مسيرة البارون ديرلنجي: من أجل الهويّة المعماريّة والتّراث العمراني
تحدّثنا في مقالين سابقين (أنظر «ليدرز العربيّة» في عدديها 3 و 4)، عن شخصيّة البارون رودولف ديرلانجي وعن مجمل أعماله الرّائدة في مجالات عديدة منها الرّسم والموسيقى والعمارة؛ وسنتطرّق في هذا المقال الثّالث والأخير إلى علاقته بالتّراث المعماري ودعوته إلى إحياء تقاليده وإلى المبادرات التي اتّخذها للدّفاع عن الخصوصيّات العمرانيّة للمدن التّونسيّة وسعيه لدى سلطات الحماية إلى استصدار النّصوص الرّامية إلى المحافظة عليها. وقد اتّسم عمله في هذا المجال بنضاليّة لا تقلّ عن تفانيه في خدمة الموسيقى العربيّة خلال فترة لم تكن تلك السّلطات تبدي كبير اهتمام بالتّراث الإسلامي المادّي واللاّمادي في تونس، بينما كانت تصرف كلّ عنايتها للآثار الرّومانيّة باذلة غاية الجهد في التّنقيب عنها ودراستها وترميمها.
التّراث العربي الإسلامي والإيديولوجية الاستعماريّة
عندما استقرّ البارون بتونس سنة 1910، كان نظام الحماية قد وطّد سلطته واستكمل تحكّمه بمقدرات البلاد وانتهج سياسة لا تعبأ بشخصيتها الحضاريّة، بل كانت تتعمّد انتقاصها وقد بدا ذلك جليّا من خلال الكثير من المواقف والأدبيّات. ولنذكر في هذا المجال حملات الاستعماري فيكتور دي كارنيير Victor de Carnières في بداية القرن العشرين، على التّونسيين وما كان يتردّد في المحافل وحتّى في بعض الأعمال الأدبيّة من ازدراء وإهمال للتراث التّاريخي التّونسي إلاّ ما تعلّق بآثار التّاريخ القديم التي كانت الإيديولوجية الاستعماريّة تسعى من وراء إحيائها إلى استعادة أمجاد روما وقرطاج وتجاهل أيّ إضافة للعهود التي تلتها. لم يكن يخطر ببال من بيدهم القرار أنّ للتّراث المعماريّ الإسلامي وخصائص المدن التّونسيّة العريقة أهمّية تذكر مادامت، في نظرهم، نتاجا لخواء حضاريّ دام قرونا طويلة. ونجد مثالا على ذلك النّكران في مقال نشره الأستاذ غوان المحامي الفرنسي بمناسبة معرض «الصّالون الفنّي» الأوّل بـ «المجلّة التّونسيّة» لسان مؤسّسة «معهد قرطاج» (L’Institut de Carthage)، حيث يقول: «إنّ هذه الأرض (تونس) التي أجدبت منذ قرون وقُدِّرَ لها، كما يبدو، أن لا تعرف سوى بعض المعاملات التّجاريّة البسيطة وسَدَّت آفاقَها مفاهيمُ الذّهنيّة السّاميّة الضيّقة (المضاربة واحتساب الفوائد)، نراها اليوم تفيق من سباتها تحت التّأثير المُخصب للعبقريّة الآريّة (كذا) الآتية من فرنسا». كثيرة هي الأمثلة عن تلك النّظرة الدّونيّة، بل العنصريّة، للشّخصيّة التّونسيّة في مختلف مكوّناتها الثقافيّة والإنسانيّة والتي غالبا ما تُختصر، إن ذُكِرَتْ، في بعض المظاهر الفولكلوريّة كالصّناعات الحرفيّة بصفتها «فنّا أهليّا» art indigène لا ضرر في الاهتمام به كشاهد على حضارة آيلة إلى الاندثار.
نشوء الوعي بأهميّة التّراث المعماري والعمراني
في ذلك المناخ المنكر في أغلبه للإضافات الحضاريّة العربيّة الإسلاميّة، لم تُسَجَّل سوى بعض المعالم المتفرّقة وظهرت محاولات محتشمة في شكل لجان أو جمعيات أنشأها بعض الأفراد من المستوطنين الأجانب وأنفار من الأهالي (على غرار بادرات اتّخذت في الجزائر)، دعت إلى العناية بـ «تونس القديمة» دون أن يكون لها تأثير يذكر في سياسات سلطة الحماية التي استمرّت في التّهاون بأوضاع المدن القديمة؛ وقد كانت النّخبة التّونسيّة آنذاك منشغلة بالعمل السّياسي والصّحفي في مواجهة المستعمر ولم تكن طرحت بعد المشكلة الثّقافيّة في كلّ أبعادها. وكان أن ارتفع فجأة صوت البارون رودولف ديرلنجي في مواقف توصّف الحالة المتردّيّة للتّراث المعماري المحلّي والموسيقى بوضوح وقوّة وشموليّة واضعة بذلك أسس وعي جديد بأهمّيّة ذلك التّراث تاريخيّا وجماليّا وأتبع البارون ذلك بسعي دؤوب لدى سلطات الحماية على مدى سنوات،مطالبا بالنّصوص القانونيّة الكفيلة بحماية التراث المعماري والعمراني التّونسي وعدم المساس بمميّزاته الأصيلة.
نتائج النّضال من أجل المدن التّونسيّة
لقد أثّر البارون بما كان يكتسبه من وجاهة ونفوذ ومن خلال شبكة علاقات بالإدارة والأعيان في تنامي الوعي بقضايا التّراث الإسلامي وكان لا يتهيّب أحيانا من مجادلة المسؤولين بلهجة حازمة ناعيا عليهم إهمال التّراث المعماري والعمراني العربي وتفضيلهم العناية بالأطلال؛ وقد أدّت جهوده إلى صدور الأمر المؤرّخ في 6 أوت 1915 الخاص بمنع أيّ تحوير لواجهات المباني والحنيّات والسّطوح بقرية سيدي أبي سعيد دون الحصول على ترخيص من البلديّة. وكانت تلك فرصة اغتنمها لخوض معارك جديدة ممّا أثمر نصوصا قانونيّة أخرى لحماية النّسيج العمراني لمدن تونسيّة مثل القيروان (1921) وسيدي «أبوسعيد» (1920 و1921) وصفاقس (1925) وبنزرت (1926) وسوسة (1927).
سياق عمل البارون ودوافعه
ولنتساءل الآن عن الأسباب التي دفعت البارون ديرلنجي إلى خوض تلك المعارك من أجل الحفاظ على التّراث المعماري والعمراني في تونس وعمّا يعنيه ذلك لرجل يفصله عن واقع التّونسيين في ذلك الوقت، الأصل العرقي والهويّة الثقافية والحياة في قصر باذخ كان المفروض أن يعزله عن هموم النّاس. هل هو الحلم الشّرقيّ الذي كان يسكن، على مدى قرون، الذّات الأوروبيّة المتأرجحة بين الخوف والانبهار من الآخر ويدفع الكثيرين إلى تمثّل صورة عن الشّرق عبر التّخيّل أو الرّحلات البعيدة أو المغامرات الدّراميّة؟! الواقع أنّ تجربة البارون تبدو من ذلك الصّنف النّادر الذي ينتهي إلى مغامرة حقيقيّة تتخطّى الإعجاب والانبهار إلى شبه صوفيّة قد ينتهي مسارها إلى الذّوبان في ثقافة مغايرة. لقد حلم ديرلانجي بالشّرق قبل القدوم إلى الأرض الأفريقيّة على طريقة الرّسّامين الأوروبيين المولعين بمظاهره الغريبة عن ثقافتهم وكانوا يجدون متعتهم في الخلط بين الواقع وبين الرّؤى الذّاتيّة. غير أنّ تجربته الخاصة اختلفت عن تجارب غيره بمعايشة النّاس ممّا أتاح له تجاوز التّمثّل المتعارف للشّرق لاكتشاف قيم انسانيّة وروحيّة ثريّة بفضل صحبته للشّيخ أحمد الوافي. لقد حفزه ذلك للغوص في ثقافة محلّيّة كانت السبيل إلى تعرّفه تدريجيّا على منابع حضارة أوسع فكرّس حياته لخدمتها والتّعريف بها لا كباحث يكتفي بالتّساؤل والبحث الأكاديميّ وإنّما كرائد في مغامرة روحيّة من قبيل التّجارب عاشها بعض الأوروبيين مثل الكاتبة إيزابيل إيبرهاردت والرّسّام نصر الدّين دينيه.
قصر النّجمة الزّهراء: التجربة والرّمز
يقدّم قصر النّجمة الزّهراء الذي استمرّ بناؤه من 1911 إل 1922، على هضبة جبل المنار شهادة باهرة على مغامرة البارون الفكريّة والفنّية والرّوحيّة، ويختصر على نحو تطبيقي ما فهمه من الفنون الإسلاميّة في مجال الأثاث والعمارة ويعبّر عمّا أنجزه في مجالات البحث النّظري الموسيقيّ، فجاء في بنائه تأليفا لعناصر مختلفة من الأساليب والطّرز الموروثة في المعمار والزخرف تنتمي إلى الفنون المحلّيّة والشّرقيّة والتركيّة والأندلسيّة وخصّص به أحيازا وظيفيّة لممارسة الموسيقى. إنّه معلم نادر يقدّم خلاصة فكر وعمل تتسّق فيه العناصر المتحفيّة والجماليّة بالتّجربة المعيشة ويؤرّخ لمرحلة نشأت خلالها بوادر وعي بالذّات أثّر في الكثيرين من التّونسيين ممّن تعاملوا مع البارون ومن جاء بعدهم من أجل الحفاظ على هويّة عمل الاستعمار على طمسها.
علي اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق