أخبار - 2016.03.20

ما‭ ‬بين‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬الاستعمار‭ ‬وثورة‭ ‬2011‭ ‬عـــودة‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬الصفر‭:‬ الذود‭ ‬عن‭ ‬الكرامة

ما‭ ‬بين‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬الاستعمار‭ ‬وثورة‭ ‬2011‭ ‬عـــودة‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬الصفر‭:‬ الذود‭ ‬عن‭ ‬الكرامة

ها نحن بعد 60 سنة من الاستقلال قد عدنا إلى نقطة الصفر! كانت الثورة ضد الاستعمار تغذيها سلوكيات وسياسات المستعمر: الاحتقار (ليس للتونسي هوية إلا من حيث الانتماء للسكان الأصليين les indigènes) وغياب العدالة بين المواطنين والمستوطنين والفقر والافتقار لمرافق الصحة والتعليم وغيرها...

وكذلك الاعتقاد الراسخ بأن الحاكم الفرنسي ليست له شرعية ولا مشروعية، وهو يسطو ويستغل ثروات البلاد لمصلحته فقط ويجنّد قسرا الشبــاب التونسي لخوض حروب لا تعنيه في شيء مستثنيا الذين يحملون شهادة ختم المرحلة الابتدائية، يعني الذين تعلموا اللغة الفرنسية واستوعبوا نوعا ما التاريخ والجغرافيا والأدب الفرنسي، فهم، في سياسة المستعمر، يصلحون لمهام أخرى لأنهم «تحضروا» وتهيأوا  للاندماج في المنظومـــة الاستعمـارية التي كان من بين أهـــــدافها - بفضـل سياسة الاستيعـــاب (politique d’assimilation) التي كان يمارسها المستعمر- فسخ ثقافة الشعب لتأخذ مكانها ثقافة المحتل لدى النخبة أوّلا، ليتم نشرها ثانية على الفئات الأوسع من المجتمع.

ولم يكن المستعمر في غيّه واعيا بهذا التناقض الكبير بين سياسة الاستيعاب الممزوجة بالاحتقار للتونسيين من جهة، و القيم الحضارية من جهة أخرى وهي التي شُنت حروب ضارية من أجل فرضها على الحكام منذ الثورة الفرنسية سنة 1789 التي أعطت للجمهورية شعارها: «حرية مساواة إيخاء» . وهذه الثغرة في رؤى المستعمر مهدت الطريق لانقلاب السحر على الساحر. فعوض أن تخدم النخبة التونسية (ما عدا قلة قليلة لفظها الشعب) تحولت تدريجيا إلى قيادات مثقفة قادرة على تعبئة الرافضين للاستعمار والمقاومين بالفكر وبالسلاح طلبا للحرية والاستقلال، ليتحول الحكم من المستعمر الأجنبي ومن والاه إلى قيادة وطنية تحسّ بما يعانيه الشعب من ضيم وفقر وجهل ومرض. كما أنّ الناس لم يكونوا غافلين عن استهداف المستعمر لثقافتهم ودينهم وهويتهم فتمسكوا بشدة بكل مظاهرها حتى وإن كان بعضها باليا ولا يتماشى مع العصر،مما أدّى إلى شيء من الجمود، إذ يُرى في كل تغيير تهديدا للهوية الجماعية، لكن الأمر كان مسألة حياة أو موت أمام التهديد الذي يمس الذات في عمقها.

وجاء الاستقلال بعد كفاح مرير وضحايا من بينهم قياديون سياسيون وآخرون مقاومون بالسلاح، وانتقل الحكم إلى أهل البلاد، ووضعت السياسات، وبالطبع لم يكن الأمر بالسهل نظرا لغياب التجربة في الحكم وجسامة الإشكاليات التي استمرت قرونا قبل الاحتلال الفرنسي وبعده، إذ كان لا بد من معالجتها بصفة متزامنة ولا بد من تحقيق النتائج على مدًى قصير خاصة وأنّ الاختلاف الإيديولوجي بين القياديين بدا جليا. ومن بين العوامل الأهم التي كانت تغذي هذا الاختلاف هو رفع التحدي المتمثل في الحاجة إلى التحديث والتنمية من جهة، والحاجة إلى إرجاع الهوية إلى المركز في اشتغال منظومة المجتمع من خلال التعريب مثلا ، من جهة أخرى. ورغم أنّ السيطرة كانت للشق التحديثي من القياديين والذي يفضل الارتباط بدول الشمال أكثر من الشرق العربي، إلا أنّ هذا لم يمنع التذبذب  والتردد في الاختيارات السياسية وخاصة على المستوى الاقتصادي. وعلى العكس كانت الاختيارات على المستوى الاجتماعي صلبة ومؤثرة في المجتمع التونسي ولعله إلى اليوم يجني ثمارها التي لا تقدر بثمن وهي تعميم التعليم والصحة وسنّ قانون حقوق المرأة.

رغم قلة الامكانيات سعت الحكومات المتتالية ما بعد الاستقلال إلى تعزيز التقدم بهذه الاختيارات. وتغيرت الأوضاع على مستويات عدة ما عدا منوال الحكم الذي بقي مركزيا، سلطويا، رئاسيا، يغلّب الولاء على الكفاءة ولا يقبل بالاختلاف ويصور البلاد في صورة براقة من التناغم والانسجام وهو معتد بنفسه وبقائده «الفذ» في ظل الحزب الواحد والرئاسة مدى الحياة، فلا شفافية ولا محاسبة. وغرقت البلاد في السلطة المطلقة لا للرئيس وحده بل للمقربين منه أيضا وللعديد من أعوان الدولة وحاشيتهم، وشيئا فشيئا استشرى التصرف الاعتباطي الخارج عن القانون وما يتبعه من فساد وظلم وتعمقت الفوارق الاجتماعية بين الفئات والجهات واهترأت صورة القائد ومن حوله بلا رجعة حتى داخل حزبه الذى يمثل اليد الممتدة لحكمه.

وجاءت ثورة جانفي 2011 تطالب بما كان يطالب  به علنا المجتمع التونسي لما اشتعلت شمعة ثورته ضد الاستعمار: الكرامة والحرية! ودخلت البلاد في طور جديد من عدم الاستقرار الذى ازدادت خطورته بتعطل نسق النمو الاقتصادي وهو الذى لم ينقطع من قبل رغم الدكتاتورية. فما الذي حدث؟رحل الرئيس وعائلته ولم يسعفه حزبه الذي كان يضم أناسا دخلوه لأنهم يعتقدون أنّ التغيير يمكن أن يكون من داخل النظام، وآخرون ملّوا من تكلس النظام، وكثيرون - رغم الوصولية المسيطرة على توجهاتهم - كانوا هم أيضا يرنون إلى تغيير نظام  أخذ في التوجه نحو رئاسة مدى الحياة وتسلط زوجة رئيس «تولي وتعزل» وتطمح لخلافته. سقط الحاكم وأُسقط الحزب وأُوتي بمن يشكلون النظام الجديد، فيهم من كان يشتغل مع النظام ولكن خارج هياكله وفيهم من كان في المعارضة خارج الوطن وداخله وفيهم من كان سجينا، وأُبعد الذين كانوا في هياكل النظام ونُسي أو تُنوسي أنّ الكثير منهم يمثلون كفاءات لها تجربة ويحركهم إخلاصهم للوطن، لأنهم كأي ذي عقل سليم يطمحون إلى أن تعيش ذريتهم بأفضل مما عرفوه هم في حياتهم، كما نُسي أو تُنوسي أنّ المعارضة ليست بالضرورة وطنية لمّا تُمول من الخارج وتخضع لأجندات أو إيديولوجيات تبلورت في سياقات ومناخات غير التي عرفها الوطن، وتعالى صوت المختصين في الحقوق وكأنّ الأمر قانوني بالأساس، ويكفي أن يتغير الدستور وتتغير القوانين حتى يتغير المجتمع، ونشطت بلاتوهات تلفزيونية بالحديث عن السياسة وتجاذباتها وازدهرت الإضرابات والاعتصامات والعنف واستوطن الإرهاب، وفي المقابل تقهقر الاقتصاد واستفحل الفساد... فهل هذا هو ثمن الديمقراطية الذي لا مفر من دفعه؟ وكيف العودة إلى الاستقرار؟

من المعلوم أنّ تخطي الأزمة مهما كان نوعها لا يتحقق من دون تجميع الإمكانيات والطاقات التي يجب البحث عنها وتعبئتها. واليوم وبعد خمس سنوات من الثورة لم يعد الخروج من الأزمة ممكنا دون تخطي الصراعات السياسية العقيمة بين الأحزاب والتخلي عن منطق رفض الاختلاف والهوس بحب الانتقام والتشفي من الكل دون تمييز. المطلوب اليوم هو تعبئة الطاقات المخلصة والتي يعنيها الوطن قبل المصالح الضيقة، وضخّ دم جديد من الشباب في هياكل السلطة وأخذ القرار لأنّ المستقبل يعنيهم بالدرجة الأولى ولهم أيضا كفاءات ورؤى يحسن العمل على تكاملها مع تلك التي يحملها الذين يكبرونهم سنا ويمتازون بالتجربة وهي تعني التعلم من النجاحات ومن الأخطاء. ولا بد للخروج من الأزمة من تجميع الطاقات لا على المستوى الوطني فحسب، بل على المستويين المحلي والجهوي أيضا.

الدكتورة رياض الزغل

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.