مصالحة وطنية لا مقـايضـة بالمــراكنــة
عاد الحديث بقوة هذه الأيّام عن المصالحة الوطنية لكسر الجمود الذي أصاب مسار العدالة الانتقالية حيث تمّ في عهد الترويكا اعتماد آليات للتسوية والتعويض لم تكن شفافة. وبدا واضحا في المدّة الأخيرة أنّ «الشيخين» الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي توصّلا إلى اتفاق في إطار «التوافق» لتحريك هذا الملف الذي لم يحرز بشأنه أيّ تقدم. ولعلّهما ازدادا اقتناعا اليوم، مسنوديْن من قطاعات واسعة من المجتمع السياسي والرأي العام، بأنّ الأزمة الخانقة التي تعيشها تونس، لا سيّما على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، تستوجب معالجة هذا الموضوع الشائك، دون إبطاء أو تأجيل. والهدف من ذلك تنقية الأجواء، بما يهيٰئ لانطلاقة جديدة للبلاد وطي صفحة الماضي، بعيدا عن منطق الانتقام والتشفي، مع ضمان حقّ الدولة والأفراد في جبر الضرر وإيجاد التسويات الضرورية في نطاق القانون وتكريس مبدإ العدالة.
والجدير بالذكر أنّ مشروع المصالحة الاقتصادية الذي بادر به رئيس الجمهورية قد تعطّل تمريره، نتيجة ما أثاره من جدل ولقيه من معارضة لدى سياسيين اعتبروه تبييضا للفاسدين، ويبدو أنّ هناك سعيا اليوم إلى إحياء هذا المشروع الذي لم تُشرح مقاصده وخلفيته بطريقة مجدية. وها أنّ زعيم حركة النهضة السيد راشد الغنوشي ينادي بسنّ «العفو الشامل»، وقد أعدّت النهضة بخصوصه وثيقة معروضة على أنظار المؤتمر العاشر للحركة المقرّر عقده من 20 إلى 22 ماي 2016.
وقد أوضح قيادي بالحركة أنّ الأمر يتعلّق بـ«مبادرة سياسية من أجل مصالحة وطنية وليست بمشروع قانون أو برنامج وتتنزل في سياق ما بعد خمس سنوات من الثورة حيث ستبنى فروعها على مسار العدالة الانتقالية وآليات ومتطلبات المصالحة الاقتصادية ومرسوم استرجاع الحقوق المالية والمعنوية...»
إنّ هذه المبادرة على أهميتها البالغة وتداعياتها على مسيرة البلاد في المستقبل ينبغي أن تؤدي إلى إعادة صياغة منظومة العدالة الانتقالية من خلال مزيد تحديد دور جهات الاختصاص في مجالها لتفادي تضارب صلاحياتها وتداخلها.
لقد مُنحت هيأة الحقيقة والكرامة صلاحيات العدالة الانتقالية والتي دخلتها من بوابة حقوق الإنسان، فهي ليست بهيأة قضائية تبت في كل القضايا الراجعة بالنظر إلى العدالة الانتقالية، ولا سيّما ملف المصالحة الوطنية الشاملة، إلى جانب قضايا أخرى لا يمكن التغاضي عنها تتعلّق بارتكاب جريمة ترتقي إلى الخيانة لما تلحقه من ضرر بالسيادة الوطنية وبمصالح البلاد العليا.
لذلك يجدر التفكير في إحداث آلية مستقلّة يعهد إليها بحصر القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تندرج ضمن مسار المصالحة الوطنية وإيجاد الصيغ القانونية لمعالجتها وفق مقاييس واضحة وفي كنف الشفافية الكاملة.
ومن الإشكالات التي سيطرحها من جديد مشروع المصالحة الوطنية أو «العفو الشامل» مسألة التعويضات و«استرجاع الحقوق المعنوية والمادية» لعدد وافر ممن سجنوا وعذبوا في العهد السابق، جراء قناعاتهم الإيديولوجية، فهل بمقدور الدولة، في ظل تردّي الأوضاع الاقتصادية والمالية للبلاد، أن تؤدي هذه الحقوق؟
إنّ المصالحة الوطنية قضية أمة بأسرها، تقع مسؤولية إقرارها على الدولة ومؤسساتها.لذلك لا بدّ من مبادرة تشريعية جريئة في هذا الشأن، منطلقها رئيس الجمهورية والحكومة ومجلس نواب الشعب، حتّى لا تكون المصالحة الوطنية مقايضة بالمراكنة، تخضع لمصالح سياسية واقتصادية واجتماعية ضيقة، فيضيع منطق الدولة في متاهات لعبة دوائر النفوذ وإملاءاتها.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق