"في علامات التواصل بين موريتانيا وتونس" للسفير عبد الرحمان بلحاج علي
هذا المقال، أعددته منذ سنوات عديدة غير أنه لم يُكْتَبْ له النشر، في إبّانه، وقد أحببت وموريتانيا الشقيقة تحتضن هذه الأيام، لأول مرة في تاريخها، القمة العربية أن أخرجه من الأدارج تحية مني للعلاقات المتميزة التي تجمع بين تونس وموريتانيا، وفي نفس الوقت تسليطا للضوء على هذا الكتاب القيّم الذي أعتقد أنّه جدير بالمطالعة لأنه يحتوي على كمّ كبير من المعلومات عن الروابط التاريخية والراهنة التي وصلت وتصل بين شعبي هذين البلدين حتى قبل قيام دولتيهما الحديثتين.
والحقيقة أنني عندما وصلني الكتاب، مع إهداء لطيف من مؤلفه الصديق العزيز الأستاذ عبد الرحمان بلحاج علي سفيــر الجمهورية التونسية بنواكشوط آنئذ، أقبلت على قراءته بمتعة كبيرة من منطلق العلاقة الخاصة التي تربطني بموريتانيا التي سعدت بالعمل فيها سفيرا على امتداد خمس سنوات (من 1991 إلى 1995) كانت حافلة بالبذل والعطاء من أجل الإسهام في تمتين العلاقات التونسية الموريتانية على كافة الأصعدة، ولقد أتاحت لي هذه القراءة استحضار جانب من الأحداث التي عشتها، والأماكن التي زرتها في هذا البلد الشقيق، واستذكار الصداقات التي ربطتني، وما تزال، بالعديد من الوجوه الموريتانية في مختلف الحقول، ولا سيما في الحقل الثقافي.
وهذا الكتاب الذي يحمل عنوان "في علامات التواصل بين موريتانيا وتونس" والذي يقع في 197 صفحة من القطع المتوسّط، وهو من طبع دار الميزان للنشر في نوفمبر 2006، ثمرة من ثمار عمل مؤلّفه في موريتانيا التي عرفت ببلاد المليون شاعر والتي يبدو أن أجواءها أعادته، والعود أحمد، إلى تكوينه الأصلي باعتباره متحصلا على الأستاذية في اللغة والآداب العربية، ومحرزا على شهادتي الكفاءة والتعمق في البحث من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس.
ويحتوي الكتاب على أربعة أقسام اختار لها المؤلف العناوين التالية:
1/ في علامات التواصل بين موريتانيا وتونس.
2/ تونس في "الرحلة الحجازية" للفقيه الحافظ محمد يحيى بين المختار الولاتي.
3/ ممالك الصحراء (موريتانيا) في كتاب "صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار" للمؤرخ التونسي محمد بيرم الخامس.
4/ قصائد شنقيطية.
والأقسام الثلاثة الأولى، هي في الأصل، ثلاث دراسات أعدها المؤلف ونشرها، إما في موريتانيا، أو في تونس، أو في كلتيهما، قبل أن يجمعها بين دفتي هذا الكتاب، وقد ضم إليها، كمسك الختام، بعض الخواطر الشعرية التي يتغنى فيها بموريتانيا وبالعلاقات التونسية الموريتانية.
وتمثل الدراسة الأولى العمود الفقري للكتاب، ولذلك فقد اختار المؤلف أن يحمل الكتاب نفس عنوانها، أما الدراسة الثانية فهي عبارة عن عملية توسّع في الحديث عن "الرحلة الحجازية" للفقيه الحافظ محمد يحيى بن المختار الولاتي، واما الثالثة، فقد تناول فيها بالتحليل ما جاء في كتاب "صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار" للمؤرخ التونسي محمد بيرم الخامس عن موريتانيا، او عما يسميه بممالك الصحراء.
وبناء على ما تقدم، فان هذه الإطلالة ستتركز، أساسا، على محتوى القسم الأول، أو إن شئنا الدراسة الأولى التي يذكر الكاتب انه نشرها في عشر حلقات في جريدة "الشعب" الموريتانية خلال شهري جوان وجويلية 2006 (انظر الصفحة 7)، وقد جاءت في الكتاب موزعة على أربعة عشر فصلا.
ويتّضح مما جاء في المقدمة أن الباعث على إعداد الدراسة هو محاولة فهم أسباب ما يسميه الكاتب بـ"الشعور التلقائي بالتوافق والانسجام" الذي ما انفك يجمع، منذ زمن طويل، بين التونسيين وبين الموريتانيين، وهو يرى أن لهذا الشعور أسبابا قديمة وحديثة على غرار ما تؤكده قولة بليغة لصديقنا المشترك الأستاذ احمد ولد الوافي رئيس "منتدى الفكر والحوار" الموريتاني الذي يحلو له أن يردد على المسامع "أن موريتانيا ولدت من رحم تونس مرتين"، وهو يوضح قصده من هذه القولة، فيذكر أن المرة الأولى تزامنت مع انطلاق حركة المرابطين، إذ كانت إبان زيارة الأمير الصنهاجي يحيى بن إبراهيم الكدالي للقيروان عند عودته من الحج سنة 427 هجري، ولقائه بأبي عمران الفاسي الفقيه الصالح وقطب المالكية في رحاب المغرب الكبير..." (انظر الصفحة 12).
أما المرة الثانية فكانت عند "إعلان الدولة الموريتانية الحديثة ومساندة الجمهورية التونسية لها في كافة المحافل الدولية وفي مجالات التعاون الثنائي" (انظر الصفحة 13).
ومن الأسباب الحديثة أيضا كما يقول الكاتب "أن العديد من الموريتانيين في القرى والمدن والبادية الموريتانية درسوا على أيدي معلمين وأساتذة تونسيين، كما أن العديد منهم أيضا واصل دراسته العليا في مختلف شعب واختصاصات التعليم العالي بالجامعات والكليات التونسية، كالطب والهندسة والصيدلة والتصرف والحقوق والعلوم الإنسانية..."
وفي المقابل فإن كثيرا من التونسيين، لا سيما منذ تسعينات القرن الماضي، واصلوا تعليمهم العالي بجامعة نواكشوط وتحصلوا على شهائدهم العليا من كليات العلوم والحقوق والآداب بها (انظر الصفحة 11).
ويتطرق الكاتب في الفصل الأول من الدراسة إلى الصلات التي يحتمل أن تكون جمعت، في العصور القديمة، بين ما صار يعرف اليوم بتونس وموريتانيا، فيلاحظ أن اقدم هذه الصلات قد تعود إلى العصر القرطاجي حيث أن الملاح الرحالة القرطاجي "هانون" أو "حنون" (530/470 ق.م) قام برحلة استكشافية لشواطئ غرب إفريقيا منذ القرن الخامس قبل الميلاد، أي قبل الرحالة الأوروبيين بألفي سنة تقريبا حيث أن أولى رحلات هؤلاء إلى المنطقة لم تبدأ إلا في القرن الخامس عشر ميلادي (انظر الصفحة 15).
كما يشير من ناحية أخرى إلى أنه عثر في منطقة حوض أرغين بموريتانيا على قطعة نقدية من العملة القديمة، يرجح أنها عملة قرطاجية وقد احتفظ بها في المتحف الوطني بنواكشوط (انظر الصفحتين 16/17).
ثم ينتقل الكاتب، فيما تبقى من فصول الدراسة، ليتابع سيرورة العلاقات التي ربطت بين البلدين منذ دخول الإسلام إلى المغرب العربي، وقيام مدينة القيروان التي امتد إشعاعها إلى مختلف ربوع المنطقة بما فيها الصحراء الموريتانية.
وقد استهل هذه الفصول بالتنويه بالمجهودات التي يبذلها مجموعة من البحاثة والجامعيين الموريتانيين لبيان الروابط التاريخية والحضارية بين بلادهم والمجال الإفريقي العربي، وخاصة تونس أو إفريقية أو بلاد القيروان، حسب تسميات كل منهم، وقد أورد، في هذا السياق، قائمة في بعض أهم الدراسات التي نشرت في هذا الباب (انظر الصفحتين 19/20)، وهو يرجح، بناء على ما جاء في هذه الدراسات، أن تكون "أولى حلقات التواصل بين إفريقية وبلاد الملثّمين... ترجع إلى العلاقات التجارية التي ربطت القيروان باودغست" التي كانت عاصمة للصنهاجيين: والتي تقع أطلالها حاليا في الحوض الغربي بالبلاد الموريتانية.
أما عن أقدم حلقات الوصل الثقافي بين الجانبين فانها، كما يورد الكاتب، تتمثل في انتقال "الرسالة الفقهية" التي ألفها عبد الله بن أبى زيد القيرواني، من أرض القيروان إلى بلاد شنقيط، واحتفاء الشناقطة بها، حيث يؤكد الأستاذ محمدن بن أحمد بن المحبوب، على سبيل المثال، "أن مؤلفات ابن أبي زيد القيرواني وصلت إلى بلاد شنقيط في وقت مبكر وخاصة رسالته المعروفة بـ"باكورة المذهب"، وأصبح القوم ينوّهون بها في تعابيرهم اليومية، ولغتهم الدارجة، مؤكدين أن دراستها عنوان التوسع والاستقصاء، فدارسها لا يستعصي عليه فرع فقهي، ولا يمتنع عليه موضوع"...
ويضيف قائلا إن رسالة ابن أبي زيد "وقع تداولها بالمحاظر الشنقيطية تداولا كبيرا، فاحتضنت في الطروس، وحصلت في الصدور، فلا يوجد طالب علم إلا ويحفظها عن ظهر قلب، وقد شرحها جمع كبير، كما نظمها علماء موريتانيون، وقد جمع بعض الباحثين خمسة عشر مؤلفا شنقيطيا تناولت أعمالهم في جملتها متن"الرسالة"، وهي ما بين نظم وشرح وتعليق"... (انظر الصفحتين 28/30).
وفي الفصل الموالي، يسلط الكاتب الضوء على الزيارة التي كنا أشرنا إليها من قبل، والتي قام بها الأمير الصنهاجي يحيى بن إبراهيم الكدالي إلى القيروان سنة 427 هجري، وهو في طريق عودته من الحج. ومعلوم أن هذا الأمير الذي يقول الكاتب إنه أول شخصية ذات أهمية قصوى من بلاد الملثمين تزور القيروان، التقى خلال هذه الزيارة مع الفقيه أبي عمران الفاسي، وطلب منه أن يرسل معه من يراه من العلماء ليعلّم أهل بلاده دينهم، وقد وجهه أبو عمران الفاسي إلى الفقيه وجاج بن زلو اللمطي من أهل سوس بالمغرب الأقصى، فاختار له عبد الله بن ياسين الذي صار، فيما بعد، الزعيم الأول للمرابطين، وجامع شملهم، وصاحب الدعوة الإصلاحية فيهم (انظر الصفحتين 34/35).
وانطلاقا من أن الطرق الصوفية في المغرب العربي شكّلت، كما يرى الكاتب، إحدى أهم حلقات الوصل بين شعوبه (انظر الصفحة 41)، فإنه يتطرق، في الفصل الموالي، إلى ظروف انتقال الطريقة الشاذلية في التصوف من تونس إلى موريتانيا، كما يخصّص الفصل الذي يليه للطريقة الغظفية التي نشأت في أرض شنقيط، والتي يعتبرها الكاتب متفرعة عن الطريقة الشاذلية (انظر الصفحة 51).
ومن ناحية أخرى، يحاول الكاتب من خلال الفصل المعنون بـ"قبيلة العروسيين" أن يبين أن هذه القبيلة "ثابتة أصولها التونسية وهي تعتبر إحدى حلقات الوصل البشري والتاريخي بين البلاد التونسية والربوع الموريتانية" (انظر الصفحة 67).
أما عن أصداء العلاقات بين الجانبين فيما يمكن أن نسميه بأدب رحلات الحج الموريتانية، فإن الكاتب يهتم، أولا، بالزيارة التي قام بها الفقيه الطالب أحمد طوير الجنّة في أواخر الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وبالتحديد سنة 1831 إلى تونس، وقد جاء الحديث عن هذه الزيارة في كتاب "رحلة المنى والمنّة" التي وصف فيها الفقيه رحلته إلى الحج.
ويقول الكاتب إن هذه الرحلة "لا جدال في أنها تعتبر إحدى حلقات الوصل الثقافي بين بلاد شنقيط وبين البلدان العربية التي زارها في طريقه، وخاصة بلادنا تونس، كما تمثل هذه الرحلة باكورة التأليف الشنقيطي المرتحل المدوّن، فقد سعى صاحبها إلى تسطير مشاهداته، فلم يمرّ بحاضرة من حواضر العلم إلا استفاد من علمائها، مسجّلا ملاحظاته بأسلوب أدبي واضح مبين" (انظر الصفحة 69).
ثم يتناول الكاتب بالعرض الزيارة التي قام بها الفقيه محمد يحيى بن المختار الولاتي إلى تونس، في أواخر نفس القرن، وبالتحديد سنة 1897، ويرى الكاتب "أن التفاعل والانسجام الكامل بين الشيخ الولاتي ومثقّفي العاصمة التونسية يدل على عمق الروابط الثقافية والحضارية التي تجمع بين الشعب التونسي وأشقائه من متساكني الربوع الموريتانية، وما ذلك بغريب والشعبان تجمعهما نفس الأصالة ونفس الثقافة العربية الإسلامية المتشبّعة بما وصل إليه علماء القيروان وجامع الزيتونة من فقه واجتهاد" (انظر الصفحة 91).
وفي الفصل المعنون بـ"(التونسي) من أسماء المواقع إلى أسماء العائلات والرجال" يشير الكاتب إلى وجود عائلات موريتانية تحمل لقب التونسي أو التوينسي، كما أن هناك موقعا قريبا من العاصمة الموريتانية نواكشوط يحمل اسم "أم التونسي"، وقد طرح الكاتب عدة تساؤلات حول هذه التسميات قبل أن يقرر "أن الموقع الصحراوي (أم التونسي) يبقى لغزا من الناحية التاريخية لم يتمكن أحد من فك رموزه إلى حد الآن... كما تبقى بقية التسميات أيضا وأسبابها وتاريخها محل سؤال بدون جواب..." (انظر الصفحة 96).
والطريف هنا هو أن موقع "أم التونسي" أصبح من الآن فصاعدا ذا صيت عالمي حيث أن مطار العاصمة الموريتانية الدولي الجديد والذي قام الرئيس الموريتاني في 23 جوان الماضي باستقبال أول رحلة دولية تحط فيه، بني على هذا الموقع وأصبح يحمل اسمه فهو "مطار أم التونسي الدولي".
ومن ناحية أخرى يخصص الكاتب فصلا لأرجوزة "بو طليحية" التي يقول، استنادا إلى بعض المصادر، إنها كانت تدرس في جامع الزيتونة في النصف الأول من القرن العشرين، وهذه الأرجوزة تقع في 314 بيتا في المعتمد من الكتب والفتوى على مذهب المالكية، وقد نظمها الفقيه الموريتاني محمد النابغة بن عمر الغلاوي الذي توفّي سنة 1838، وسمّاها باسم الموضع الذي نظمها فيه، وهو أضاة بمنطقة إيكيدي بالجنوب الغربي من موريتانيا (انظر الصفحة 97).
ويورد الكاتب في هذا الصدد أن الاستاذ يحيى بن البراء يؤكد "أن هذا النظم برمج تدريسه في جامع الزيتونة المعمور بتونس ردحا من الزمن"، كما يورد أن الدكتور ربيع ميمون الأستاذ المحاضر بالجامعات الجزائرية وخريج جامع الزيتونة ذكر للأستاذ الموريتاني أحمد سالم أستاذ اللغة العربية بالمدرسة العليا للتعليم أنه كان من ضمن مقرّراتهم الدراسية بهذا الجامع في منتصف القرن العشرين نظم العالم الشنقيطي النابغة الغلاوي المعروف بـ"بوطليحية"، ذلك النظم الذي يتناول، في صورة طريفة، ما تجب به الفتوى في المذهب المالكي" (انظر الصفحة 100).
واستنادا إلى كتاب "بلاد شنقيط: المنارة والرباط" للأستاذ خليل النحوي، يخصص الكاتب فصلا للحديث عن منح المملكة التونسية سنة 1938، وسام الافتخار لمحضرة الشيخ يحظيه بن عبد الودود، ويلاحظ الكاتب انه "اتصل بالعديد من الباحثين وأقارب الشيخ وابنائه محاولا الحصول على معلومات حول كيفية وصول خبر نشاط هذا الشيخ الجليل ومحضرته الى صاحب مملكة تونس وكيف وصلت الشهادة والوسام إلى المحضرة ولكن لم يتحصل على أجوبة دقيقة يمكن اعتمادها (انظر الصفحتين 103/104) وهو، بقطع النظر عن ذلك يرى ان "هذا الوسام من بلاد الزيتونة والقيروان الى بلاد شنقيط رسالة تؤكد أواصر الأخوة لدعم الثقافة العربية الاسلامية في هذه الربوع والتمسك بها كأساس للمحافظة على الشخصية الوطنية من الانصهار في بوتقة المستعمر ومقاومته بكل الوسائل المتاحة للانعتاق وتحقيق الحرية والاستقلال" (انظر الصفحة 105).
وفي الفصل الموالي، حاول الكاتب أن يضع قائمة فيما بلغ إلى علمه من عناوين المؤلفات الموريتانية التي طبعت ونشرت في تونس.
ويختتم الكاتب دراسته بفصل يحمل عنوان "كل الطرق تؤدي إلى تونس وإلى نواكشوط " وقد اقتبس هذا العنوان من مقال قديم للأستاذ محمدن ولد أشدو المحامي الموريتاني المرموق الذي جاء إلى تونس في أول بعثة موريتانية إلى دولة عربية في جانفي 1961 أي السنة الأولى من عمر الدولة الموريتانية المستقلة...
ويستخلص الكاتب في هذا الفصل، أنه، بالنظر إلى عراقة العلاقات التونسية الموريتانية واتساعها، فإنه "لا يعتقد أن الإطار القانوني أو الاتفاقيات التي أبرمت بين البلدين في كافة المجالات استطاعت أن تعبر عن كل ما يحمله الشعبان لبعضهما البعض من محبة وتقدير ورغبة في العمل لتحقيق مستقبل مشترك أفضل"... (انظر الصفحة 113).
بعد ذلك يعود الكاتب، في الدراسة الثانية، إلى "الرحلة الحجازية" ليتحدث عن محتوياتها باستفاضة أكبر، كما يتناول بالتحليل والتعليق، في الدراسة الثالثة التي تحمل عنوان "ممالك الصحراء (موريتانيا) في كتاب "صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار" للمؤرخ التونسي محمد بيرم الخامس "ما جاء عن موريتانيا في هذا الكتاب وهو يستخلص، في هذا الصدد، أن حديث محمد بيرم الخامس "اعتمد على مراجع غير عربية"، غير أنه يظل مع ذلك "أول تعريف معاصر كتبه مؤرخ عربي لهذا الجزء من الصحراء الإفريقية الذي أطلق عليه اسم (ممالك الصحراء) قبل أن يطلق عليه بعد سنوات قليلة اسم (موريتانيا)... كما يمكن اعتبار الشيخ محمد بيرم الخامس أول مؤرخ عربي يحاول التعريف بهذا القطر الشقيق قبل أن يشهد ميلاده ككيان جغرافي وسياسي متكامل يحمل اسم (موريتانيا) وقبل أن يشهد انبعاث أول دولة تمثله بين الأمم وتدخل به عالم الحداثة والتطور في كافة المجالات" (انظر الصفحة 180).
تلك هي إطلالة سريعة على محتويات كتاب "في علامات التواصل بين موريتانيا وتونس"، وفي رأيي فإن أهمية هذا الكتاب ترجع إلى ثلاثة عناصر هي التالية:
1) أن المؤلف، فضلا عن تصديه للكتابة على غير العادة، اجتهد اجتهادا محمودا في جمع مختلف المواد المتصلة بالعلاقات التونسية الموريتانية المبثوثة في العديد من المصادر والمراجع والدراسات والبحوث بين دفّتي كتابه.
2) أنه قام بجهد توثيقي قيّم من خلال القوائم التي ضمنها أو ذيّل بها الدراسات الثلاث التي تضمّنها الكتاب، وهو ما من شأنه أن يساعد كل مهتم بالبحث في العلاقات التونسية الموريتانية على التوجّه إلى المصادر أو المراجع التي يحتاجها في عمله، مباشرة.
3) أنه، وهذا هو العنصر الأهم في نظري، دعا في أكثر من مناسبة الباحثين والدارسين إلى التعمّق في دراسة تاريخ العلاقات التونسية الموريتانية، حيث أنه بث في أثناء الكتاب سلسلة متعددة الحلقات من مقترحات البحث التي نورد منها التالية:
- دعوة الأساتذة المختصين في التاريخ القديم إلى العناية بالبحث في الجذور الواحدة لتطور الجنس البشري بالشمال الإفريقي والمناطق المجاورة له، ومقارنة الآثار والرسوم المتشابهة في مختلف بلدان هذه المناطق، وكذلك دراسة الحضارات القديمة بهذه الربوع وما تم بينها من تواصل وتأثير وتأثّر (انظر الصفحة 17).
- دعوة الباحثين إلى مزيد الدرس والتحليل للظروف التي حفّت برحلة حج يحيى بن إبراهيم الكدالي وزيارته للقيروان واتصالاته بأعيان القوم في مختلف المجالات بها (انظر الصفحة 40).
- الدعوة إلى إنجاز دراسة معمقة بهدف محاولة الإلمام بمدى الحضور المتميز للطريقة الشاذلية في التصوف بمختلف الأوساط والربوع الموريتانية منذ ظهورها إلى أيامنا هذه (انظر الصفحة 49).
- الدعوة إلى القيام بعمل شامل حول الطريقة الشاذلية، ووليدتها الطريقة الغظفية بالبلاد الموريتانية، ودور هاتين الطريقتين في دعم العقيدة الإسلامية، وأواصر الإيمان، ومقاومة الاستعمار، ونشر الإسلام لدى باقي الشعوب الإفريقية (انظر الصفحة 56).
- دعوة الباحثين المهتمين بشأن الشيخ سيدي احمد العروسي إلى مزيد الانكباب على سيرة الشيخ سيدي احمد بن عروس بالمقارنة والتدقيق العلمي والمنطقي حيث من المرجّح، كما يرى المؤلف، أن يكون سيدي أحمد العروسي هو نفسه سيدي أحمد بن عروس (انظر الصفحة 67).
- الدعوة إلى نشر "رحلة المنى والمنة" مع تحقيقها تحقيقا علميا، على أن يقع إفراد تونس بدراسة مستخلصة منها، إذ أن هذه الرحلة وثيقة تاريخية هامة، وشهادة فريدة عن الكثير من الأوضاع بالبلاد الإسلامية عامة، وعن البلاد التونسية خاصة في فترة تأليفها (انظر الصفحة 78).
- الدعوة إلى تجميع المقالات والدراسات التي نشرت في المجلات والدوريات التونسية المختصة، والأبحاث الجامعية التي قدمها الطلبة الموريتانيون بالجامعات التونسية في مختلف الاختصاصات بمناسبة اختتام مراحل تعليمهم العالي بهذه الجامعات، على أن يتم طبعها وتوزيعها حتى يطلع عليها القراء، ويستفيد منها الباحثون، وتساهم في التعريف بعبقرية الشعب الموريتاني الشقيق، وبمجهوداته في المحافظة على التراث العربي الإسلامي، وتطويره، ونشره في الربوع الإفريقية وغيرها (انظر الصفحتين 111/112).
محمد ابراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق