احمــيده الـنـيـفــر: فـي الخـوف وفــي غُــربــة المثقــف
للأستاذ هشام جعيط كلمة أدلى بها ثمانينات القرن الماضي تعود اليوم بقوّة. فيها كثّف المعضلة الثقافية للعالم العربي الحديث والمعاصر فيما استقرت عليه نخبه المثقفة والحاكمة من قناعات وما انخرطت فيه من سياسات منذ أكثر من قرن. تقول الكلمة «كلما حصلت مواجهةٌ بين الإسلام والعقل تقع الفضيحة وينهزم العقل أمام الإسلام». الأستاذ في هذا يتجاوز بالتأكيد مستوى الشعار العابر الذي يريد تركيز موقف تحشيدي نضالي. إنه تلخيص توصيفي يشخّص نواة مشروع كامل ومتكامل نجد كثيرا من العنت في مراجعته فضلا عن تخطّيه في تونس خاصة.
للوقوف على مصدر هذا النزوع الإطلاقي الذي حكم هذا القول ينبغي التذكير بأننا في تونس خاصة، وبعد الثورة بصورة أخص، نواصل التعامل المطمئن مع عدة مقولات «مؤسسة»،كهذه التي أطلقها الأستاذ وقد صارت أشبه بالبديهيات التي تصوغ منظومة فكرية وحضارية غالبة. ذلك ما يضيء جانبا خفيّا من ضراوة الصراعات السياسية التي يغذّيها شرخٌ ثقافيّ غائر استأثر بالمشهد الوطني والإعلامي. التغاضي عن هذه المقولات تضييعٌ لفرص تاريخية نادرة وفّرها اليوم المنسوب العالي للحرية للإسهام الجِدّي في بناء ثقافة حوارية جديدة وهوية متجددة وفاعلة.
تلك هي الثورة المغيَّبة التي كان يجدر أن تشمل قضايا محورية متصلة بالتعاقد الاجتماعي-الثقافي وبالنظام التربوي والقيمي وبطبيعة الدولة وعلاقتها بالفرد وبالمجتمع وما ينجرّ عن كل ذلك من سياسات تنموية واقتصادية وسياسية.
بعد الأستاذ جعيط بما يناهز ربع قرن ينبري الأستاذ محمد الطالبي ليصدع بمقولة مغايرة تُطَمْئن قلبَه بعد أن غدت مشغلا فكريا حارقا. كان ذلك سنة 2007 عندما سدد نقده لجملة من المثقفين العرب والتونسيين ممن حملوا راية العقلانية والتنوير بينما هم في تقدير الأستاذ منسلخون عن الإسلام ولا يجرؤون على إعلان عن ذلك. ثم عاود الأستاذ الكرة مطلع 2016 عندما نشر كتاب «قضية الحقيقة» التي اعتبرها تجديدا للفكر الإسلامي مع إضافة أن صدورها كان من: «مفكر مسلم قرآني».
عن هؤلاء «النُفاتيين الإنسلاخسلاميين»، الذين يرفض الأستاذ الطالبي أن يصفهم بالملحدين والمرتدين يقول إن لنا حِصَّتَنا منهم «ولايضيرنا ما يرى فينا ( النُفاتي) وما ينسبه إلينا من الغباوة محتكرا لنفسه الذكاء والتفكير الحر ... لهم الحق في أن يكفروا ونحن دافعنا عن حقهم هذا». ما يدفع الأستاذ إلى مواصلة التصدي إلى «دعاة الأنوار المتحررين من الإسلام» وعدم الإقلاع عن ذلك هو أنهم «يلبسون على المسلم المغترّ الحيران» أمرَ دينه وهو ما يدفعه إلى مواصلة الكتابة في نقدهم.
لمحاولة فهم هذا التحوّل الهائل بين مقولتي الأستاذين جعيط والطالبي نحتاج أن نعود إلى عَلَم ثالث من مثقفي تونس العالمة هو أقدم منهما. هو الأستاذ محجـــوب بن ميــلاد (1916 ـ 2000) الذي شهد نشأة دولة الاستقلال والذي كتب في الفكر الإسلامي ومناهجه وفي العقيدة والتصوف وقضايا اللغة والفلسفة، لكنه ظلّ مهمشا على أهمية ما تناوله وعُمق ما بحثه وجديّة ما أداره. لإيضاح ما آلت إليه اليوم حال النخب المثقفة نقرأ ما كتبه سنة 1962 «في سبل السُنة الإسلامية» تحت عنوان «ضرورة تحقيق الانقلاب العقلي في سبيل بناء المسلم الجديد». يقول: «إن أخص خصائص العهد الجديد الذي هو عهد تونس الجديدة إنما هو روح الثورة العنيفة الشاملة على التقليد وعلى أوضاع التقليد لما اتسمت به من الذهول المطلق عن نواميس الحياة في تطوّرها المتصل، فهذه الثورة يجب أن تكون أعنف ما تكون وأشمل ما تكون في الميدان التربوي».
ما ننتهي إليه بقراءة هذه النماذج البارزة من مثقفي تونس العالِمة يبيّن عوامل قادرة على تفسير ما آلت إليه أوضاع المثقف من ارتباك وانزواء وغربة حاول القائمون على الشأن الثقافي الرسمي معالجتها دون بلوغ النتائج المرجوّة. لا غرابة إذن إن ذهبت دعوات المفكر محجوب بن ميلاد للحوار الفكري و«تحريك السواكن» سُدى. نفس المعنى يتأكد باستعادة مقولة ثانية للأستاذ جعيط حين وصّف الخيارات التحديثية السياسية بأنها «خيارات ثقافية في نهاية التحليل وأنها متجهة نحو الغرب» وأنّه لم يقع «تبريرها ولم يقع الحوار حولها فهي كالكابوس المسلّط على رؤوسنا». أما الأستاذ الطالبي فيفضي إلى قدر هائل من الإحباط حين يكتب اليوم في «قضية الحقيقة»: «انتقلتُ من الخوف من إسلام النهضة إلى الخوف على الإسلام عندما اكتشفت وجه نداء تونس الحقيقي...». لقد انتهى بحثه عن البديل الذي يملأ الفراغ بخطاب دينيّ حداثيّ عقلانيّ تقدّمي إلى نفس اللامبلاة بالتجديد الفكري ونفس الإعراض عن توفير الشروط الموضوعية له.
هي خلاصة تعيدنا إلى ما أكده قبل ذلك الأستاذ عياض ابن عاشور في دراسة له صدرت سنة 1983 بعنوان «الإسلام المندثر والإسلام المستعاد» تناول فيها العوامل التي تفسر بروز الحركة الإسلامية بتونس في سبعينات القرن الماضي. يقول في بحثه بأن غاية الدولة التونسية الحديثة كانت منذ السنوات الأولى هي «تفكيك الإسلام المؤسساتي ممثَّلا في البنية الزيتونية بكل الطرق وذلك بالحطّ من قيمتها وإتلاف الروابط الفكرية والاجتماعية والقيمية التي تفرزها ضمن النسيج المجتمعي التونسي».
مع ذلك فما أنتجه رجال الفكر وخريجو الجامعة التونسية في طور الاستقلال حتى هذا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين يظل في غالبه شاهدا على أن نبض تونس العالمة ذو دلالة خاصة. ما تعنيه جملة أعمال النخب الجديدة من أمثال المسعدي والقليبي والشملي ومزالي والفيتوري والسويسي والدشراوي وأحمد عبد السلام وبوحديبة والمرزوقي والشرفي هو أنه ما كان لهم أن يتصدروا تلك المكانة لولا تواصلهم النقدي مع الماضي وفكره وحضارته. ذلك مــا جعلهـــم ــ رغم انقطاع صلتهم بالمؤسسة الزيتونية التي غدت غائبة- يتمثلون بصورمتفاوتة حضورا نوعيا حُرمت منه.
صميم مفارقة عموم مثقفي تونس العالمة اليوم يوجز جزءا منها الأستاذ الطالبي عندما يعلن في «قضية الحقيقة» بحثه عن بديل «للمسلم الحيران يوفر له خطابا دينيا عقلانيا معتدلا يضمن كل الحريات للجميع ذا مصداقية يبني الحداثة ويضمن التقدم مع الإسلام لا ضدّه».
الإشكال في أن هذا يستدعي تجاوز عائق مركب. جانب منه ذو دلالة نفسية نجده في الخوف الذي يعود بقوة في جلّ ما يُكتَب ويُفعَّل عن العلاقة بالتراث والإسلام والحداثة. ذلك واضح في الخوف من الإسلام المهدد والفاضح للعقل وفي الخوف على المسلم الحائر الباحث عن البديل وفي الخوف من سطوة التقليد وهيمنة الفقهاء. هو ذات الخوف الذي يُبقي غالبَ مثقفي تونس العالمة في بوتقة مجموعة اجتماعية بعيدة عن حياة المجتمع وثقافته وانتظاراته غير معنيين بالثورة المغيّبة المنجزة للحوار التعددي والمبدع.
الإشكالُ منهجيٌّ / حضاريٌّ يتعيّن في قول المثقف في تونس بالحتمية التاريخية وبإقحام مفهوم القطيعة في الثقافة العربية الإسلاميةأي بحداثةٍ «تَجُبّ ما قبلها». مثل هذا التمشي لا يترك مجالا أمام النخب المثقفة الصاعدة لإعادة النظر في مناهج المتكلمين والفقهاء والمتصوفة كما يقطع الطريق على ما يريده الأستاذ الطالبي وكثيرون غيره من حاجة لتجديد الذات وثقافتها الدينية ومراجعة البناء الفكري والحضاري للمجتمعات الإسلامية. في هذا لا مناص من استحضار قولة الفيلسوف كانط: «إن دينا يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه». تأويلُ هذه المقولة اليوم بـ«أن عقلا يعلن الحرب على الدين قد أصبح غير قادر على الصمود أمامه إذ صار الدين ينطوي على عمق عقلاني يفوق في حضوره الخريطة التي رسمتها خطاطة الأنوار».
احمــيده الـنـيـفــر
- اكتب تعليق
- تعليق