أخبار - 2016.06.21

عمر منصور :الارتقـاء بالمرفـق القضـائي غايتـنا

عمر منصور :الارتقـاء بالمرفـق القضـائي غايتـنا

بفيض من البشاشة والترحاب، استقبلنا السيد عمر منصور، وزير العدل، بمكتبه بشارع باب البنات ليخصنا بحديث مطوّل استغرق زهاء الساعة. أجاب عن أسئلتنا ببالغ الصراحة والتلقائية، دون تكلّف أو مواربة، وبعيدا عن اللغة الخشبية التي غالبا ما ينزع إليها البعض لتجنّب الخوض في المسائل المحرجة. قدّم في ردوده إيضاحات  حول الخطة الرامية إلى إصلاح الأوضاع داخل  السجون والطرق الكفيلة بمعالجة ظاهرة الاكتظاظ  التي تشهدها. كما عرض تشخيصا صادقا وموضوعيا  لواقع الموفق القضائي، مقرّا بما يشوبه من هنات  ومواطن خلل، جراء تواضع الإطار البشري والنقص في اختصاص القضاة وقلة الإمكانيات المادية وتردي ظروف العمل في المحاكم والقصور الواضح في المنظومة المعلوماتية للوزارة.  كما تناول قضية استقلالية القضاء وعلاقة الوزارة  بالنيابة العمومية وتوسيع مجالات العمل بالنسبة  إلى المحامين، وخاصة الشبان منهم، فضلا عن حزمة  القوانين والمجلات التي شرعت الوزارة في تنقيحها قصد تطوير المنظومة التشريعية الوطنية، مبديا الحرص على إنجاز التغــــييرات في آجال غير بعيدة وتحميلها أفكارا  جديدة من شـــأنها أن ترتقـــي بالمـــرفق القـــضائي الوطني  إلى منـــزلة أفضل. 

هناك شعور لدى الرأي العام بافتقاد سير القضاء للسرعة المطلوبة في حسم الملفات والقضايا، خاصة منها ملفات الإرهاب ومقاومة الفساد المالي، رغم وجود قطبين خاصين بهذين الميدانين. ما هو رأيكم في الموضوع ؟

كنت أسمع بهذا البطء من خارج الوزارة دون إدراك الأسبـــاب. ولما توليت المســــؤولية طلبت مدي بجدول للقضايا المنشورة والجـــارية والمفصـــولة. لكن فوجئت بعد اطلاعي على واقـــع العمـــل القضــــائي عــن قرب داخـــل القطبــين أنّ نســق العمل فيهما عـــادي وطبيعي؛ وأوضحت هذا أمام إحدى لجان مجلس نواب الشعب. يجـــب علينا في هـــذا المجال أن نستحضر أمرين هامين:

بالنسبة إلى القطب المالي فهو ينظـــر في الجـــرائم المــــالية، كتهريــــب الأمـــــوال وتبييضـــهــــا؛ وهي ليســــت بالقضـــايا البسيطة، خـــــاصة لما تكون لها امتــــدادات خــــارجية وتمـــــر عبر عدة بلدان؛ حينها يجب على قـــاضي التحقـــيق أن يصــدر بشأنها نيابات دولية؛ ويجب عليه انتـــظار الإجــــابات التي قـــــد تمده بمعطياــت هامـــة حـــول حــــركة حســــابات بنكية خارجية مثـــلا. إذن لا يمكن لقاضي التحقيق التصريح بختــــم الأبحـــاث إلا بعد ذلك، وإلا اعتبر عملــــه منقوصا. وفي كثـــير من الحــالات تتعـــطل تلك الإجـــابات، مما ينجــــم عنه بطء في طور البحث، بقيـــة القضــــايا العـــادية يقع الفصـــل فيـــها بســرعة.
بالنسبة إلى قضايا الإرهاب؛ أودّ أوّلا أن أحيي قضاة قطب مقاومة الإرهاب- وعددهم ثمانية- وهم يباشرون كمّا كبيرا من الملفات الهامة والشبيهة بقضايا الجريمة المنظمة، حيث لها امتداد في تونس وفي الخارج.  لقد فوجئت بأنّ أكثر من نصف القضايا المنشورة – وعددها حوالي 300 قضية تقريبا - اكتمل فيها الطور الأول وتم تحويلها إلى القضاء الجالس؛ بل فيها قضايا توفي فيها أمنيون وصدرت بحق المتهميـن عقوبات شـــديدة، وصلت حد حكم الإعدام، خلافا لما روّجه البعض. يجب أن نعلم أنّ الاجراءات الجنائية سواء كانت في قطب مقاومة الإرهاب أو بالنسبة إلى القــــطب المالي، تــمر بست محاكم: في طـــور البحـــث لدينا حاكم التحقيق ثم دائرة الاتهام ثم محكمة التعقيب؛ ولدينا في القضاء الجالس أطوار الابتدائي والإستئناف والتعقيب. كما لا ننسى استنفاذ آجال الطعون لدى كل المحاكم من طرف كل المتهمين. فكلما كثر عدد المتهمين تفاقم «دوران» الملــف؛ وكلها ضمـــانات جاء بها التشريع ويجب احتـــرامها. قد يتصــــور من ليس له ثقافة قانونية أنّها إجراءات بسيطة، تمر من مركز الشرطة إلى النيابة العمومية، ومنها إلى المحكمة التي تصدر الحكم البات، وهذا غير صحيح طبعا.

هل تنوون تعزيز هذين القطبين بكفاءات جديدة؟

شرعنا في ذلك خلال هـذه السنة على المستوى البشري ومن ناحية لوازم العمل؛ وسنواصل تعزيز قطب قضايا الإرهاب بعدد من القضاة خلال السنة القضائية المقبلة؛ ونتمنى أن يبتعد عن بلادنا شبح الإرهاب نهائيا، ولن تكون لنا حينها حاجة إلى مثل هذا الهيكل. أما بالنسبة إلى الجرائم المالية فليسـت هناك مشكلة حيث أنّ عددها ينمو بصفة طبيعية بالتوازي مع نموّ الاقتصاد الوطني.
كنت قاضيا مختصا في الإرهاب ولك صيت وخبرة مشهود بها دوليا في هذا المجال، بحكم اتصالك بزملائك كبار القضاة الدوليين في مجال مكافحة الإرهـــاب خلال بداية سنوات الألفين، وبمناسبة قضايا إرهـــابية جدت في تــونس خلال تلك الفترة. بوصفك وزير العدل، كيف تتعاملـــون اليــــوم مع الموقوفين والمحكوم عليهـــم في جرائم الإرهاب داخل السجون التونسية؟
 
التعامل معهم عادي؛ أي أننا لا نستطيع أن نفعل أكثر مما يجب، ولكن من جهة أخرى لا يمكن أن ننزل في تعاملنا مع المسجونين إلى حد ارتكاب جريمة التعدي على حقوق الإنسان؛ والموقوف إنسان في حالة تتبع إلى أن يقول القضاء فيه كلمته بالإدانة أو بإخلاء السبيل. لذا يوجد الموقوفون في سجون عادية ويعاملون بصفة عادية.

هل يُحتفظ بهم في مقرات إيقاف خاصة وهل هناك كثافة في السجون التونسية؟

كان هناك اكتظاظ؛ لكن اتخذت منذ حوالي شهرين إجراءات تقضي بإعادة توزيعهم على عدة مقرات بحيث لا يتجاوز عددهم نسبة 5 بالمائة من العدد الجملي في كل الفضاءات، بينما كانت النسبة تناهز في بعض الحالات 30 بالمائة.

هل يحاطون برعاية نفسية خاصة؟

هنـــاك رعـــاية طبية عادية. لكن وجب الإقرار بوجوب نقص في الإطار الطبي وشبه الطبي داخل السجون التونسية. هناك إثنا عشر طبيبا في سجن المرناقية بالنسبة لحوالي 7 أو 8 آلاف سجين...
فعلا، ولكن سنحاول تلافي ذلك مستقبلا. وقد اتخذنا مؤخرا قرارا بإحالة الإطار الطبي في السجون على أنظار وزارة الصحة العمومية باتفاق مع مصالحها؛ وهو أمر أعتبره إيجابيا لأنه يضفي مزيدا من النجاعة على متابعة الجانب الصحي لنزلاء السجون، بحكم ما يتوفر لوزارة الصحة من اختصاصات وإمكانيات.

هل ستواصلون نفس الفلسفة مع وزارة الشؤون الاجتماعية على مستوى التأهيل النفسي والإحاطة الاجتماعية؟

لا. لكن نحن حققنا أكثر من ذلك من خلال الإجراءات التي اتخذناها مؤخرا في هذا المجال؛ ولو أنّها لا تعدّ ثورة في هذا الميدان داخل السجون.

هل يمكن القول إنّ مشكل الاكتظاظ في السجون في طريقه إلى الحلّ؟

نعم وضعنا خططا لحل قضية الاكتظاظ وننتظر النتائج. لما نفعّل على سبيل المثال العقوبة البديلة، وهي منظومة موجودة في القانون وتسمح للقاضي بأن يعوض عقوبة السجن بعقوبة بدنية، كالقيام بأعمال يدوية (تنظيف أو تشجير، إلخ) في منطقة تابعة لولاية أو بلدية أو هيكل عمومي آخر؛ غير أنه لم يتم تفعيل العقوبة البديلة لعدم توفّر فضاءات يُحتفظ فيها بالسجناء المعنيين خارج أوقات العمل. لذا قمنا منذ شهر بمراسلة السادة الولاة لإعداد تلك الأماكن.

هل وضعتم  لذلك خطّة محدّدة ؟

لا، ولكن العمل جار لإنجاز المطلوب. كذلك شرعنا في إعداد العدة للعمل بالسوار الالكتروني ؛ غير أن ذلك يقتضي تنقيح المجلة الجنائية لأن استعماله غير متاح في النصوص التشريعية الحالية؛ وهناك لجنة مختصة تعمل الآن صلب الوزارة لإنجاز التنقيحات الضرورية ... الثابت أنّ استخدام السوار الالكتروني سيمكّننا من توفير اعتمادات هامة في الميزانية ؛ حيث أنّ كلفة السجين تقدّر اليوم بـ 23 دينارا و 500 مليم يوميا تقريبا، بينما تنخفض الكلفة إلى 11 دينارا و 500 مليم. يوفر السوار الالكتروني حلّا مناسبا لموضوع يقلقني كثيرا ويتمثل في مسألة مدة الاحتفاظ بالموقوف انتظارا لصدور الحكم البات بشأنه. حيث لنا أن نتصور مدى الضرر والظلم اللذين يلحقان به عندما تتضح براءته، مما قد يتسبب في إحراج القاضي المتعهد بالقضية، دون الحديث عن انعكاسات ذلك على مستوى كـــثافة المسجـــونين. كل هــــذا يمكن تلافيه باعتماد السوار الالكتــروني الذي يمنع الموقوف من تجاوز حدود مسكنه.

هل يمكن لهذا المشروع أن يرى النور خلال سنة 2017؟

آمل أن يتم قبل هذا التاريخ.

هل قمتم بإجراءات في موضوع أسهل من هذا، مثل التواصل الأسري للمسجونين؟

نعم، اتخذنا قرارا بإكثار عدد الزيارات المباشرة للمساجين. وأذكر أنه في ما مضى تتم المقابلات مع السجين من وراء حاجز بلوري، إلا في حالات نادرة وبعد قضاء السجين لمدة عقوبة طويلة.  كذلك سنقوم بتركيز وحدات «التاكسيفون» داخل السجون، حسب تجارب أردناها أن تكون نموذجية وتجري تحت المراقبة؛ وسنبدأ بسجن الناظور. فيما مضى كانت هناك تجاوزات في استعمال الهواتف الجوالة داخل السجون .وسيتمكن السجين عبر «التاكسيفون» من الاتصال الفوري ببعض أفراد عائلته حسب ترتيبات معينة؛ مما سيخفف عنه الضغط النفسي. و قد نمكن السجناء من استعمال  منظومة «الواب كام» او «السكايب». نذكر أن بعض المسجونين يتعرضون بطول مدة العقوبة إلى تغير في الملامح وفي النفسية وقد يفقدون بعضا من أقاربهم كالأب أو الأم؛ دون التمكن من مشاهدتهم قبل الوفاة أو من ​حضور مراسم الدفن. بفضل «الواب كام» يستطيع السجين أن يتخاطب مباشرة مع أسرته. 
 
كل هذه الإجراءات والأفكار مبنية على مبدإ التخفيف من القطيعة التي يمكن أن تنشأ بين السجين والمجتمع؛ عوضا أن يتوجه هو إلى المجتمع نجعل المجتمع هو الذي يسعى لربط الصلة به... خلاصة القول إنّ السجين في كل هذه الحالات يشعر أنّ المجتمع لم يتخل عنه رغم كونه في حالة عقاب. في الماضي كان السجين يعاقب مرتين : الأولى لما يصدر في حقه الحكم وينفذ والثانية لما يخرج من السجن ويشعر أن المجتمع يرفضه ؛ وقد يصل به الأمر إلى تفضيله السجن على العودة إلى المجتمع، لأن الأول أرحم من الثاني.

قام القضاة بحركة احتجاجية نظرا إلى تدهور ظروف العمل في المحاكم وتدني وضعياتهم المالية. ما هو تعليقكم على هذا؟

رداءة ظروف عمل القاضي ليست جديدة بل هي عامل موروث ونتيجة عقلية سياسية؛ ولما نعود إلى الوراء سنوات وسنوات نشعر وكأنه كانت هناك إرادة لجعل وضعية القاضي متدنية ،علما وأنّ القاضي اليوم في حالة تعتبر أفضل بكثير مما كانت عليه في الماضي؛ وأنا عشت تلك الفترة الصعبة حين كان القاضي يتقاضى 270 دينارا شهريا، ولم تصل إلى 1500 دينار إلا منذ 10 أو 15 سنة. كانت ميزانية وزارة العدل أيضا في آخر الترتيب وأقلها حجما، تكاد لا تفي بالحاجيات الضرورية من وسائل العمل المكتبية. كما أنه من الصعب أن يستطيع قاضي اليوم الحصول على مسكن لائق إلا في آخر مساره المهني، وبشرط انتهاج سياسة تصرف صارمة. مقابل ذلك يعتقد المواطن العادي أنّ وضعية القاضي جد مترفهة. هذا بصفة عامة وضع القضاء.  بعد الثورة عرف المرفق القضائي كغيره من المرافق والمؤسسات والقطاعات في البلاد التونسية بأسرها تراجعا ملموسا، مما حال دون النهوض بالمرفق القضائي وبسائر المرافق الأخرى في البلاد. لكن هذا لا يمنع من القول إنّ وضعية القاضي التونسي تعتبر غير طيبة مقارنة بما يتقاضاه زميله في البلدان المجاورة أو البعيدة.  

وزير عدل قاض أعتقد أنه أكثر وعيا من غيره بوضعية القضاة...؟ 

لذلك كنت منذ حين بصدد شرح تلك الوضعية. لكن سنحاول تحسين وضعية القضاة ولكن في الحدود التي تسمح بها أوضاع البلاد التي يتفهمها القضاة . لكن لا بد من القيام بإجراء في هذا الصدد. وهذه مناسبة لأحيي سلك القضاء الذي تعرض بعد الثورة لكثير من المشاكل والأتعاب والهجمات. غير أن ردة فعل القضاة اتسمت بالهدوء وبكثير من الأناة والصبر...

ألا ترون أنّ الإطار البشري غير كاف. ثمّ لماذا لم يقع الترفيع في عدد القضاة ولماذا لم يُفعّل أمر قديم يتعلق بتمكين عدد من المحامين الشبان من الالتحاق بسلك القضاء؟

لو طبقنا المعايير المعمول بها في البلدان المتقدمة لوجب مضاعفة عدد القضاة التونسيين خمس مرات. وهذا أمر مستحيل طبعا. تنتدب الوزارة سنويا حوالي 200 قاض جديد، حسب ما تسمح به الميزانية العامة للدولة. ربما ستتحسن الأمور في المستقبل؛  لكن هذا هو واقع الأمر اليوم. في ما يخصّ  الترفيع في عدد القضاة. تبقى الانتدابات المذكورة إذن دون حاجيات الوزارة الفعلية بكثير؛ بدليل تراكم ملفات القضايا بمختلف أنواعها وأحجامها على مكاتب القضاة. والأمر يهم أيضا كتبة المحاكــم وإطار الأعوان والعملة.

هل فكّرتم في هذه الأسلاك؟

طبعا . مثلا سلك كتبة المحاكم يعتبر العمود الفقري للمحاكم إذ لا يمكنها أن تعمل دونه. والكتبة يبذلون جهودا كبيرة للقيام بالمسؤوليات المنوطة بعهدتهم رغم تدني وضعيتهم المادية وصعوبة ظروف العمل المتاحة لهم.

كيف يمكن ضمان مزيد الاختصاص للقضاة، مثلا هناك نقص في القضاء المالي والقضاء الجبائي والقضاء البنكي؟

إنّها لمسألة هامة جدا في الميدان القضائي. أشعر بالأسف لما أرى أن حركات النُقل القضائية لا تُراعى فيها مسألة الاختصاص. مثلا يُعيّن قاض في خطة حاكم تحقيق وهو لم يباشر النيابة العمومية تماما، بل اختص في ميدان الشغل أو في المدني. هو نفسه مظلوم جراء تلك التسمية. كذلك يعين آخر وكيلا للجمهورية وهو لم يعمل في الميدان الجزائي؛ أو عمل لسنوات طويلة في الجنائي وفي يوم ما يجد نفسه رئيس دائرة مدنية. هذا مشكل كبير بالنسبة إلى سير القضاء. شخصيا عملت في الجنائي ولو عرض علي العمل كرئيس دائرة في المدني لاعتذرت رغم إلمامي بالمدني ولكنه يبقى خارج اختصاصي. لو يقوم القاضي المعين خارج اختصاصه باجتهاد خاطئ لن يحمل الخطأ على كاهل قلة الخبرة بل على أشياء أخرى . إذن الاختصاص هام جدا لأنّه هو الذي يكوّن العلامات المضيئة في أي مجال من المجالات. ونحن اليوم في القضاء بحاجة إلى أسماء كبرى تصنعها الخبرة؛ لكن يجب أن نترك لها الوقت حتى تتكون. سنضع إن شاء الله مخططا لتكوين القضاة حسب اختياراتهم ، لأن القاضي كلّما مال  إلى اختصاص بعينه إلّا وارتفعت حظوظ نجاحه فيه.

مسألة استقلالية القضاء مسألة جوهرية وأعتقد أنّها مطلب من المطالب الملحة بعد الثورة. ما هي علاقة الوزارة بالنيابة العمومية؟

اليوم كلما يقع إشكال في قضايا هامة أو في مسائل عادية ينادي البعض : أين وزير العدل؟ في مجلة الإجراءات العمومية وزير العدل هو رئيس النيابة العمومية؛ والكلمة التي توجه للوزير دوما هي : إنك أنت رئيس النيابة العمومية.  لكن في الوضع الحالي ليس للوزير أي سلطة على النيابة العمومية التي يرأسها بحكم القانون. يعني أنّ الوزير لا يسمي أعضاء النيابة العمومية لأنّ التسمية كما هو الشأن بالنسبة  إلى كامل سلك القضاء تدخل في مشمولات الهيئة الوقتية للقضاء العدلي والتي ستؤول بعده إلى المجلس الأعلى للقضاء. ليس للوزير أي رأي في تسمية أعضاء النيابة العمومية. ولكن قانونيا هو رئيسها.

إذن هناك خلل ما في المنظومة؟

نعم. لا بد من إدخال بعض التنقيحات على سير القضاء في هذا المجال، إذ نستطيع ضمان استقلالية القضاء حينما نُبقي تعيين القضاة ضمن مشمولات المجلس الأعلى للقضاء. لكن في تقديري من المفروض أن يكون للوزير رأي في تعيين الفريق الذي سيعمل معه، وهم أعضاء النيابة العمومية؛ لأنه سيحاسب على تصرفاتهم.

هل ستقومون بمبادرة تشريعية في هذا الاتجاه؟

لم أفكر في الموضوع في الوقت الراهن. نحن نتقدّم شيئا فشيئا في مشاريع أخرى هامة؛ حيث أنّنا الآن بصدد إعداد آليات انتخاب أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، عن طريق الهيئة العليا للانتخابات، بعد مصادقة مجلس نواب الشعب  على القانون المتعلّق به، وسنستمر بمشيئة الله في السير قدما إلى الأمام.

نلاحظ ارتفاعا هاما لعدد المحامين الذي يناهز حوالي 10000 محام. وتنادي كثير من الأصوات بضرورة توحيد مسالك الدخول إلى هذه المهنة، و ترى أخرى أن التحاق عدد من القضاة المتقاعدين أو المفصولين عن العمل بالمحاماة من شأنه أن يزيد في إغراقها. فما رأيكم في هذا الموضوع؟

سأعطيك رأيي الشخصي.فعلا يلتحق عدد من القضاة بعد التقاعد بسلك المحاماة؛ وأنا أتفهم هذا المنحى، لأنّ من يقضي 40 سنة ضمن الأسرة القضائية ثم يجد نفسه مجبرا على مغادرتها بحكم بلوغ سن التقاعد لا يجد سبيلا آخر للعودة إليها إلا عن طريق المحاماة التي تعتبر الجناح الثاني للقضاء؛ وكأن الأمر يتعلق بصعوبة مغادرة القضاء... وأنا أعرف العديد من القضاة، بعد دخولهم سلك المحاماة، لا يقبلون عددا كبيرا من النيابات ولا يترددون بكثرة على المحاكم. هي إذن دواع نفسية أكثر منها دوافع مادية، وقد واكبت عديد الحالات مما ذكرته. بالنسبة إلى مسألة توحيد مسالك الدخول إلى المهنة، هذا أمر متروك في رأيي، للأسرة القضائية بصنفيها وما تقرره بشأنها يطبق. 

قد نتفّهم تمكين القضاة المتقاعدين من الالتحاق بالمحاماة. لكن من غير المعقول أن يسمح للقضاة المفصولين لأسباب تأديبية بنفس الامتياز، وكأنه يسمح للمحاماة بقبول عناصر لفظتهم السلطة​ القضائية.

من المشروع القول بألا يقبل مطلب الالتحاق بالمحاماة صادر عن كل من ثبتت إساءته إلى سلك القضاء. إذ كل من يمس أو يشين القضاء يمس ويشين المحاماة، والعكس بالعكس، لأنه لا يوجد فرق بين السلكين اللذين يكملان بعضهما؛ فنحن أسرة واحدة في نظر عموم المواطنين سلبا وإيجابا.

ما رأيكم في توسيع مجالات العمل بالنسبة إلى المحامين؟ ولماذا لا يقع إقرار خطة المستشار القانوني الإجباري للشركات الاقتصادية؟

أولا ما يؤلمني شخصيا رؤية محام شاب في ظروف سيئة، على مستوى الشكل. هناك من  هو غير قادر على دفع معين كراء مكتبه وهناك من لا يستطع توفير مكتب محاماة  وتجهيزه أصلا. بودي أن يعمل المحامي في ظروف مادية ونفسية طيبة تمكّنه أيضا من اجتناب الخطإ ، لأن الحاجة هي التي تدفع الشخص نحو ارتكابه، وهذا ينطبق على عامة الناس. وبالعودة إلى ظروف المحامين، خاصة الشبان منهم ، يجب علينا التفكير بجد في أكثر من حلّ، لمساعدتهم على العمل بكرامة، ولكي يشعر المحامي الشاب أنّ مجهود الدراسة والتخرج لم يذهب سدى بل مكنه من الحصول على عمل قار ولائق مثل بقية الناس. وكان هذا من أهداف التنقيحات الأخيرة الخاصة بمجلة الإجراءات الجزائية؛ وقد فتحت فعلا نافذة طيبة بالنسبة إلى السادة المحامين. كما لنا قانون الإجراءات المتعلق بالمؤسسات التي تجتاز صعوبات اقتصادية. أيضا وجدت منذ توليت الوزارة بعض الأوامر المعطلة، ومنها ما يتعلق بصندوق التقاعد وتأجير المحامين؛ وقد تولت الوزارة إصدارها مؤخرا في الرائد الرسمي.  

 
 لا بد لنا مع ذلك أن نواصل البحث عن منافذ أخرى وإيجاد حلول لتحسين وضعية المحامين  وخاصّة الشبان منهم، وأنا موافق عل كل حل مرضي ومتفق عليه؛ ومنه الاقتراح الذي تقدمت به والذي يجب أن يحال على الأطراف المعنية من محامين وأصحاب الشركات، وننظر في الصيغ التي تلبي الطلبات وترضي كل الأطراف.

هل من  نظرة مستقبلية تشجع على بعث شركات المحامين، علما وأن الوقت أصبح يفرض تكوين مثل هذه الشركات نظرا لتشعب المواد القانونية؟

لم يُعرض علي هذا الملف ولم يكن موجودا من بين الملفات العالقة التي وجدتها؛ ولم يذكر أمامي رغم أني تقابلت عديد المرات مع عــدد من السادة المحامين. وإذا كان للسادة المحـــامين مقترحات في هذا الشأن فبالإمكـــان طرحـــها على مـــائدة الحـــــوار والدرس.
 

قمتم في المدة الأخيرة بتدشين محكمة صفاقس 2 كمحكمة نموذجية. كما بلغنا أن محكمة تونس سيقع نقلها إلى حي الخضراء خلال مفتتح السنة القضائية المقبلة. هل هنالك تفكير في تغيير طريقة الاطلاع على الملفات الذي هو الآن ورقي، بينما أصبح الاطلاع في عديد بلدان العالم معلوماتي، مثل ما هو موجود لدى حافظ الملكية العقارية؟ هل هنالك تفكير في إدخال المنظومة المعلوماتية إلى المحاكم حتى يسهل الاطلاع على الملفات؟

هذا موضوع ليس بالصعب ولكنه يستلزم مزيدا من التفكير وكثيرا من العمل. ذلك أن وضع كل المحاكم حاليا ليس على ما يرام، من حيث التجهيزات ومن حيث البنية ومن جميع النواحي. كما أن حجم ميزانية الوزارة لا يسمح الآن بأن نحدث نقلة نوعية على مستوى الوضع المادي ونصل به إلى حد معقول ومقبول. كما اتخذت خلال السنوات الأخيرة قرارات بصورة مستعجلة. لما نحدث على سبيل المثال محكمة جديدة، لابد أن يتم ذلك بناء على دراسة وعلى توفّر إمكانيات. لقد تقرر إحداث محاكم ولما بادرنا بفتحها لم نجد لا قضاة ولا كتبة ولا إطارا إداريا، بل حتى التجهيزات والإعلامية لم تكن متوفرة. مما اضطرنا بخصوص محكمة سيقع فتحها في السنة القضائية المقبلة على الاقتطاع من ميزانية التصرف التابعة للوزارة لمواجهة حاجيات المحكمة الجديدة. فالقرار اتخذ بينما الإمكانيات لم تكن متوفرة؛ وقد تصرفنا لأن القرار اتخذ. لذا لا سبيل لفتح محاكم جديدة على حساب السير العادي لمحاكم قائمة، ولا مجال لفتح محكمة بطريقة عرجاء لا تتوفر فيها أبسط معايير العمل الإداري العادي من تجهيزات وأعوان وقضاة. 
في ما يخص الإعلامية، تجربة الوزارة لم تكن ناجحة بالمرة. ذلك أنها أنجزت بأنصاف وأرباع حلول «وبمقتطعات» من هنا وهناك. كان من المفروض أن تكون المنظومة الإعلامية كاملة ومجدية وناجعة وتعمل لفائدة الجميع. لا تصبح التجربة ناجحة إلا لما يختفي الورق من المكاتب ونجد دقة وجدوى في استعمال المعلوماتية داخل المحاكم ، وأيضا لما نجد أن المعلومة تصل إلى المكاتب المعنية وإلى المحامي وإلى المواطن؛ إذا لم تسد المنظومة الإعلامية خدمات لكل هذه الشبكة.  خلال المدة الأخيرة، وبعد النظر على المستوى الحكومي في برنامج ميزانية التنمية للخمس سنوات المقبلة، تفطنت إلى أن ميزانية المنظومة الإعلامية للوزارة تشكو نقصا هاما. فتفضل السيد رئيس الحكومة بإقرار اعتمادات إضافية خاصة بها. وسنشرع في العمل على المنظومة المعلوماتية بطرق علمية وجدية، اعتمادا على كفاءات يجب أن نوفرها. هذا مبدئيا التوجه الذي اتخذناه  وإن شاء الله يحالفنا فيه النجاح، وسنتعاون جميعا بتبادل الخبرات والآراء على وضع منظومة إعلامية ناجعة. 
 
لقد كان الارتقاء بالمنظومة الإعلامية من أول مشاغلي لما حللت بالوزارة؛ ذلك أنه بفضل تطويرها يرتقي عمل الإدارة والمحاكم ويصبح الجميع يعمل في راحة أكبر؛ ونصبح مثل بعض البلدان المتقدمة التي يمكن للمواطن فيها أن يتواصل مع المحكمة عبر هاتفه الذكي ؛ ولا أتحدث عن مكتب المحاماة . تلك هي أمنيتي. من المؤسف اليوم أن يتحول كاتب المحامي والمواطن ويقطع المسافات مع مشاكل حركة المرور، للحصول على معلومة من المحكمة ( عدد القضية أو تاريخ الجلسة). نحن في واد وغيرنا في واد آخر. 

المواطن والمحامي يشتكيان من مواقيت الجلسات التي لا تحترم، وفي هذا مضيعة للوقت وإهدار لطاقات هامة للمواطن،  وكذلك يجبر المحامي على الانتظار الطويل في ظروف صعبة ويشاركه فيها القاضي نفسه.  نلاحظ كذلك تأخيرا كبيرا جدا في تلخيص الأحكام، قد يصل إلى ستة أشهر وأكثر، رغم ما يقوم به القضاة من مجهود مضن. هل هناك مشروع لتحسين ظروف العمل في المحاكم؟

ينجم عن الأزمة التي تتحدث عنها نوع من التوتر، وأنا أتفهم أوضاع المواطنين والمحامين والموظفين الذين يعملون ويتوجهون نحو المرفق القضائي لحاجتهم إليه. لما نحلل الأسباب نعود دوما إلى معضلة النقص في الإطار الوظيفي وفي التجهيزات. تشكو المحاكم اليوم نقصا فادحا في أعوان الرقن وقد اضطررنا في وقت من الأوقات منذ ثلاث سنوات إلى الاستعانة بأعوان من خارج الوزارة  لتجاوز الإشكال الهيكلي. لقد تم تسليم نسخ من الأحكام مدونة بخط اليد. هناك نقص أيضا في المعدات والحواسيب. لابد من توفر وسائل العمل لتلافي كل هذه النقائص.

نصل إلى السؤال الأخير والمتعلق بالمنظومة التشريعية.هل حان الوقت لإجراء تنقيح جذري لمجلة المرافعات التجارية والمدنية، وكذلك  للمجلة الجزائية التي شرعتم في تنقيحها ولكن ما زالت عدة أبواب تتطلب مراجعة؟

لنا مجموعة من القوانين التي هي الآن بصدد التنقيح؛ وهي الآن معروضة على  لجان تتكون من قضاة ومحامين وأساتذة جامعيين وخبراء؛ وأنت ذكرت عدة مجلات من بين النصوص المعنية. هناك تقدم ملحوظ في التنقيحات التي تهم مجلتين، من بينهما مجلة الإجراءات الجنائية التي أشرفت أشغالها على النهاية؛ بينما هنالك بطء في أعمال لجان تخص مجلات أخرى؛ و سأنظر مع  أعضاء هذه اللجان في طرق الإسراع بوتيرة عملها، لأنه بودي أن تعمل بطرق أسرع لكي ننجز التغييرات في آجال غير بعيدة، ونحملها هذه الأفكار الجديدة التي من شأنها أن ترتقي بالمرفق القضائي الوطني.
حاوره عبدالحفيظ الهرڤام وتوفيق الحبيب
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.