الحسيـن بوزيـان، الدستوري الشهيد
عرفت تونس عبر تاريخها موجة من التصفيات الجسدية والاغتيالات السياسية ما كان لها أن تقع لولا الغطرسة والهمجية والأنانية، ذهب ضحيتها خيرة ما أنجبت تونس.
ففي زمن الاستعمار امتدت يد الغدر لاغتيال الزعيم فرحات حشاد (1952) والقيادي الهادي شاكر (1953) والمناضل الدكتور عبد الرحمان مامي (1954) والمناضل المختار عطية (1955) وغيرهم.
وتواصلت التصفيات والاغتيالات بعد الاستقلال ليذهب ضحيتها الشيخ الحسين بوزيان(1956)، والزعيم صالح بن يوسف (1961) والمناضلين القياديين لطفي نقض(2012) وشكري بلعيد (2013) ومحمد البراهمي (2013).
اليوم تمر ستون سنة على اغتيال المناضل الشيخ الحسين بوزيان الذي ولد يوم 18 ماي 1925 بسيدي بوزيد وتحديدا بالمنطقة التي فصلت عن مدينة المكناسي والتي اصبحت معتمدية منذ سنة 1979 لتتسمى اثر ذلك منزل بوزيان.
ولقد ترعرع شيخنا في الجنوب التونسي، في معقل من معاقل الوطنية والنضال ضد الاستعمار فتشبع بمبادئ التضحية والذود عن الوطن.
زاول الحسين بوزيان تعليمه بجامع الزيتونية إلى أن أصبح استاذا بالفرع الزيتوني بقفصة، المدينة التي كان يتمتّع فيها بمكانة كبيرة ولدى القبائل عموما والهمامة خاصة. فغرس فيهم حب الوطن والجهاد من أجله كان بمثابة القائد المثال، الممثل للحزب الحر الدستوري التونسي في تلك الربوع إلى جانب رجال بررة سبقوه في العمل النضالي مثل يوسف الرويسي وأحمد السنوسي وموسى الرويسي ومحمد علي العلوي وعبد العزيزي العكرمي وآخرون...
في أواخر الأربعينات أهّله نشاطه صلب جمعية ابن منظور القفصي التي أسسها الأديب الكبير أبو القاسم محمد كرو لاكتساب ثقافة عالية وقدرة كبيرة على الخطابة والتأثير المباشر رغم صغر سنه. كان مولعا أيضا بالمسرح في مطلع الخمسينات إذ سافر صحبة الهادي القرجي رئيس جمعية الفرقة التمثيلية لجمعية أنصار المسرح إلى الجزائر لتقديم بعض العروض كما شارك في هذه الرحلة المسرحية الممثل الشهير محمد الدراجي. ومن غير المستبعد أنه إلى جانب مشاركته في العروض المسرحية كان قد كلف بمهمة تنسيقية بين الحزب الحر الدستوري التونسي وشباب حزب الشعب الجزائري الذي قاد الثورة الشعبية الجزائرية ، باعتباره محل ثقة الديوان السياسي، وعضوا بارزا بالمجلس الملي، وكاتبا عاما لجامعة قفصة الدستورية.
كان الشيخ بوزيان من أبرز العناصر الفاعلة المقاومة للاستعمار فاستغل وجاهته وتأثيره الكبير في جهة قفصة والجنوب للقيام بحملة لتعبئة أبناء جهته وتجنيدهم للصعود للجبال وحثهم على حمل السلاح ضد المستعمر في انتظار خوض المعركة الحاسمة. ولقد برز معه صديقه ورفيقه ابن جهته المرحوم الزعيم النقابي والدستوري أحمد تليلي، وكذلك القائد الطاهر الأسود والقائد الأزهر الشرايطي وغيرهم من الذين ساهموا بحماسة وبطولة في عملية تجنيد التونسيين وتعبئتهم وإعدادهم للثورة.
كان الشاب الحسين بوزيان يتقد حيوية ونشاطا وكان مركز ثقل كبير يعتمد عليه الحزب لتمثيله وتفعيل سياسته في الجنوب التونسي (قفصة وسيدي بوزيد والجريد) وكان لا يتردد في قول الحق والدفاع عن أفكاره بكل شجاعة، وكان يصدح بها في اجتماعات المجلس الملي وفي كل الاجتماعات السياسية.
القطيعة
على اثر المفاوضات التونسية الفرنسية اتفق الحزب الحر الدستوري التونسي وفرنسا بأن ينزل المقاومون من الجبال ويسلموا أسلحتهم كخطوة أولى لمواصلة المفاوضات إلا أنّ الأمين العام للحزب صالح بن يوسف عارض هذه الاتفاقيات واعتبرها خطوة إلى الوراء. كان الحسين بوزيان مساندا لتعليمات بورقيبة وصرح بذلك في العديد من المناسبات محرضا بعض ما تبقى من المقاومين على النزول من الجبال وتسليم أسلحتهم وحثهم على أن يثقوا في حزبهم وزعيمهم الحبيب بورقيبة ممّا أثار سخط وغضب الأمين العام الزعيم صالح بن يوسف وأنصاره نظرا للوزن الذي كان يتمتع به الحسين بوزيان في صفوف المقاومين ناصبوه العداء.
ورغم ما كان يكنه الحسين بوزيان للزعيم صالح بن يوسف من ودّ وتقدير واعتراف بمكانته في الحزب والحركة الوطنية إلا أنّه اقتنع بضرورة التمشي المرحلي في التعامل مع فرنسا. لم يكن قراره إذا مبنيا على محاباة للزعيم بورقيبة أو على حسابات شخصية، بل على ضرورة انتهاج سياسة مرحلية يمليها منطق خذ وهات وكسب الوقت والمراحل. ولهذه الأسباب لم يكن موافقا على إضعاف الحزب فتمسك بمواقفه بكل جرأة وشجاعة واصدح بها.
الوساطة
لم يبق الشيخ الحسين بوزيان مكتوف الأيدي تجاه ما أصاب الحزب والحركة الوطنية من انشقاق وفتنة فتوجه إلى القاهرة مع مجموعة من المناضلين، وقام بتنسيق مع المرحوم يوسف الرويسي بمهمة توفيقية، توسطا خلالها لدى الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف لرأب الصدع وتقريب وجهات النظر. وكادت وساطتهما أن تكلل بالنجاح وترجع المياه إلى مجاريها لولا تدخل البعض من الذين لم يرق لهم أن ترجع الأمور إلى نصابها فأجهضت المصالحة.
الاغتيال
لم يكن الحسين بوزيان مبال بالإخطار المحدقة به بعد أن اتخذ الخلاف البورقيبي اليوسفي منعرج التصفية الجسدية وتصاعدت وتيرة الاغتيالات والجرائم السياسية وتسارع نسقها، وتمت تصفية المئات من أنصار الشقين. وحتى التهديدات التي بلغته عبر رسالة تلقاها قبل أسبوع من انتخابات المجلس التأسيسي الذي كان ضمن مرشحيه بالجبهة القومية لم يعرها اهتماما وهزأ منها، حتى جاء يوم 26 مارس 1956 المشؤوم.
الساعة الثامنة والنصف ليلا ،بعد 24 ساعة من انتخابه عضوا بالمجلس القومي التأسيسي أنهى الحسين بوزيان اجتماعه مع أعضاء الجامعة بعد أن هنأهم بفوز الجبهة القومية، و أعلمهم بضرورة سفره من الغد إلى العاصمة لحضور اجتماع افتتاح أشغال المجلس التأسيسي، وقفل راجعا إلى منطقة الدوالي صحبة أربعة من أصدقائه، عندما اقترب منه شخصان أمام مقر "القيادة"(قصر البلدية اليوم)، وتقدم أحدهما مسلما عليه ومادا يده لمصافحته ومد يده الأخرى وافرغ أربع رصاصات أسقطته صريعا. وبمجرد أن حمل إلى المستشفى لفظ أنفاسه الأخيرة. وتمكن أصدقاؤه من إلقاء القبض على أحدهما.
ومن الغد انتظمت له جنازة رهيبة حضرها الحبيب بورقيبة الذي قام بتأبينه، وشيّعه أكثر من 10 آلاف تونسي إلى مثواه الأخير. وأضربت قفصة الكبرى، وأعلنت الحداد، وأغلقت جميع المتاجر والمؤسّسات، وتعطّل العمل حزنا على فراقه واغتياله.
سقط الشهيد الشيخ بوزيان و عمره لم يتجاوز 31 سنة، تاركا زوجته السيدة هناء بالطيب و ابنه الوحيد محمد منور اللذين توفيا.
وتضاربت الأنباء والتصريحات حول حقيقة اغتياله. وكثرت الإشاعات والأقاويل.وإلى اليوم تبقى قضية اغتيال الشيخ الحسين بوزيان موضوع جدل ونقاش.
فاخر الرويسي
- اكتب تعليق
- تعليق