أخبار - 2016.03.24

رحلة في السّنــوات

رحلة في السّنــوات

سنة 2060: أخي حميّد لم يجرّب الصّلاة إلاّ وهو في أرذل العمر، وإنْ كانت سحنته ظلّت على حالها مذْ أدرك العام الأربعين؛ والحقّ أنّه جاء إلى الدّنيا بِسِحنة عجوز، كأنّه مكث في أحشاء أمّنا عقودا، قبل أن يهلّ! ورغم أنّي أَكْبُرُه بنحو سبع سنوات، فأنا لا أتذكّر من طفولته قليلا أو كثيرا؛ وأخي منصف يجزم أنّ أخانا تكلّم بلسان فصيح والقابلة لم تقطع بعد الحبل السّرّي، وأنّه مشى طلْقاً، مستقيما، ثابتَ الخطو في بهو الدّار وهو لم يتخلّص بعد من رغوة المشيمة! وكانت دشرتنا قد خَلت من سكّانها الذين هاجروا إلى المدن، ولم يبق مقيما إلاّ أخي حميّد، فكان يصعد صومعة المسجد الصّغير ليؤذّن، وأنا أقول له: «يا حميّد، لمن تؤذّن، وليس في هذا البرّ إلاّ أنت؟»، وهو يعاند: «وهل تستقيم الصّلاة دون أذان؟»؛ وكنت زرته في خريف ذلك العام 2060، والوقتُ غبشٌ، لذلك لا أدري إن كان فجرا أم غروبا؛ وانعطفتُ إلى الدّشرة، مغادرا الطّريق الوطنيّة رقم وهي كما هي على أيّامكم سنة 2015، ضيّقةٌ، مهترئة؛ وأدركتُ أخي وهو يؤذّن، وإنْ كنتُ لا أتبيّنُ ما يقول، فهو يأكل الحروف أكلا، وتلك عادته في الكلام، كأنّ في فيه لسانَيْن اثنين! يرطن كلّ لسان بلسان، عربيٍّ وأعجميٍّ! وهو يعاند: «ليس أصفى من صوتي صوتٌ، هو مثل صوت النّار في الحطب! ولكنّ الصّدى يُحرّف صوتي!»؛ وحميّد لا يؤذّن إلاّ للصّبح، ثمّ يفوّض للصّدى يؤذّن لباقي الصّلوات؛ فكان يولّي وجهَه جبلَ «الطّويلة» ويؤذّن، فما هي إلاّ ساعات قليلة حتّى يردَّ الصّدى من جبل «طرزّة» يؤذّن للظّهر، ويذهب الصّدى ويجيء بين الجبلين، يؤذّنان لباقي الصّلوات، وليس بينهما إلاّ ثلاثين كيلومترا؛ تلك كانت معجزةَ أخي في زمن عَزّتْ فيه المعجزات، وكان آخرها ما جاء على البلاد عام 2011، ولكنّ الجبال، حينَها، لم تردَّ الصّدى، أو هي عجزت أن تردّ

سنة 2061: مضت خمسون سنة مُذْ جِئتُ مدينةَ المهديّة على السّاحل التّونسيّ آخرَ مرّة؛ قليلة هي المدن التي أسكن إليها وأستكين، والمهديّة مِن أحبّها إليّ، فلماذا غبتُ كلّ ذلك العهد؟ ولماذا رَضِيتُ بالعيش كلّ هذا العمر في مدينة تونس، وهي مدينة كئيبة ثقيلة مملّة؟ كأنّك لا تحيا فيها ولا تموت! وما الحياة دون موت، وما الموت دون حياة؟ حرام أنْ يحسبَ الله عليّ عمري الذي عشتُ في هذه المدينة! وكنتُ جئتها سنة 1971، وأنا أحسبُ أنّها بضع سنوات في الجامعة ثمّ أغادر؛ ولم أفعلْ، وتفتّتَ قلبي نُتفًا، هنا وهناك؛ وبقِيتُ بلا قلب! وكنت سنة 1981، حزمتُ حقائبي، وقد عزمتُ على العيش في المهديّة، وصديقي خالد بن حاج يردّني: «ما الذي تفعل بنفسك يا ولد؟ ليس لك هناك صاحب أو صاحبة! يا مسكين! ستشرب وحيدا، وتحلم وحيدا، وتنام وحيدا!»؛ وسافرتُ، واكتريتُ طابقًا علويّا من فيلاّ صغيرة مفتوحةٍ على البحر؛ يكاد الموج، إذا هاج، يغمر شُرْفَتَها؛ وكان الطّابق الأرضيّ شاغرا، لا يرتاده ساكن أو زائر؛ وبِتُّ أشرب وحيدا وأحلم وحيدا وأنام وحيدا! حتّى توهّمتُ أحيانا أنّي وحدي أعمّر تلك الأرض! وشغلتني أشياء الحياة حتّى نسِيتُ أنّ لي في مدينة تونس أصحابا قاسمتهم الحلو والمرّ، ولا أحبّ أن أكذب، فقد غطّى كثير الحلاوة على قليل المرارة! وقمتُ ذلك الصّباح من ربيع 1981، نشيطا على غير عادتي، فَنَفَرْتُ أزيح السّتائر التي لم أُزِحْ من شهور! وكنتُ لا أسمع من البحر إلاّ هديرَه! كَمَنْ يسمع تغريدا ولا يرى طيرا! وأطللتُ ومِلتُ يمينا وشمالا وجَرَيْتُ أُفَتّح كلّ النّوافذ، ذهب البحر! ولم يبقَ إلاّ حافلات النّقل العموميّ تتكدّس تحت شرفة بيتي في المحطّة الأخيرة في حيّ النّزهة في مدينة أريانة!.

الصّحبي الوهايبي 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.