أخبار - 2016.03.20

قراءة‭ ‬فـي‭ ‬مـا‭ ‬بعــد‭ ‬بــن‭‬ڤــردان

قراءة‭ ‬فــــــي‭ ‬مـا‭ ‬بعــــــــد‭ ‬بــن‭ ‬ڤــــــــــردان

مني هجوم داعش على بنڤردان بالفشل الذريع مخلّفا عشرات القتلى من بين الإرهابيين وعددا من الأسرى. واستبسلت قوات الجيش الوطني ووحــدات الأمــن  في دحر الهجوم المفاجئ، وسرعان ما ردت الفعل بحرفية فائقة مكنتها من افتكاك زمام المبادرة والسيطرة على الميدان.

وفي غضون سويعــات تم القضــــاء على كـــلّ الإرهابيين الذين كانوا في المواجهة. وبعد فترة قصيرة ضرورية لإعادة التنظيم، واصلت الوحدات قتالها لملاحقة الفارين من الإرهابيين والقضاء عليهم.

فكلّ الشكــــر والثنــــاء للقوات العسكرية والأمنية التي أبلت البـــلاء الحسن في الدفاع والقتال وأدّت واجبها على أفضل وجه.

بعد هذا الهجوم الإرهابي، حريّ بنا أن نجيـــب عــــن  بعـض الأسئلة التي تخامر أذهان الكثير من المواطنين، وذلك من خلال قراءة  تنطلق من استحضــار الأخطار والتهديدات التي ما زالت تحدق بالبلاد التونسية لنتصور السيناريوهات الممكنة في المستقبل القريب.

الأخطار المحدقة بالبلاد التونسية

من الطبيعي أن يتـــأثر الوضــع الأمني القومي في تونس بما يـــدور في محيطها. وبعبارة أخرى،  فإنّ سياسة تونس الخارجية وقراراتها ومواقفها تجلب لها إمّا الصداقة أو الجفاء أو العدوان. وفي جانب آخر، فإن نجاح بلادنا على الصعيد الداخلي وإشعاع صورتها في المجتمع الدولي من شأنهما أن يؤثرا سلبا في علاقاتها مع دول المحيط الذي تنتمي إليه، جراء الغيرة والحسد والتنافس. وكلها تأثيرات تولّد أخطارا عديدة يمكن اختزالها في ما يلي:

  • جعلت ثورة جانفي 2011 من تونس رائدة التحرر والتوق إلى الحرية وإرساء الديمقراطية في العالم العربي. ولئن رحّبت الدول الغربية، وأوّلها الولايات المتحدة الأمريكية، بهذه الثورة وراهنت على جعل تونس نموذجا للديمقراطية في العالم العربي، فإنّ حكومات الدول العربية التي ترفض لقاح رياح الحرية والديمقراطية رأت فيها خطرا يداهمها.
  • الشرخ العربي الذي تنامى وتطوّر إلى حد ظهور معادلة سياسية جديدة تتمثل في كتلتين متضادتين تصلّبتا عبر العقود وأصبحتا إرادتين متناقضتين يمكن أن نعتبرهما حلفين متنازعين: جمهوريات ترنو شعوبها إلى الديمقراطية من جهة وملكيات يسعى حكامها إلى فرض شرعية السلالة من جهة أخرى . وليس الخطر في التقسيم في حدّ ذاته بل في ما ينتج عنه من إرادة في تزعّم العالم العربي.
  • تأزّم الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد التونسيّة واتساع رقعة الفقر وانتشار البطالة بصفة خاصة في صفوف الشباب وخريجي المدارس العليا، ممّا يجعل هذه الشريحة من الشعب أكثر هشاشة من غيرها فكريا وأقل مناعة إزاء عمليات الاستقطاب من قبل التنظيمات المتطرفة. وهذا الخطر ما انفك يتنامى على مرّ الأيام، خاصّة وأنّ الحكومات المتتالية عجزت عن إيجاد حلول لمعضلة البطالة.
  • وضعية المؤسسات الأمنية والعسكرية: لاشك أنّ حماية البلاد من أيّ عدوان مسلّح، مهما كان نوعه، تؤمّن  قبل كل شيء بالقوة. و هذه الحماية هي من مشمولات القوات الأمنية والعسكرية. كما أنّ نجاعة التصدي للعدوان رهينة معنويات هذه القوات المسلّحة، فاذا ما انهارت في الساعات الأولى للعدوان انهارت معها البلاد والدولة. وهذا الخطر ليس بالهين لذلك من الحتمي العناية بالقوات الأمنية حفاظا على ولائها التام للوطن.
  • الانقســـامات السياسية : مهمـــا كان التأثر بالإيديولوجيات الفكرية أو الدينية، فإن الـــــولاء لتــــونس أعزّ من كل الاتجاهات والمشارب، ومصالح البلاد العليا مقدّسة، والدستور يعلو على كلّ فكر آخر. ويجب ألّا يؤدي الاختلاف في الرأي،الذي لا يفسد للودّ قضية، إلى انقسامات سياسيّة، لأنّها، إذا ما نمت داخل الأحزاب وبينها تحوّلت إلى  خطر كبير قد يعصف بالدولة.
  • تجارة الممنوعات والتهريب في المناطق الحدودية غير المؤمنة وغير المراقبة التي يتم استغلالها لحركة تنقل الإرهابيين والأسلحة والذخيرة والأموال والعتاد المسند للعمليات الحربية.

التهديدات

قد لا يكون الخطر وحده سببا في اندلاع أزمة. ولكن تراكم الأخطار وتزاوجها قد يولّد تهديدات. وإذا امتزجت الأخطار بالإرادة البشرية من طمع وحسد فهي تتطور إلى تخويف ووعيد وسلوك عدواني. وعندما يتم التطرق إلى التهديدات يجب التوقف عند معطى جديد برز في السنين الأخيرة وبات يشكل عنصرا أساسيا في دراستها. ونعني بذلك مهلة التهديد أو زمن حلوله، فأصبح الخبراء يأخذون في الاعتبار،لا فقط نوعية التهديدات ولكن أيضا آجال حلولها. فحين نتكلم عن إدراك التهديدات الجديدة لا بد أن ينصب تفكيرنا في نفس الوقت على نوع التهديد وآجاله لأنّ التهديدات الجديدة تتصف بتسارعها في أحداثها وبطابعها المفاجئ، حيث تأتي مباغتة ومن دون معرفة مكانها بصفة دقيقة.

كيف تطورت الأوضاع الأمنية منذ الثورة؟

باختزال شديد يمكن تقسيم الوضع الأمني في تونس إلى أربع مراحل قبل واقعة بنڤردان:

  • الفراغ السياسي والأمني سنة 2011 : كان للثورة تأثير حاسم في البلاد تمثّل في اعتلال المناخ السياسي وانخرام الوضع الأمني بصفة خاصة.ولم تتعاف المؤسسة الأمنية بسهولة، فاستغلت عديد الجهات الفراغ الأمني،  لتتمكّن وتتهيّأ للعب أدوار خططت لها مند مدة طويلة. وفي الوقت الذي  سادت فيه حالة الانفلات على الصعيدين السياسي والأمني  كانت بعض الأطراف تعمل بكتمان فائق لتجهض حمل تونس وولادة الديمقراطية. وكانت الأسلحة والمعدات العسكرية تعبر إلى البلاد بصفة فردية وجماعية عن طريق مسالك التهريب. وفي الآن نفسه بدأ الاستقطاب والتدريب الإرهابي في ليبيا والقتال في سوريا والعراق.
  • التحول في مصر : بدأت قيادة الإخوان المسلمين في مصر تشعر بخطر المؤسسة العسكرية في أفريل 2013 عندما نمت حركة «تمرّد» وصرّحت أنّها قادرة على جمع أكثر من 13 مليون إمضاء لعزل الرئيس مرسي. وكانت تلك القيادة متيقنة أنّ حركة «تمرّد» هي من إنشاء القوات المسلحة المصرية. بدأ الصراع يحتدّ آنذاك في تونس وبدأت العمليات الإرهابية تستهدف الجيش الوطني بعدما استدرج في جبال الشعانبي. وقد تمّ استنفار القوات العسكرية والأمنية على الحدود الغربية ووقع جس نبضها واختبار قوتها بتلهيتها في ميدان تصعب فيه المناورة والاستعلام واللوجستيك، والهدف من ذلك استنزاف قدراتها. وكانت تروّج أخبار عن تركيز إمارة الشعانبي لتحويل كل الأنظار إلى الحدود الغربية وصرف النظر عن الحدود الليبية
  • العراك السياسي الداخلي: وتجلّى من خلال اعتصام الرحيل واستقالة حكومة الترويكا وتركيز المؤسسات الحكومية القارة. وتواصل استنزاف القوات العسكرية والأمنية بعمليات اغتيال وكمائن وصلت إلى حد الاستفزاز كعملية الهجوم على منزل وزير الداخلية. ويمكن القول إنّ الإرهابيين نجحوا في عملياتهم التي وجهوها للقوات الأمنية والعسكرية في تلك الآونة.
  • نشأة داعش : نشأت هذه الدولة الإرهابيّة في شهر جوان 2014 في العراق وسوريا بعدما حققت نجاحات كبيرة ضد الجيشين العراقي والسوري. وبعد أشهر تمركزت داعش في ليبيا بنفس السهولة التي نمت بها في الشرق العربي.

وفي تلك الفترة ضرب الإرهاب في تونس اقتصادا هشّا وأصاب السياحة في مقتل بعمليات باردو وسوسة، قبل أن يستهدف، في شارع محمّد الخامس بالعاصمة الأمن الرئاسي، رمز السيادة ، وكان متوهّما أنّٰه أتى على كل مقومات الدولة بعد محاولات استنزاف الأمن والجيش وضرب الاقتصاد والسيادة.

عمليّة بنڤردان وفشلها

في 7 مارس 2016، قامت مجموعات داعش بهجوم منسق على بنڤردان بنفس الأسلوب الذي سلكتــه في كــلّ مرة. هاجمت هذه المجموعات الحامية العسكرية والمقرات الأمنية وقامت بـ«استعراض للعضلات» في المدينة أمام المواطنين لترهيبهم واستدراجهم. وكأنّ داعش كانت تعتقد أن هجومها هذا سيكون بمثابة الضربة القاصمة الموجّهة للسيادة التونسية. ولكنّ العملية الداعشية فشلت بفضل يقظة القوات العسكرية والأمنية وحرفيتها في القتال وكذلك بفضل وطنية الشعب التونسي الذي أظهر ولاءه للدولة ولمؤسساتها الشرعية.

وتعود هزيمة داعش في بنڤردان إلى سببين رئيسيين ،أولهما الاستهانة بقدرات القوات العسكرية والأمنية ومدى جاهزيتها، وثانيهما سوء تقدير الزمان السانح للعملية. فعندما نقارن ما جرى في العراق وسوريا وليبيا نرى أنّ داعش استغلت نقاط ضعف كبيرة نمت في هذه البلدان وذلك مبدأ قتالي أساسي يتمثّل في ضرب العدو باستغلال نقاط ضعفه. قاتلت داعش في العراق بقيادة ضباط سنّة عملوا تحت قيادة صدام حسين وطردوا من الجيش الذي أنشئ حديثا، وهذا الجيش تنقصه الخبرة وأغلب عناصره من الشيعة وإخلاصه الطائفي أشدّ من إخلاصه للوطن العراقي.

وقاتلت داعش في سوريا بقيادة ضباط انسلخوا من الجيش العربي السوري، وهاجمت مناطق بعيدة عن دمشق وعن مواقع قوّة الوحدات العسكريّة السورية. ثمّ تمركزت داعش في ليبيا في منطقة لا تخضع لسلطة بنغازي ولا لقيادة طرابلس. وفي كل الأماكن التي نجحت فيها داعش كانت تفاجئ القوات العسكرية والأمنية وتضرب معنوياتها  فتستسلم أو تلوذ بالفرار. وعندما تنهزم القوات العسكرية والأمنية من الطبيعي أن يستسلم الشعب. ولو هُزمت الحامية العسكرية في بنڤردان لأصبحت بنڤردان قاعدة داعشية والتفّ حولها عدد كبير من المواطنين وربما جاء النفير من الأرض الليبية بما يجعل تحرير بنڤردان أمرا صعبا. ولكن الأمر لم يكن بالسهولة التي كان يتوقّعها الإرهابيون، فقد أبلى جنودنا البلاء الحسن، وبفضل شجاعتهم وتميّز قادتهم وحرفيّة القوات الأمنية وتطوّع المواطنين الشرفاء في بنڤردان حسمت المعركة لصالح الوطن وتم القضاء على جلّ الإرهابيين.

ماذا يخبئ لنا المستقبل؟

  • من السذاجة السياسية أن نعتقد أنّ عملية بنڤردان هي من صنيع قائد الإرهابيين الذي أدار المعركة في هذه المدينة  يوم 7 مارس 2016 أو أحد زعماء داعش في ليبيا.ذلك أنّ ما تمّ، في الحقيقة، هو محاولة لضرب الدولة التونسية وتخريب مؤسساتها وطمس نورها الساطع بالحرية والديمقراطية. ولم يكن بإمكان الإرهابيين القيام بهذه المحاولة دون إسناد سياسي خارجي من دولة أو دول لها مصلحة في وأد التجربة التونسية الناجحة.
  • ومادام الشرخ العربي قائما بين الملكيات البترولية والجمهوريات النامية فإنّ الخطر يظلّ موجودا. وطالما تبقى تونس استثناء في العالم العربي فإنّها ستكون عرضة للكراهية والحقد والمؤامرة.
  • لم تنجح عملية بنڤردان ولكن الأعداء سيلجأون إلى وسائل أخرى،اقتصادية في المقام الأول، للعمل على تفليس البلاد وإرغامها على الاستسلام والخضوع.
  • ومن الناحية العسكرية، لا يمكن أيضا أن نسلّم بأنّ الإرهابيين قد لُقنوا درسا وبأنّهم لن يعيدوا الكرّة. وإذا ما تحسّنت الأوضاع في ليبيا ورُكّزت فيها حكومة شرعيّة فإنّ ذلك لن يكون في صالحهم، وبقاؤهم في هذا البلد لن يكون مضمونا.

ولكن من الواضح أنّ الإرهابيين لن يُقدموا قبل مدّة قد تطول على القيام بهجوم آخر على تونس، لأنّ الضربة التي تلقوها في كلّ من مدينة صبراطة الليبيّة  وفي بنڤردان كانت موجعة ولأنّ المؤسستين العسكريّة والأمنية على أهبة الاستعداد لمواجهة كلّ طارئ ومعنوياتهما مرتفعة.

  • ولكن الأمر الذي  يلفت الانتباه ويستدعي تفكيرا أعمق هو مشكل الإرهابيين الذين يقاتلون في سوريا والعراق وليبيا تحت لواء الدولة الاسلامية. فبعد مدة سيتمّ إحلال السلام في سوريا والعراق كما أنّ الوضع السياسي في ليبيا سيتّجه حتما إلى الانفراج وسيطفو على السطح مشكل المقاتلين التونسيين في هذه البلدان. وإذا سلّمنا  أنّ هؤلاء الإرهابيين  لن يكون لهم مستقبل في البلـــدان المذكورة، فعلى القيادة السياسية التونسية أن تجد الحلول الملائمة حتّى لا يتم استغلالهم لضرب تونس. والأجدى أن يقع إعادة تأهيلهم، كما هو الشأن بعد إبرام اتفاقيات الســلام بين الـــدولة والمتمــردين.
  • والأغلب على الظنّ أنّ المجموعات الإرهابية والخلايا النائمة ستكون في حالة تخفّي إلى أن تضمّد جراحها وتعيد تنظيمها وتركّز قياداتها الجديدة. وقد تسعى الى استقطابات جديدة واستنباط أسلوب آخر في «العمل الثوري» أو الانقلابي. ولكنّ هجوما مماثلا لعملية بنڤردان لن يتكرر قبل سنوات.

محمّد النّفطي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.