ماي 2016 عيد الفلاحة: ''عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ ''
احتفل فلاحو تونس يوم 12 ماي بعيد الفلاحة وقد انقضى 52 سنة على جلاء المعمرين عن الأراضي الفلاحية؛ فكان عيدا ويا له من عيد. فكان الاحتفاء به بقصر المؤتمرات بالعاصمة وحضره عديد الفلاحين و ممثلوهم بالاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري.،على أنّ لسان حال الكثير منهم كان يردّد ما قاله، منذ أكثر من 1000 سنة، أبو الطيب المتنبي:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
و قدّ تحدّثت الصحف المكتوبة و المرئية عن أحاسيس الحاضرين من الفلاحين وأطرهم و لست أنوي من وراء هذا المقال إعادة توصيفهم لما جرى أو ما كانوا ينتظرونه منه ؛ خاصة وأنّه صادف مرور تلك العاصفة الهوجاء التي قضت على الأخضر واليابس في أكثر من معتمدية من معتمديات الجنوب.
وكان رئيس الإتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري قد أجاد في تشخيص أوضاع القطاع بطريقة - وإن كانت مختزلة – لكنّه جمع فأوعى وأوضح بصفة كاملة وشاملة؛ لا أقول ما يمرّ به القطاع من أوضاع مترديّة حاليا؛ بل هو نَقَلَ للحضور ما يشهده هذا القطاع من تدهور مستمر ومعاناة للذين يرتزقون منه منذ عقود وما يعيشه طرفا العنقود (الفلاح و المستهلك) من تعثُرات انجرّت عن انعدام أيّ مرجعية ولا سياسة فلاحية في السابق وعن ضبابيةِ ما يُنتظرُ من سياسةٍ لاحقةٍ .. حتّى أصبح المرءُ يردّد الآية الكريمة'' ...أليس الصبح بقريب...'' صبح يخلصُ القطاع من شِعاب التردد المميت بينما هو الأَوْلَى بِنَا وضعه على مَدارِ فلاحة مستدامة في أسرع الأوقات.
و في الحقيقة فقد كنتُ نبهت، و بكلّ تواضع، على صفحات جريدة الشروق يوم 29 جانفي 2011، أي غداة الثورة، في مقال ''ما هو تموقع الفلاحة في مشاريع الأحزاب''؛ إذْ أنّ أغلب هذه الأحزاب جديدة العهد بالسياسات الملائمة لمختلف القطاعات الفنيّة وخاصة بالنسبة إلى الفلاحة التي ترزح تحت مخلّفات الاختيارات العشوائية منذ أكثر من 30 سنة وعدم تفاعل هذه الاختيارات مع حاجيات البلاد ولا حاجيات القطاع؛ لافتا النظر للضرورة الملّحة لكلّ هذه الأحزاب وضع رؤية واضحة لمنوال مستدام للتنمية الفلاحية يتماشى مع طبيعة الموارد الشحيحة للبلاد وأهداف الثورة من استقطاب للشباب وتنمية الفلاحة وتطوير دخل الفلاحين. وقد كان؛ ولا يزال؛ الفلاح يردّد أمام كل السُلطات التي حكمت وتحكم البلاد «أنتم في واد ونحن الفلاحون في واد» شعورا منه أنّه هو المهمّش على الدوام ضمن مجتمع لا يكاد يحسب له حسابا... وتعبيرا منه عمّا يحيط بهذا القطاع من مخاطر جسيمة....
دور الدولة: القاطرة الأولى
وإذ يتناسى البعض ما كانت عليه الفلاحة - حتى قبل الإستقلال - اللُقمة المستساغة للدولة وللمجموعة الوطنية برمّتها والضحية المثلى لتمكين المواطن من الحصول على لقمة العيش بالثمن المتواضع على حساب دخل الفلاح ... ونخشى أنّها لا تزال كذلك ، ممّا يُنذر بانهياره التام و نزوح ما تبقى من فلاحين شيوخا وشبابا إلى المدن. فهي الجديرة الآن بتفهّم الجميع منْ أنّ الفلاحة تمثّل المصدر الأوّل للأُكلة اليومية للمواطن ولتحسين دخل البلاد من العُملة الصعبة، و أنْ لا مناص للدولة من القيام بدور يرتكز على تعمّقٍ في مسبّبات الوضع والشروع في الإصلاحات الجذرية والموجِعة منذ الآن... وتلعب دور القاطرة الأولى لقطاع ذو أولوية قصوى لتنمية البلاد وبعث مواطن التشغيل فيه ، على أن نتجاوز الفكرة الخاطئة السائدة – مع الأسف - في بعض الأذهان : فتسمية الوزارة ''بوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري'' هو أكبر دليل على أنّها وزارة تغطي ثلاثة قطاعات مختلفة، أحدها فقط هو الفلاحة، و أنّ ما يتمّ من نشاط أو تمويل لأحد هذه القطاعات لا يُغطي القطاعين الآخرين . فقد كانت ولا تزال تخصّص للموارد المائية أغلبية التمويلات العمومية بينما نجدُ أنّ هذا القطاع يستهدف سكان المدن والصناعة قبل أن يستهدف الفلاحة ولا يوجّه منه إلّا الجزء البسيط للقطاع الفلاحي وللعناية بالفلاح ومتطلبات عيشه . حتى أنّ تصريحات المسؤولين كانت ، عند انحباس الأمطار ، لا تسعى إلاّ في طمأنة سمان المدن (مستهلكي ماء الشراب...) و كأنّ برامج وحاجيات الزراعات تبقى أمرا ثانويا ...؛ ولذا فمن الغلط أنْ تُحتسََبَ كلّ التمويلات العمومية المخصصة للوزارة وكأنّها موجّهة إلى الفلاحة.
ومع هذا؛ فبالنسبة إلى استغلال القسط الراجع للفلاحة من هذه الموارد المائية ؛ فقد كان الفلاح دائم التشكي من عدم تأطيـره لتسويق منتوجه ومساعدته للحصول على ثمرة عرق جبينه ، ومن عدم قدرته على تنظيم صفوفه في غياب أي مساعدة مالية واقعية مرصودة لهذا الغرض ، ومن ارتفاع سعر الماء وتكاليف إنتاجه ... و كان من أفْدح أخطاء الدولة إغلاق عدد الكبير من خلايا الإرشاد – حتى فيما يُسمى بالمناطق السقوية العمومية – والتي تمّ انشاؤُها لمساعدة الفلاح على تعصير طرق عمله وتحسين إرباحية زراعاته... و إذْ يصعب تعداد كلّ النواقص التي جعلت من هذا الفلاح ، مع إعتذاري له، '' البقرة الحلوب للدولة ولمتساكني المُدُن...فقد كانت الإدارة، و موظفوها، هي صاحبة الأمر والنهي والقرار دون الإنصات لتذمر الفلاح الذي لم يبق له حتى دور استشاري في أي شأن من شؤون مستغلّته . وقد كانت الإدارة هي التي كذلك تقتطع من أرضه حاجياتها لبناء سد أو طريق ... و هي التي تحدد ثمن ذلك دون اعتبار لمَا ينجم عن ذلك من تفتيت لمستغلته ومن مضرةِ بوحدة مستغلته ... حتى كانت أحيانا تعوّض له قطعة أرضه بأرض في مكان قصي لا يستجيب للقواعد الفنية لتأديّة عمله؟
و الآن وبعد مرور أكثر من 5 سنوات بعد الثورة ، وقد ذكّر عبد المجيد الزار بالوضع، و بِأمله في تفهّم كلّ المواطنين والساسة لذلك ؛ فقد أصبح مثلا من غير المعقول أنْ تتخلي الدولة عن دورها التوجيهي والإرشادي ، كما تقرر ذلك فجأة وبدون إعدادٍ مسبقٍ قبل الثورة . بل أصبح من الضروري أنِ تتحمّل دور الإستنباط للمشاريع الكبيرة ، الطموحة ، الواضحة الأهداف ، المشغِلة والمضمونة التمويل... للخروج من هذا المضيق في القريب العاجل مع توعية الفلاح وتدريبه على القيام تدريجيا بدوره كصاحب مؤسسة اقتصادية ذات جدوى؛ ممّا يتطلّب عمل جدِّي جدا ، يتداخلُ فيه اللجوء إلى ضبطٍ و معرفةٍ جيّدة بالرؤية الدقيقة لهذه العمل.
و إذْ يعلم كل منّا الظرف الدقيق الذي تمرّ به البلاد وأن لا مجال لطلب الثريا من الدولة ... ؛ على أنّه يبقى حدّ أدنى لتدخّلها بعد ما آلت له الأوضاع:
فقد حان الوقت لتتخلّص من دورها كـ ''رجل المطافىء'' الذي لا يتدخّل إلاّ بعد حصول الكوارث (من جفاف أو برد أو فياضنات عارمة أو تداين مفرط...) لفائدة دور المُخطط الاستباقي لقطاع منهار تناسه الجميع منذ آونة طويلة؛
وكذلك لفائدة دورها بصفتها المموّل العمومي الواعي بأن لا تعصير لقطاع 75 بالمائة منه ممّن لا تسمح لهم مساحة مستغلاتهم حتى توفير القوت لأهاليهم بينما لا تزال الدولة تُفكّر وتخصص الأملاك الموروثة عن الحماية لبعث ''شركات إحياء'' المفترض قيامها بالتمويلات بعد ما رأينا تحت النظام السابق طرق استغلالها من طرف المموّلين المزعومين و ضعف مساهمتهم لا في مضاعفة الإنتاج ولا في التشغيل الذي وعدوا به ؛وكذلك لفائدة دورها بصفتها المسؤول الأوّل في الدولة الذي عاين عند توزيعه يوم 12 ماي شهائد الامتياز سنّ المستغلين الحقيقين للأرض من شيوخ كثيرا ما يفوق سنّهم الـ 80 عام – ولكن مع تقديرنا لهم فقد أصبح من الواضح جدّا أنّه لم يبق مجالٌ لتعاطيهم هذه المهنة في سنّهم وأنّه من دور الدولة ووزارة الشؤون الإجتماعية إعداد وضبط ''برنامج و قوانين تُشجع ماليا على تقاعد شيوخ المستغلين الفلاحيين في أقرب الأوقات وإقرار شباب يُعوّضهم'' يُخصّص ضمنه إمكانيات جديدة لتسليم المشعل لمستغلين شبان متفتحين لتطوير القطاع وتعصيره مثلما كان الشأن في عدد من الدول المتطورة ؛ وكذلك دورها بصفتها المسؤول عن قطاع كان اسمُهُ سابقا ''الارشاد'' قد ت إفراغه من الطاقات البشرية والمالية ليقوم بهذا واجب المقدس لا كمّا ولا نوعا ، خاصة ونحن نعلم ما آل إليه الوضع بعد تهرُب الدولة منذ أكثر من 20 سنة من انتداب للقوى البشرية القادرة القيام بهذه المهمة و بعثها لما سُمي ''بالمرشدين الخواص بمقابل'' بينما كان من الأجدى تأجيل بناء سدّ واحد – و نحن كثيرو السدود المستغلة جزئيا أو الغير المستغلة الآن – والقيام باستئجار أو انتداب العدد الكافي من المرشدين و تجهيزهم بلوازم عملهم ، بعد إرسالهم إلى الخارج لـ 6 أو 9 أشهر ليُتقنوا هذه المهنة الموجودة بقلة في برامج تعليم مدارسنا الفلاحية لتركيزهم على الأرض وتحت المراقبة اللصيقة لمتابعة عملهم ونجاعته.
و إْذْ أكتفي بهذا القدر من تعداد النواقص الفنية في دور الدولة لننظر في بعض النواقص التي تشوب دور الفلاح.
القاطرة الثانية : بين يدي الفلاحين
وبالتوازي مع دور الدولة وفي انتظار المخطط 2016-2020 وما قد يبرز فيه من ''بشائر'' للتنمية إنْ هو حظي بموافقة المجلس النيابي؛ فإنّ دورهم لا يقلّ أهمية ولا استعجالا عن دور الدولة ؛ إنْ أخذ مأخذ الجد وفي أسرع الأوقات.
فإنّي أوجّه هنا اللوم، و بكلّ أخوّة ، خاصة لكبار الفلاحين والفلاحين المتعلمين والفلاحين الشبان وابناء الفلاحين لمَا لهم من دور هامِ جدا للنهوض بالقطاع وقيادته القطاع و توجيهه نحو المسار السليم، فقد آن الأوان لتحمّل المسؤولية وقد شاهدوا الطرق المتعامل بها فيما بين ''المعمرين'' و ما تركوه من مؤسسات تعاونية وتعاضديات مثل ''تعاضدية القمح'' و ''تعاضدية الزراعات الكبرى'' ...؟
فإن كُنّا نردد جميعا أنّ صغار الفلاحين يمثّلون العدد الأكبر من الفلاحين وأنّ المستوى التعليمي في صفوفهم دون المتوسط وأنّ عدد الفلاحين الشبان لا يزال ضئيلا وأنّ الكثير من ابناء الفلاحين ينوون مغادرة ريفنا الجميل ... فلمن سوف تتوجّه الحكومات والنقابات والقوانين المطلوبة للنهوض بالقطاع ؟ فمسؤوليتكم هنا تاريخية فلكم الزعامة في المبادرة لتحريك القطاع في الإتجاه الصحيح ومُؤازرة بعضكم البعض فأنتم القادرون على القيام بدور القاطرة المستنيرة إلى جانب القاطرة الأولى التي تقودها الدولة لفائدة المجموعة المُسنّة أو الغير متعلّمة أو الفقيرة .... ومعاضدتهم بالمبادرة والعزيمة الصادقة لتغيير الأشياء والعادات البالية ومقارعة السلطة بالبرهان والحسابات المضبوطة ... فإنّي و إنْ كنت أعلم أنّ هذا ليس بالأمر اليسير، لكنكم الشريحة الأقرب للمبادرة والتضحية للإتيان بالجديد... مع رجائي الاّ تكُون إجابتكم لي ''بـ كلامُك يا هذا كالنافخات زمرا'' ...
فإن يعسُرُ تعداد كلّ ما تقدرون على بعثه وقيادته والتجديد فيه من شركات ومجامع وتعاونيات وحلقات تفكير وحلقات اقتراح ... ''مختلطة بين كلّ شرائح المستغلين'' محليا ووطنيا للتزويد وللمكننة وللتسويق وللدراسات الميدانية ولتصنيع منتوجكم .... مع الإستعانة بالخبرات والباحثين والأساتذة... الكثيرو العدد وبالاتصال مع مماثليكم بالخارج والتعاون معهم ... كما يجدر بكم المطالبة بوضع قوانين تقترحونها في هذا الشأن ... فاتحاد الفلاحين لا يقدر لوحده على القيام بكلّ هذه الأعمال ؛ فلا بد من بعث غرفة مهنية في كلّ ولاية ، وبعث شركات للخدمات الآلية و إصلاحها حيث لم يصبح الفلاح قادرا على الاقتناء المباشر لما يحتاجه من الآليات لارتفاع أثمانها ، فبعث منظومات التزويد والتسويق وتصنيع المنتوج تتطلب زعامات وقدرات محلية كثيرة قبل الزعامات والقدرات الوطنية... كما هي تتطلّب من يستنبطها ويقترحها و يطلب مساعدات الدولة لها ؛ وفي كلّ هذا يُعتبر المهندس الفلاحي المرجع والناشط الأمثل في مٌقدمة زمرة المُجددين .
و في الختام فإنّي أعتبر هذه المقترحات البسيطة مساهمة في الحوار الوطني حول الفلاحة حيث لم تُتح لي الفرصة للمساهمة فيه.
مالك بن صالح
المهندس العام في الزراعة
خريج الـ ENSSAA من باريس
- اكتب تعليق
- تعليق