أخبار - 2016.03.23

البـارون رودولف ديـرلنجي : قصّــة ارتقــاء من البصر إلى البصيرة

البـارون رودولف ديـرلنجي : قصّــة ارتقــاء من البصر إلى البصيرة

من هو البارون رودولف ديرلنجي صاحب قصر «النّجمة الزّهراء» بقرية سيدي أبي سعيد، وما مدى تأثيره في محيطه المباشر وأيّ موقع له في سياق الثّقافة التّونسية والعربيّة؟ إنّها بعض أسئلة حاولت الإجابة عنها في كتابي عن حياة الرّجل وآثــــاره (Le Baron d’Erlanger et son palais Ennajma Ezzahra، منشورات سنباكت، تونس، 1995)، استنادا إلى وثائق أصليّة مودعة بقصره، وكان الغرض من التأليف أن أعرض بشيء من التّفصيل، ولأوّل مرّة، أطوار تجربة البارون الفنّيّة والفكريّة وصورة أشمل ما تكون عن حياته وأعماله؛ والواقع أنّ المعروف عنه حتّى ذلك الوقت يكاد يقتصر على صفته كعالم موسيقى ألّف كتابا قيّما في ستّة أجزاء عن الموسيقى العربيّة، إضافة إلى معلومات قليلة متفرّقة عن قصره وعن أعماله كرسّام مستشرق في الصّحف وأدلّة المعارض الفنّيّة خاصّة في بريطانيا وفرنسا.

واليوم وقد مرّ قرن على أوّل مقال نشـــره رودولف ديرلنجي في «المجلّــــة التّـــونسيّة» La Revue Tunisienne سنة 1917عن وضع الموسيقى التّونسيّة، فقد ارتأيت أن أقدّم للقرّاء لمحة عن مغامرته الرّوحيّة على جبل المنار وعن تراثه الفكريّ والفنّي في علاقته بتونس وبالحضارة العربيّة الإسلاميّة عموما. ولعلّ الفرصة تتاح للحديث مجدّدا عنه في مقالات مقبلة تقدّم إضاءات أخرى لجوانب من حياته وتفصيلا لمساهماته في تطوّر الثّقافة التّونسيّة.

امتزاج بالمجموعة وبحث في روح الحضارة

تشير الوثائق وبعض الشّهادات إلى أنّ البارون ديرلانجي لم يكتف، منذ استقراره في العام 1910 بجبل المنار إلى وفاته به سنة 1932، بالبحث  في علم الموسيقى والرّسم داخل قصره في عزلة عن محيطه، وإنّما كان مأخوذا بجمال القرية يجوب دروبها ومعابرها ويرسم مناظرها الطّبيعيّة ومشاهدها الاجتماعيّة؛ واختلط بأهلها وألفهم فألفوه ورسم صورهم وشاركهم أعيادهم وأحسن إلى المحتاجين منهم؛ ولكن الأهمّ من ذلك سياحته الدّاخليّة في روح الحضارة العربيّة التي طبعت أفكاره وأعماله ومبادراته بطابعها وتركت أعمق الأثر في تطوّر الفنون بتونس. وتشهد بذلك جهوده من أجل الحفاظ على التّقاليد الموسيقيّة الكلاسيكيّة والشّعبيّة وخدمته للمالوف (الموسيقى التّونسيّة ذات الأصول الأندلسيّة)، وإنفاقه على إعداد المشاركة التّونسيّة في مؤتمر الموسيقى العربيّة الذي انتظم بالقاهرة سنة 1932. وقد شكّلت تلك الجهود رؤية متكاملة  للنّهوض بالموسيقى استلهمتها النّخبة التّونسيّة من بعد وفاته وواصلت العمل عليها كمشروع انتهى إلى تأسيس جمعيّة «المعهد الرّشيدي» سنة 1934.

البون بين الوالد والولد

كانت تلك مكاسب لم تكن لتتحقّق لولا جهود البارون، غير أنّ ذكره كاد ينمحي خلال ما يناهز السّتة عقود ليتحوّل من شخصيّة فاعلة محرّكة للهمم في عصره وفي محيطه الإنسانيّ إلى شبه أسطورة  يختلط فيها الذّكر الحسن بالتّقوّل؛ ولا نكاد نجد، إلى زمن قريب،  ذكرا له أو إشادة بما قدّمه في مجال المحافظة على التّراث الماديّ واللاّماديّ. فهل سبب ذلك الإهمال سوء سمعة والده فريديريك إيميل الذي تورّط في معاملات ماليّة مشبوهة مع إدارة البايات خلال النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، ممّا عجّل بإفلاس الدّولة التّونسيّة قبيل انتصاب نظام الحماية ؟ الغريب أنّ ذلك لا يبدو تفسيرا وجيها لخمول ذكر رودولف ديرلنجي ونسيان إسهامه المتنـــوّع في الثقـــافة العــــربيّة والتّونــــسيّة على وجه الخصـــوص، إذ أنّ جشـــع والده صــــاحب مصرف إيــــرلنجر لا يكــــاد يعرفه ســــوى أهل الاختصاص من المؤرّخين وقلّة من المتابعين ولا تجد له صدى واضحا لدى عامّة النّاس، و ذاك لأنّ وهن الذّاكرة الجماعيّة كثيرا ما يطمس خير الأعمال وشرّها على حدّ سواء. ومهما يكن من أمر، فإنّ المنهج التّاريخي بما يفترضه من النّزاهة في التّدقيق وتقصّي الحقائق والموازنة بين الأشياء وضرورة الحكم عليها مجرّدا من الانفعال، يفرض إنصاف صاحب كتاب «الموسيقى العربيّة» كأحد أهمّ مؤسّسي تقاليد البحث في التّراث والفنون ومن أخلصهم دفاعا عن الحضارة العربيّة الإسلاميّة.

الفنّان المهاجر إلى حقيقته

ولسائل أن يسأل ما الذي دعا شابّا نشأ في أسرة اشتغل أفرادها أساسا بالعمل المصرفي إلى دراسة الفنّ في أكاديميّة جوليان بباريس l’Académie Julian، ثم إلى تعاطي الرّسم كحرفة بمرسمه في شارع فونتين بعيدا عن مشاغل الأسرة الغارقة في المشاريع والمضاربات الماليّة؟ والثّابت أنّه لم يشتغل قطّ ضمن مصرف إيرلنجر أسوة بأخويه إيميل بومونت الذي خلف أباه في إدارة المؤسّسة وفريديريك ألفرد الذي جمع بين المسؤوليّات المصرفيّة والتّأليف الموسيقي. ثمّ ما الذي دفعه إلى العيش في بيئة غريبة لم يقنع منها بما يثير خيال الرّسّامين الرّحّالة الحالمين بشرق موهوم، محاولا النّفاذ إلى حقائقها الإنسانيّة والرّوحيّة العميقة؟

من الواضح أنّنا بإزاء شخصيّة متفرّدة ثريّة الأبعاد رسمت لنفسها مسارا مميّزا نأى بها عن صخب العلاقات الاجتماعيّة والمعاملات المصلحيّة، لتنقطع إلى الإبداع والتّجريب والتّأمّل. لقد كان لذلك المسار إرهاصات خلال إقامته الباريسيّة، منها ولعه، إلى جانب الرّسم، بالموسيقى وكتابة محاولات شعريّة للأوبرا ممّا يعكس قلق نفس دائبة التّوق إلى حقيقتها عبر البحث والاكتشاف، إلى أن حطّ الرّحال بجبل المنار ليكتشف عالما جديدا ارتضاه مقرّا له ومستقرّا لروحه التّائهة؛ وكانت تلك هجرة في المكان وهجرة أخرى إلى عالمه الباطنيّ.

شرق ديرلانجي وشرق الآخرين

استقرّ البارون رودولف ديرلنجي، في العام 1910، بقرية سيّدي أبي سعيد، وكانت تلك بداية مرحلة غيّرت رؤاه وأفكاره عن الشّرق وحوّلت مسار حياته باتّجاه آفاق لم يكن يتوقّعها عندما كان يمارس الرّسم على نحو تقليديّ محافظ بمعزل عن ثورة الفنّ الحديث التي كانت تهزّ الوسط الفنّي في العاصمة الفرنسيّة خلال النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر. لقد أتيح له خلال العشريّة الأولى من القرن الماضي أن يزور تونس ومصر والصّحراء الجزائريّة، وعاد من رحلاته بلوحات لا تخرج في مواضيعها ومعالجتها الفنيّة عن السّائد من المفاهيم النّمطيّة والتّواضعات المستهلكة لدى الرّسّامين المستشرقين الرّحالة. غير أنّ تلك الأسفار تركت لديه انطباعا خاصّا عن الشّرق وأهله يتجاوز الهاجس التّسجيليّ والنّظرة العابرة التي لا تتعدى ملامسة ظاهر الأشياء.

لم يكتف رودولف بالبصر فاستنجد بالبصيرة في البحث عن جوهر الأشياء ضمن علاقة شعريّة متنوّعة بالواقع وتملّكه نزوع غامض إلى الغوص، بل إلى الاغتراب في ثقافة مغايرة. وقد أثبتت إقامته خلال العقدين بجبل المنار حتّى وفاته، تحوّل تلك المغامرة إلى مشروع متكامل بات البحث في تراث الشّرق الرّوحيّ والحضاريّ مداره وقطب رحاه، وانتظمت ضمنه مجمل أعماله كرسّام وعالم موسيقى وجمّــاعة للتّحف الفنيّة ومناضل من أجل الحفاظ على التّراث المعماريّ للمدن التّونسيّة؛ ومن ثمار تلك المغامرة الفكريّة والفنيّة بناؤه لقصره البديع فكان نموذجا فذّا للإبداع المعماريّ جمع فيه على نحو تأليفي فريد أرقى أساليب الزخرف والعمارة في الفنّ العربي الإسلامي.

ديرلانجي والنّخبة التّونسيّة

لقد نسج ردولف ديرلنجي علاقات متنوّعة مع الثّقافة التّونسيّة ووضع بعض إشكالياتها الهامّة محوّلا قصره إلى منتدى لتدارس التّراث الأدبي والموسيقيّ وأشرك المثقّفين التّونسيين في مشاريعه والعلميّة والفنيّة، وكان يحاورهم ويكرم وفادتهم أو يحثّهم على التّأليف ويوكل إليهم إنجاز أعمال فكريّة في إطار إعداده لكتابه «الموسيقى العربيّة». ومن هؤلاء أعلام كان لهم أبلغ الأثر في الثقافة التّونسيّة أمثال الشّيخ أحمد الوافي وحسن حسني عبد الوهّاب والمنّوبي السّنوسي وسعيد الخلصي ومحمد الصّادق الرّزقي وخميس التّرنان ومحمد غانم وغيرهم، وقد تركت وفاته حسرة نجد تعبيرا عنها في بضعة أبيات شعر على شاهدة قبره. كما يجــــدر الإلماع إلى نضاله في مواجهة سلطات الحماية من أجل إنقاذ التّراث المعماري والنسيج العمرانيّ للمدن التّونسيّة ممّا أفضى إلى صدور نصوص قانونيّة رائدة في هذا المجال لعلّها أسّست وعيا غير مسبوق بضرورة الحفاظ على التّراث.

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.