مناقشة لأطروحات الغنّوشي "ما مسؤولية الإسـلاميين في إخفـاق تجارب الانتقال الديمقراطي؟"
تحدث رئيس حركة «النهضة» الأستاذ راشد الغنوشي في الدورة الأخيرة لـ«منتدى الجزيرة» (مارس 2016) عن التجربة الانتقالية التونسية أمام جمهور غير تونسي في مُعظمه، فعزا نجاح التجربة الانتقالية في بلادنا إلى اعتماد منهج التوافق، وهو ما أخفقت فيه التجارب الأخرى. كما اعتبر أن العمليات الانتقالية في العالم العربي عموما لا ينبغي أن تقوم على مبدإ الأغلبية والأقلية، بل على تأمين أوسع قوس ممكن من الأطياف السياسية، مُستدلا بأن الحكومة الحالية تمثل 83 في المئة من الأحزاب الممثلة في مجلس نواب الشعب.
هي أثنى الأستاذ الغنوشي على تجربة «الترويكا» ورأى أنها امتدادٌ لإيمان «النهضة» المُبكر بالتعددية، مُذكرا بأنه سُئل في الندوة الصحفية التي عقدتها الحركة للإعلان عن تأسيسها في 6 جوان 1981 عن موقفها في حالة فوز شيوعيين بالانتخابات، فأجاب «نقبلُ بحكم الصندوق». كُنت حاضرا في تلك الندوة الصحفية وأتى الردُ فعلا بتلك الصيغة. غير أن السياسة ليست مجرد إعلان نوايا، فالحركة التزمت طوال الفترة اللاحقة خطا حزبيا علت فيه المطالب الخاصة على القواسم الوطنية المشتركة. وكان أبرز تجسيداتها المُواجهة مع حكم بن علي مطلع التسعينات، التي خاضتها بمفردها لأن عنوانها كان المُطالبة بالتأشيرة للحركة.
واعتبر الأستاذ الغنوشي أن من بين عوامل نجاح التجربة التونسية «والتي لم تتوافر بالقدر المناسب في تجارب مماثلة، تجنُبُ الاستقطاب الايديولوجي بين إسلاميين وعلمانيين، هذان التياران اللذان تقاتلا طيلة نصف قرن، وبرهنت تونس أنها قادرة على جمعهما في حكومة واحدة» حسب رأيه. ومع التحفظ على مُصطلحي «الاسلاميين» و»العلمانيين»، الأصحُ أن نقول إن تجربة «الترويكا» أعادت التيارين إلى المُربع الأول، أي إلى ما قبل حركة 18 اكتوبر 2005، إذ كان الهاجسُ الأكبرُ هو تحصيل أغلبية عددية في المجلس التأسيسي بمن يقبل التحالف مع «النهضة»، وفق شروطها، وهو ما أتاح تأمين أكثرية لا تتجاوز 53 في المئة. ومعنى ذلك أن التشكيلة الحكومية انبنت على تبادل للمصالح رافقهُ الكثير من الابتزاز المتبادل والمساومات، وقد باتت معلومة للجميع. ويكفي هُنا التذكير بموقف الشريك الأصغر (حزب التكتل) الذي اعتبر أنه «دفع ثمنا باهظا لتحالفه مع النهضة»، وأقر بأن «الأحزاب التي قاومت الاستبداد رفضت المشاركة في الحكم وخيّرت أن تترك النهضة تحكم لوحدها» (مصطفى بن جعفر في حوار مع المغرب 20 جانفي 2016). أكثر من ذلك اعترف بن جعفر في هذا الحوار بأن «التحالف تسبب على المستوى الداخلي في مغادرة العديد من المناضلين، كما أنّ العديد من الناخبين الذين صوتوا للتكتل اعتبروا هذا التحالف خيانة مؤتمن وعدم التزام بالتعهدات» .أما الشريك الآخر في «الترويكا» فضاق ذرعا بالهيمنة حتى أطلق زفرته المُدوية ضد التغوُل. ومدلول هذه المواقف أن الثلاثي كان وعاء فارغا لم يعكس أي تطور على الصعيد السياسي أو الفكري نحو بناء توافقات حقيقية، بل أضر بها.
ويذهب الأستاذ الغنوشي إلى أبعد من ذلك فيُؤكد لسامعيه (ومعظمهم من غير التونسيين كما أسلفنا) أن «النهضة ضربت مثلا غير مسبوق في المنطقة إذ أقدمت على التنازل عن حُكم مُستحق بالانتخابات، بعدما أدركت الخطر المُتربص بالتجربة اعتبارا لأولوية الوطن على الحزب». صحيحٌ أنها تنازلت في الأخير، لكن بعد معركة سياسية حامية الوطيس أوصلت البلد إلى شفير المُواجهة، لا سيما بعد دعوة بعض الأجنحة في حكومة «الترويكا» إلى اقتحام اعتصام الرحيل وفضه بالقوة. كما أن ما حصل في مصر إبان الإنقلاب كان درسا أشعل الكثير من الأضواء الحمراء أمام المُغامرين، وعليه فالنهضة لم «تُقدم» على التنازل عن الحكم طواعية وإنما اضطرت إليه اضطرارا.
ولابد من التوقف ههُنا عند مسألة جوهرية أثارها الأستاذ الغنوشي عندما طرح السؤال: «لماذا تغيرت خارطة المنطقة بهذه السرعة من مخاض ديمقراطي واعد إلى بُؤر توتر وفتن وصراعات؟» وشرح سؤاله بالقول: «هل السبب هو صعود الحركات الاسلامية وفشلها في إدارة شؤون الحكم وبناء أنظمة ديمقراطية، أم هي ضريبة حتمية للتحول الديمقراطي وسُنن التغيير؟». أتى الرد عموميا وفضفاضا إذ تحاشى الجواب على نقطة مسؤولية التيارات الإسلامية سواء بالنفي أو بالتأكيد، وركز على أن «التحولات الديمقراطية لا تسير بالضرورة في خط صاعد وسريع، بل تمضي في خطوط مُتعرجة صعودا وهبوطا...». والجواب الأقربُ إلى الحقيقة هو: نعم، أخطاءُ الإسلاميين وقلة خبرتهم لعبت دورا أساسيا في انتكاس التجارب الانتقالية في مصر وليبيا واليمن وطبعا تونس.
ختاما يبدو الأستاذ الغنوشي سعيدا بتجربة الحكومة الائتلافية الحالية التي قال «إنها تُمثل 83 في المئة أي ما يُقارب الإجماع»، ناسيا أن تكوينها خضع لمنطق المُحاصصة نفسه، إذ تقاسمت الأحزاب المؤتلفة الأربعة 18 حقيبة من أصل 26 بعيدا عن معايير الكفاءة والخبرة في كثير من الحالات. وهذا ما يجعلُ التجربة الانتقالية التونسية تدور حول نفسها ولا تستطيع تحقيق الاختراق المطلوب، خاصة على صعيدي التنمية والتشغيل، مع ما يُولدُه هذا الإخفاق من احتماء بفكر الجماعات المُتشددة لدى شريحة هامة من شبابنا.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق