أخبار - 2016.08.26

احميده الـــنيــفــر: نَحن‭ ‬وعقولُنا‭ ‬المهاجرة

نَحن‭ ‬وعقولُنا‭ ‬المهاجرة

1- قال في صوت مُتَهَدِّجٍ ساخرٍ: بعد أن عوّدْنا أطفالَنا عند التوديع استعمال عبارة «باي باي» فلا غرابة إن رأيناهم بعد ذلك يعلنون على صفحات التواصل أن «أجمل وأروع وأعزّ باب في الجمهورية هو باب الرحيل»للمغادرين من مطار تونس قرطاج.

أقسى من مرارة هذا التوصيف الأرقامُ والإحصائيــات المتعلقة بهجرة الكفـــاءات من تونس ومن عدد من البلاد العربية.

في إحصائية نشرتها مؤسسة الفكر العربي نجد أنه يهـــــاجر من العرب في كل عام من أرباب المهن والمهندسين والأطباء والخبراء ما يناهز الـ 100000 وأنهم من 8 بلدان عربية هي: لبنان، سوريا، العراق، الأردن، مصر، تونس، الجزائر، المغرب وأن 70% من العلماء العرب الذين يسافرون إلى الخارج للتخصص لا يعودون إلى بلدانهم. هذا النزيف الناجم عن ارتحال أصحاب العقول المبدعة كبَّد الميزانيات العربية 11 مليار دولار في سبعينيات القرن الماضي وتفوق خسائره حاليا 200 مليار دولار سنوياً.

ما نجده في الإحصائيات الرسمية الخاصة بتونس يعبّر بشكل مفزع عن استنزاف صامت مُدمِّرذلك ما أكّدته كتابة الدولة للهجرة سنة 2012 بخصوص الـ57000 طالب تونسي بالخارج يدرسون ولا يعود منهم في نهاية المطاف إلا 10%. ما تضيفه هذه الإحصائيات هو أن توزع الكفاءات المغادرة من تونس من إطارات عليا وأصحاب مهن حرة يكون إلى أوروبا بـ 57% وأمريكا الشمالية بـ 22% وأن الأساتذة الجامعيين والباحثين يحتلون المراتب الأولى بين هؤلاء المودِّعين.

كيف نفسر هذا التهافت على مغادرة مأساوية؟ أعندما أصبحت العقول العربية الأكثرَ هجرةً في العالم تصحّ فينا قولة شكسبير في مسرحية «هاملت» «كل شيء متعفن في مملكة الدانمرك»؟ وأية معالجة لهذه الظاهرة الشديدة الصلة بالتنمية وبتجديد النخب وبقيادات المجتمع وببناء المستقبل؟

2- لا شك في أن المكان كان- حضاريا ومنذ القدم - عبـــئا على الإنسان يأسر تطلّعه ويحدّ من طموحه. من ثم كان الترحّل والنزوح عن المكان ظاهرة ملازمة للنشاط البشري حافزة على التطور ومساوِقة للتقدم. لذلك لم يكن غريبا إن عبّر الشاعر العربي عن هذه المعاني الإنسانية بقوله:

سافر تجد عوضا عمن تفارقه*

وانصب فإن لذيذ العيش في النصب

إني رأيتُ ركود الماء يفسده*

إن سال طاب وإن لم يَجْـر لم يَـطِبِ 

في المستوى التجريدي احتّل موضوع المكان حيّزا هامـــا في النشاط الفكري المبدع حتى قيل إنه «لا يوجد في الفلسفة بل ولا في المعرفة النظرية ميدان لا يدخل فيه مشكل المكان أو يتداخل معه بكيفية أو بأخرى». يدرَك هذا عند أرسطو ثم ابن سينا والرازي ليتواصل مع الفلاسفة المحدثين في الغرب ويتأكد مع «آينشتاين» ونظرية النسبية. مع هؤلاء ساهم الفيزيائيون والرياضيون وعلماء التربية والنفس إلى جانب الإثنــولوجيين في بحث مسألة المكان كلٌ من زاوية اختصاصه مبينين في كافة الحالات أنّه موضوع متميّز بتضافر القول بأن المكان ليس مُجردَ فراغٍ.

مع العولمة كان التشديد على مسؤوليتها في التشجيع على هجرة الأشخاص وحركية الجماعات بما توفر من وسائل نقل متطورة ووسائط اتصال غير مسبوقة.

3- لقد غدا اليوم الإنسان كائنا اتصاليا بامتياز ومخلوقا مهاجرا دأبه التغلب على الحواجز وتجاوز الحدود.حيثما اتجه النظر برزت حركية التنقل والهجرة في المدينة والقرية وفيما تشهده الزيجات المختلطة التي لا تأبه بالفروق الاجتماعية والجهوية والقومية والعرقية وفيما تسمعه من تنوّع اللهجات واللكنات وتزاحمها فضلا عما يشدّك من تدافع لا يهدأ في مطارات العالم وموانئه وعلى طرقه السيارة. من هذه الوتيرة العالية في التنقل تحددت لدى الباحثين أسئلة كبرى عن أهمية ظاهرة الهجرة وعن دلالاتها بالنسبة إلى الكفاءات والشابة منها خصوصـــا وإلى المجتمعات المتخلفة والنامية فضلا عن مردودها على ذوي الإمكانيات المحدودة والكفاءات المتدنية. ذات الأسئلة تطرح أيضا بالنسبة إلى المجتمعات الغنية وما يرتفع فيها من شعارات مقاومة للمهاجرين لكونهم «يخـــترقون هويتنـــا الوطنية» أو «يسرقون وظائفنا» أو « يهددون أمننا».

في تقرير للتنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي طرح ثلاثمائة باحث إشكالية « الهجرة والتنمية» للدرس والتحليل اعتمد الأسئلة المحورية التالية:

من هم المهاجرون؟ من أين يأتون؟ إلى أين يذهبون؟ لماذا يتنقّلون؟ هل الانتقال يعزّز التنمية البشرية؟ ما هي آثار الهجرة الاجتماعية والمعرفية والقيمية على بلدان المنشأ والمقصد ؟ كيف ينبغي التعامل مع هذه الظاهرة و أية سياسات ينبغي اتخاذها من أجل تعزيز التنمية البشرية؟

4- للإسهام في الإجابة تقدم لنا المقاربة الاجتماعية-الثقافية جملة من العناصر الدالة المتعلّقة بهجرة الكفاءات وخصائصها وحراكها في بلاد المهجر الذي تقصده. ما تهتم به معالجة أحوال المهاجرين في بلاد المقصد وما يطـــرأ على ثقافة الأجيال المهاجرة يضيء موضوع الهجرة في بلاد المنشأ ضمن إشكالية التنمية بدلالتها الشاملة وضمن تحدي تنشئة النخب الجديدة والقيادات الوطنية المنشودة.

أفضل من اشتغل على هذه المقاربة للمهاجرين إلى الغرب هو عالم الاجتماع الأمريكي «ماركوس لي هانسن» (Marcus Lee Hansen) الذي اعتنى بثقافة الأجيال المهاجرة وما يتميز به كل جيل عن الآخر. توصل «هانسن» في أعماله إلى وجود فروق جوهرية في تفاعلات الجيل الأول مقارنة بما سيحصل مع الجيل الثاني ثم ما يؤول إليه الأمر مع الثالث في علاقة تلك الأجيال بالمجتمعات التي استقبلتها وفي صلة الأجيال المهاجرة بثقافتها الأصلية. خلاصة هذه الفروق ركزّها «هانسن» في «مبدأ الجيل الثالث» الذي ينص على «أن ما يودّ الابن (من الجيل الثاني) أن ينساه، يودّ الحفيد (من الجيل الثالث) أن يتذكره».

تتحدّد أهمية هذه المقولة المميزة فيما تكشفه من حيوية الثقافة ومرونتها باستمراريتها وتنوع صياغاتها ومفاعيلها بالنسبة إلى أصناف المهاجرين. الثقافة الأصـيلة، بما تشتمل عليـــه من عناصر الدين واللغة والتاريخ والذاكرة الجماعية، تكون لدى الأوائل ضمانة لحفظ الوجود الجماعي في مواجهة غربة شعورية تضحي مع الجيل الثاني مُعوِّقا من معوقات الاندمــاج الناجــح في مجتمعات المقصد ومانعا عن إرضاء محيطه. إنها تتحوّل عندئذ مع أبناء الجيل الثاني إلى موروثات ثقافيّــــة ينبغي نسيانهـــا إذ لا تتعلق إلا بالمجالات الضيقة للحياة الفردية التي لا شأن لها بالهوية الجماعية ولا صلة لها بعضوية هذا الجيل وحـــراكه في مجتمعات المقصد.

5- ينقــلب وضع أبناء الجيل الثــالث من المهاجــــرين على ما كان عليه الآباء والأجداد. هو جيل لا يعتبر نفسه مهاجرا بعد اندماجه الاقتصادي الناجح لكنه يظل مع ذلك معانيا من فقدان كل خصوصية ثقافية مميّزة. الإشكال هو أن حرص هذا الجيل على التمايز الثقافي يجعله من جهة مُتبنِيًّا لمفهوم الطبيعة البشرية القائلة بأن الإنسان كائن ثقافي (Homo culturalis) لكنه في ذات الوقت يجد صعوبات عديدة في بناء هذا التمايز بعد ما وقع من تصحر ثقافي فرضه وضع الجيل الثاني. صعوبات الجيل الثالث  مضاعفة ومركبة: هو يريد، حسب « هنسن»، أن يتذكر ما كان قد أنساه إياه أبوه الذي درج على أن الإنسان كائن اقتصادي (Homo economicus) أساسا وهو من جهة ثانية أعجز من أن يعود إلى وضع الأجداد ومرجعيتهم. الأخطر من هذا وذاك أنه لا يجد في بلاد المنشأ حين يعود إليها سائحا أو باحثا أو مستثمرا ما يسعفه للخروج من تيه البحـث عن مشروع صارت مكوّناته التاريخية مفقودةالمعالم هناك وهنا.

هذا يعود بنا إلى أهمية المكان وأنه ليس عنصرَ فراغ ولا وعاءً سلبيا سواء في الظاهرات الفيزيائية أو التحديات الحضارية. معنى هذا تنمويا وإنسانيا أننا في بلاد المنشأ سنكــــون أقدر على الاستفادة من حركية هجرة ضرورية لعقولنا إن حققنا نجاعة ذاتية لا يمكنها أن تتجسد إلاّ إذا أعيدت للمكان عافيته الفاعلة وكفاءاته القادرة على التقليص الجدّي من آثار التباينات الكبرى بين مشاغل بلاد المنشأ وانتظارات الجيل الثالــث والرابع من العقول المهاجرة ومساعيهم المميزة.

د. احميده الـــنيــفــر

رئيس رابطة تونس للثفافة والتعدد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.