أخبار - 2016.03.23

حــديث‭ ‬القــرى‭ ‬والمـدن‭ ‬فـي‭ ‬حــوض‭ ‬دجلة‭ ‬والفــرات

حــديث‭ ‬القــرى‭ ‬والمـدن‭ ‬فـي‭ ‬حــوض‭ ‬دجلة‭ ‬والفــرات

لا يتّسع المجال لحديث مطوّل حول ميلاد القرى والمدن في حوض دجلة والفرات، فمن القرى التي انبثقت على ضفاف الفرات، وفي ربوع الشام تحديدا، يتحتّم ذكر المريبط  والجرف الأحمر،  وكلتا القريتين تقع في حوض الفرات  ويعود ميلادها الى الألف التاسع قبل ميلاد المسيح فأطلالهما  تساعد على معرفة أقدم قرى العصر الحجري الحديث وكلتاهما تروي قصّة الانسان الذي تمكّن من غزو مفاتيح الاقتصاد المنتج و تمكن من طيّ زمن كان العيش فيه مقصورا على استهلاك ما يوفره المحيط من صيد و قطف.

ولمّا كانت تلك الموارد محدودة، حكم على الانسان بترحال دائم للبحث عنها مع اللجوء الى المغاور حتّى يتّقي قساوة الطبيعة وشرّ الضواري. ففي المريبط والجرف الأحمر كانت المعجزة البشرية في سوريا و مضمونها الزراعة والعمارة وتربية الحيوان من ضأن ومعز وبقر، فكان لا بد من تأمين حراسة القطيعوفي تلك الظروف الجديدة نشأت الحرف واكتسب الانسان المهارات في شتّى الميادين، مع بروز قضايا مختلفة ما انفكت تزداد تشعبا في مجتمع قروي طموحاته تربو وتتشعب مع مرّ الزّمن وتعاقب الأجيال، ففي القرية تعيش المجموعة متضامنة  في فضاء يحميه سور من طين أو من حجر وتتربع فيه بيوت  غائرة في بطن الأرض، بعضها منقور نقرا في الصخور وبعضها مشيّد، ولكن سرعان ما تطوّرت العمارة السكنية من حيث التخطيط ومواد البناء ومن حيث الشكل  والحجم والعناصر، ففي قرية الجرف الأحمر تمّ التخلي عن البيت الغائر الدائري وعوّضه صنف جديد من البيوت تقام على سطح الأرض  رباعية الشكل، وقد انتشر مثل هذه القرى في ربوع أخرى من المعمورة سيما في أصقاع المتوسّط.

فلا غرو ان تتطوّر القرية الرافدية لتنجب المدينة بأبعادها المعمارية و السياسية  والاقتصادية  والتجارية والفنية، وحواضر العراق وبلاد الشام عديدة مجيدة مثل أوروك مدينة جلجامش وأور مدينة إبراهيم الخليل الحنيف و لجش عاصمة الملك جوديا وأكّاد مدينة شرّوكن المعروف عندنا باسم سرجون وبابل عاصمة حمّورابي. ويحلو الحديث عـــن إيبلا في محافظة ادلب التي عادت في العقود الأخيرة الى نور الشمس بعد اختفاء في تل مرديخ دام قرونا طوالا والتي تدخل أطلالها البهجة و الحزن على القلوب، فروائع ايبلا تعيش اليوم اهوال حرب المرتزقة الذين عشّشوا في سوريا، وحتّى لا تندثر كنوز ايبلا، فإن شعوب الدنيا كلها مطالبة بحمايتها وكذلك الأمر بالنسبة لماري التي أخرجت أطلالها من الظلمات الى النور بفضل همة وشغف بعثة فرنسية يقودها الباحث الفرنسي أندري بارّو. وهل يجوز اختزال الحديث عن أوجاريت التي منت بها بلاد الشام؟وهل يجوز الصمت عن صور وجبيل وصيدا وجميعها عرائس تتجلّى في لبنان بين أشجار الأرز وأمواج البحر؟وماذا نقول عن مأرب صاحبة السدّفي أرض اللبان؟وأيّ حديث عن القدس اليبوسية الفلسطينية؟ ولكن دعني أعود الى سوريا للوقوف على أطلال تدمر وهيتروي مآثر زينوبيا ومنها الى دمشق الأرمية العربية، ثمّ أتوجه ثانية إلى بغداد لمناجاة هارون الرشيد والمأمون. ولكن تبقى مدن حوض دجلة والفرات تشدّنا بما لها من عجائب وروائع العطاءولها أسرار ما زالت بها ضنينة مع أثر وتأثير في شتّى الميادين.

إنّ أولى المدن التي نشأت في شرقيّ المتوسّط وغربيّه أنجبها حوض دجلة والفرات، وتبدو المدينة كفضاء مسوّر تتقاسمه الآلهة  مع الأحياء والأموات، ففي المدينة الرافدية قطبان متلازمان وهما القصر والمعبد يشرفان على شؤون مختلف شرائح المجموعة من مزارعين وتجّار وحرفيين وموظفين في المعبد والقصر، فهم الكهنوت بمختلف الأطياف والأصناف، وكذلك شأن الذين يعملون في القصر من قضاة  وموظفين إداريين وساطرين وغيرهم ممّن يشرفون على شؤون المملكة بأمر من القصر و تفويض منه. و المملكة، مهما كان حجمها، تعوّل على أصناف عديدة من المتدخّلين المختصين في مختلف الميادين المدنية والدينية والعسكرية، وهدف الجميع توفير الثروة وحمايتها من جشع الغزاة و السهر على إرضاء الآلهة في مجتمع يحكمه القانون ليسود العدل ويستتبّ السلم.

كيف توصّل الدارسون والمؤرّخون إلى معرفة تلك المدن وقد انقطعت عنّا أخبارها ولم يصلنا إلا بعض أصداء سجّلت في أسفار العهد القديم او في بعض المصنفات الإغريقية اللاّتينية؟ ففي الاصحاح الحادي عشر من سفر التكوين، تشير الآية التاسعة الى بابل ولكنّها اشارة لا تغني ولا تسمن من جوع، فمضمونها لا يتجاوز ذكر بابل لأنّ الربّ شتّت بناتها وبلبل لغة الأرض كلّها، وهو تفسير عقيم لم يأخذ ه أحد مأخذ الجدّ، وأفرد المؤرخ الإغريقي هيرودوتس لمدينة بابل فقرة وردت في السفر الأول من تاريخه تخص قدس عشتار وشعائره وطقوسه الغريبة، وتوجد مصنفات أخرى كالتي تنســــب إلى بيروسوس الكلــداني Bérose أو الى سكنيتون الكنعاني ونقلها إلى الإغريقية فيلون الجبيليوأيّا كان الأمر فالمعلومات حول حضارة العراق القديم وبلاد الشام شحيحة ولم تكن موضع بحث وعناية قبل القرن الثامن عشر مع العلم أنّ الاهتمام بالشرق القديم تزامن مع حضور السلك الدبلوماسي الأوروبي وبعض الرحالة من هواة الشرق ومن اخباريين يعملون ضمن مصالح الاستعلامات التي كانت تتدافع من أجل تقاسم تركة الرجل المريض.

ما انفكّ فضول المستشرقين يربو توقا الى معرفة حضارة عتيقة عديدة الأفنان والألوان  أنجبتها أرض مترامية الأطراف، ولعلّ أولى التجارب الجديرة بالذكر تعود الى النصف الثاني من القرن الثامن عشر ومن روادها الأوائل القس جوزيف دي بوشن L’abbé Joseph de Beauchamp، و كان من علماء الفلك المرموقين في زمنه، فلمّا كان يقيم في بغداد دفعه حبّ الاطلاع والمعرفة إلى زيارة بعض المواقع حول بغداد وكان يرسل ملاحظاته إلى زميله القس جن جاك برتيليمي J.-J. Barthélémy المنشغل اذذاك بعجم  رموز الكتابة المسمارية. فمع جوزيف دي بوشن بدأت أولى التنقيبات الأثرية في ربوع بابل وعلى مقربة من باب عشتار تحديدا، وفي أحد الأسبار التي أنجزها التقط  آجرة تحمل صورة لبوة تحلّيها ألوان زاهية.

أليس من الغريب أن تبقى التلال والأطلال خارج  رؤية  الذين كانوا من علماء بيت الحكمة أفلم يروها أم كانت خارج فضولهم؟ الثابت أنّ اهتمام الغرب بالشرق ما انفكّ يزداد باعا وعمقا وكأنّ العرب عن تراثهم ساهون أو متنكرون مغرورون، في حين أنّ الآخر جعل منه مشروعا وأعدّ لإنجازه العباقرة والأموال الطائلة والطموحات العريضة.

ومع مرّ الزمان وتراكم التجارب و الإيمان بالمشاريع المتواصلة، كشف الغطاء عن المدن التي سبق ذكرها فجاءت أطلالها تتحدّث عنها و عن الذين عمّروها وعن حكّامهم و علمائهم وصنّاعهم والمزارعين والتجار وأسماء المدن والقرى وعناصرها المعمارية، فضلا عن مواد البناء وتقنياته، فهي معطيات شتّى تلج بك الى مروج العلم والمعرفة عن طريق الحرف المسماري، فلا شكّ أنّ المدينة وليدة العراق القديم وبلاد الشام، و من تلك الربوع اكتسحت كامل الربوع المتوسطية مع العلم أنّ المدينة عمارة و مواد بناء و تقنيات وزخارف ومهارات عديدة مختلفة،  فهي القصر والمعبد، وفي أحضانها يعترف المرء بضعفه، وبيوت توفّر الأمن والدفء والطمأنينة وطرقات وجسور ومواني وشوارع للعبور وبطاح للحوار و مخازن ومتاجر ومبادلات و علاقات بشرية وطموحـــات وعادات وتقاليد  وأعراف وقوانين وأحكام  وإبداع في ميادين العلم والأدب والفنّ، فالمدينة التي تشكّلت في العراق القديم وبلاد الشام انبرت نموذجا لكامل المتوسط و لعلّها تجاوزت حدود المتوسط، وممّا أنجبته المدينة في حوض الرافدين الكتابة باعتبارها أداة تسجيل و تخزين و مخاطبة الغائب البعيد زمانا ومكانا.

محمّد حسين فنطر

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.