوس بإشباع غريزته الجنسيّة، والمكره شرعا على الانزواء في البيت، وملازمة الخدور، والمجبول على المكر والغدر... فهذه هـند أم معاوية ابن أبي سفيان لا تتردّد عن إسداء النصح لابنها غـداة تعيينه واليا على الشام بأمر من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ودعوتها له بالعمل بما يرضي الخليفة ويوافق أوامره « أحب أم كره » ( العقد الفريد لابن عبد ربه، ج. 1، ص. 28 - دار إحياء التراث العربي )... وهذه سـودة بنت عمارة بن الأشتـر الهمدانية تفد على معاوية ابن أبي سفيان وتدخل عليه في مجلس حكمه تشكوه جوْر أحد الولاة على قومها وتَعَمُّدَه قتل رجالهم وأخذ مالهم على غير وجه حقّ، وتطلب من الخليفة الأمر بعزله، مهددة باستثارة قومها عليه وتأليب القبائل ضده إن لم يفعل... وتصر على موقفها الذي أثار حفيظة معاوية وغضبه، ولم تغادر المجلس حتى أخذت من معاوية عهدا مكتوبا ينصفها ويقضي حاجتها ( نفس المصدر، ص. 334) ... وها هو أبو الفرج الإصفهاني يروي لنا في كتاب الأغاني قصة عائشة بنت طلحة بنت أم كلثوم، بنت أبي بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين عائشة لا تستر وجهها من أحد، يُعاتبُهَا زوجها مُصْعَب في ذلك، فترُدّ العتاب قائلة: «إن الله تبارك وتعالى وَسَمَنِي بًمَيْسَمِ جمال أحببت أن يراه الناس، ويعرفوا فضلي عليهم، فما كنت لأَسْترُه، ووالله ما فيَّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد...»
لسن مجرّد نشاز ومجرّد أنثوات
ترى هـل أن سجاح وعائشة والكاهنة... وهل سودة بنت عمارة وعائشة بنت طلحة وغيرهن من نساء كثيرات تبوّأن في عهود الإسلام الأولى مراكز قيادية على جبهات القتال، وكنّ بحـق زعيمات ورائدات لهن مكانة بارزة في أقوامهن وبين أتباعهن وأثّرن في مجرى الأحداث أثناء الحروب بتمكنهنّ من أمور القيادة، وكسبن الانتصارات مرات، ومني بعضهن بهزائم... هل هؤلاء السيدات مجرد نشاز ومجرد أنثوات ملازمات خدور وبيوت، قاصرات بطبعهن عن منافسة الرجال، كما توحي بذلك روايـــــات كثيــرة وردت في كتب التاريخ يراد بها ـ كما ترى المؤلفـة ص. 39 ـ ’’ القضاء على النشاز الذي يمكن أن يأتي من وقــــائع الماضي، والمتمـــــثل في الفاعلية الاجتماعية للمرأة من خلال زعامتها أو ’’ إمامتها ’’؟
خطاب تاريخي شعبي يمجّـد زعامة المرأة
في كتاب الأستاذة ناجية الوريمي ما يقابل هذا الخطاب العالِم في مسألة أحقيّة المرأة في القيادة والزعامة وما يخالفه ويناهضه مضمونا ومقصدا، وذلك في إطار « رؤًى» مثلتها خطابات تاريخية غير عالِمة وغير خاضعة للتوجيه الدلالي للرقابة، وهي الخطابات التاريخية الشعبية بكل ما تمثله من ثقافة شفوية كانت متداولة في مجالس القصّ والمنتديات ووجدت طريقا إلى التدوين في كتابات مصنّفة وفق معايير «العلماء» ضمن «غير العلمي «والموضوع» أو «المكذوب»، و«ما يحَذَّرُ من الاطلاع عليه»، كما تقول المؤلفة في الباب الثالث والأخير من الكتاب.
تناول هذا الباب الأخير بشيء من الإطناب والاستقصاء بطولة المرأة وزعامتها في هذا الخطاب التاريخي الشعبي الذي يمجد زعامة المرأة في النظام الاجتماعي من خلال تصوّرات تاريخية وأسطورية خيالية مختلفة مستدلة على ذلك بكتب «الفتوحات» المنسوبة إلى محمد بن عمر الواقدي ( 130 هـ ـ 207 هـ )، والتي تعتبرها ناجية الوريمي « نتاجا للرواية الشعبية للتاريخ؛ أي أنها من قبيل: «الشفوي المكتوب»، ومغايرة بشكل كبير لكتب التاريخ الرسمية من حيث تصوّرها الاجتماعي لزعامة المرأة...»
المرأة في الإسلام المبكّر وفي القرن الحادي والعشرين
ما من شك في أنّ القارىء لـ«زعامة المرأة في الاسلام المبكّر بين الخطاب العالِم والخطاب الشعبي» سوف يجد فيه نقدا علميا صارما ودقيقا لمعتقدات وأفكار تتعلّق بوضع المـرأة في ديار العروبة والإســـلام في فترات الإسلام الاولى في علاقة بالزعامة والقيادة، وهي معتقدات وأفكار ترسّخت بعمـق في أذهان الناس في بلاد الإسلام عبر القرون كثيرها غث وقليلها سمين، ويجد في النقد لذة ومتعة فيحفِّزُهُ ذلك إلى الموازنة بين وضع المرأة في الإسلام المبكر ووضعها في القرن الحادي والعشرين حيث بقيت في أكثر من قطر عربي محرومة من أبسط الحقوق كقيادة السيارة والسفر بلا مرافق ولي أمر من جنس الذكور حتى ولو كان ابنها، ومقابلة الرجال خارج دائرة العائلة ، والحريّة في اختيار الزوج والمساواة بالرجل والعمل خارج البيت بحُرِّيَّة الخ... كل ذلك على خلفية عادات وتقاليد أقرب ما تكون لوجهة النظر الإسلامية القديمة والتفسيرات الحنبلية والوهابية المتشددة للإسلام، وبوازع الوقوف موقف الحيطة والريبة من القيم والمواثيق العالمية التي تدعــــو إلى المساواة الكاملة بين المرأة والرجل.
يوسف قدية
- اكتب تعليق
- تعليق