أيّ دور جديد للدولـة بعــد ستين سنة من الاستقلال؟ فيديو
يمثّل استقلال تونس منذ ستين سنة، واسترجاع الشعب لحريته وكرامته، حدثا مفصليا بكل المعايير. فقد أسس لمسار تاريخي جديد، أريد به أن يقطع نهائيا مع أدران الجهل والفقر والتخلف التي رانت على البلاد طوال قرون وتسببت في ضعفها وتحويلها إلى غنيمة سائغة بين براثن مستعمر متجبر.
كان طموح رواد الاستقلال، من قادة ونخب مستنيرة آنذاك، بناء دولة تنبع سيادتها من إرادة الشعب، حسب دستور جمهوري حداثي ومؤسسات وهياكل مواكبة لروح العصر، تحافظ على جذورها ومقومات حضارتها العربية الإسلامية، وتكسبها مناعة دائمة تجاه كل المخاطر الداخلية والخارجية، وتضعها على درب التطوّر والنماء.
نذكر جميعا حدث الاستقلال بنخوة واعتزار ونستحضر بوافر الإكبار والعرفان تضحيات شهداء الوطن الأبرار ونضالات الوطنيين الخلّص على مدى خمس وسبعين سنة؛ ولكن نقف اليوم عند ذكراه بأحاسيس تشوبها تساؤلات حائرة حول أفق الوطن ومستقبله، وهو يمر منذ سنوات بمرحلة حرجة طالت أكثر بكثير مما يجب، وفي ظل مناخ اقليمي وعالمي لا يخلو من هزّات وزلازل. يقيّم التونسيون اليوم جملة النجاحات التي أنجزتها دولة الاستقلال على مدى ستين عاما وبدّلت وجه تونس، قياسا بما كان عليه وضعها سنة 1956؛ ويستعرضون كذلك الإخفاقات التي منيت بها، لاستخلاص العبر وتجنيب الأجيال القادمة المطبات التي وقعت فيها سابقاتها.
وبمناسبة هذه الذكرى الوطنيّة نظّمت ليدرز العربيّة مائدة مستديرة ــ شارك فيها الأساتذة الصادق بلعيد،عميد كلية الحقوق سابقا، ومهدي مبروك ،وزيرالثقافة السابق، وعفيف شلبي ،وزير الصناعة والتكنولوجيا السابق ــ وموضوعها «أيّ دور جديد للدولة بعد ستين سنة من الاستقلال؟».
وأدار الحوار الدكتور احميدة النيفر، بمعيّة السيدين محمّد إبراهيم الحصايري ومختار المستيسر، عضوي هيأة التحرير. وتناولت المائدة المستديرة ،التي نورد ملخّصا لما دار فيها من نقاش، المحاور الأربعة التالية:
مفهوم الدولة ما قبل الاستقلال
احميدة النيفر
هناك من يقول إنّ مفهوم الدولة قائم منذ عشرات العقود في تونس، وهناك من يرى غير ذلك. إن كانت هناك دولة قبل الاستقلال، فماذا كانت طبيعتها وما هي مرجعياتها القانونية وما قيمة اقتصادها؟
الصادق بلعيد
إنّ مفهوم الدولة خلال عهـــود البايـات يستند، من خلال شخص البـــــاي، إلى منظور محــدد أنعتــــــه بالمنظــور «التملكي» (conception patrimoniale)، وهو نظام يُفرض بقوة السلاح التي لا يحدها أي تشريع. لم تكن الدولة الحسينية حسب هذا المفهوم تقوم بأي من الوظائف التي نعرفها اليوم، كالتعليم والصحة والمرافق، مقابل تفردها بالسلطة، رغم وجود نواة إدارية؛ ولم تكن المقومات الموضوعية لاستمراريتها متوفرة بالقدر الكافي، لأن استعمال القوة فيها كان في خدمة الباي، وهو مفتاح ديمومتها. واعتقد أنّ دولة البايات كانت استبدادية بامتياز، وسكان البلاد كانوا مجرد رعايا وليسوا مواطنين. ومن الناحية التاريخية يجب القول إنّه لم تكن هناك استمرارية بين مرحلة ما قبل الاستقلال وبين ما بعده وأيضا مقارنة بوضعنا الحالي، بل يعتبر مجيء الرئيس الحبيب بورقيبة إلى الحكم فترة قطيعة واضحة مع ما سبقه.
مهدي مبروك
يثيـــر تســاؤلنا حول إمكانية وجود مفهوم الدولة، عندنا قبل الاستقلال ، أبعادا فلسفية وأخرى سياسية واجتماعية وقانونية قد تبعدنا عن جوهر نقاشنا. لذا أقـــول إنّه مـــر اليوم قرن على اتفاقيات سايكس- بيكو، المبرمة سنة 1916. وإذا تعمقنا في الدواعي التي جنبت تونس مخلفاتها السلبية، نجد تفسيرها في جزء هام بما اختزنته بلادنا منذ العهد الحسيني من تراث سياسي مهم جدا، لم يقم بصفة تعسفية أو على أساس قبلي أو طائفي وحسب اتفاقيات خارجية؛ بل أسس على مفهوم الدولة التونسية التي يغطي مجالها الترابي حدودها الحالية تقريبا، باستثناء بعض العشرات من الكلمترات المربعة من الجانبين الشرقي ( في الجنوب مع اقليم طرابلس) أو الغربي (من جهة الشرق الجزائري). وقد مثل هذا التراث الهيكلي والسياسي على عيوبه وصبغته الجنينية (دولة جباية أو دولة مخزن وارتباط العرش الحسيني نظريا بالباب العالي، كلها عوامل ليست بالمهمة)، صمام الأمان الصلب والوعاء الذي منح مشروعية للدولة وقبولها من طرف السكان؛ وهو الذي أنقذ تونس من الأزمات الكبرى التي شقت النخبة السياسية التونسية.
عفيف شلبي
قامت الدولة في تونس منذ قرون بتأدية عدد من الخدمات الاقتصادية، كتعيين أمناء الأسواق وتنظيم الصادرات والواردات في الموانىء. ومع ظهور الحركة الإصــلاحية اعتنــــت الــدولة نسبيا بتطوير التعليم (تأسيس الصادقية). أما نظام الحماية فقد اعتنى أساسا بتوفير البنية التحتية للمناطق التي تقيم فيها الجالية الأجنبية، وللقطاعات التي تستغلها، كالفسفاط والزراعات الكبرى والمواني الرئيسية وخطوط السكك الحديدية التي تربط بينها.
الاستقلال والدولة التي أنشئت في ظلّه
احميدة النيفر
ماذا حام حول الدولة وماذا استطاعت أن تحققه في المجالات الأساسية التي غيرت وجه تونس بصفة جذرية؟ كيف نقرأ مفهوم الدولة في ظلّ دستور سنة 1959؟ وكيف استطاع أن يمنح صلاحيات واسعة للدولة؟
مهدي مبروك
تولت النخب التونسية، عند استرجاع سيادة البلاد والشروع في تحمل أعباء الحكم، تحقيق مطالب الشعب في بناء الدولة التونسية الحديثة على أســاس المفهوم الوطني، ممّا جلب لها مشروعية القبول لدى مختلف فئات الشعب. ولئن كان للعنصر الإديولوجي (نمط اشتراكي أعقبه انفتاح ليبيرالي) دور فاعل في توجهات القطاع الاقتصادي بالخصوص، فإنّ دولة الاستقلال الجديدة، وبالنظرإلى الموروث التاريخي الآنف ذكره، اتسمت بطبيعة مركزية مفرطة، حيث كان لها حضور مكثّف في كلّ المجالات الهامّة، إضافة إلى وفرة التشريعات. وهي العوامل التي تضافرت خلال بضعة عقود وأدّت إلى تغيير عقلية الفرد التونسي وملامحه، إلى درجة أنه يمكن لنا أن نتحدث عن «دولنة» المجتمع بأسره (مجلة الأحوال الشخصية – سياسة تحديد النسل، على سبيل المثال). مقابل ذلك لم تتمكن الخيارات الفردية والمجتمعية، باستثناء حالات معدودة، من فرض وجودها؛ ممّا أفضى إلى علاقة جد متشنجة بين الدولة والمجتمع. غيرأن الواجب الوطني يدعونا رغم الصعوبات إلى الحفاظ على هذا التراث الممتدة جذوره على مدى التاريخ، وتثمينه والمراكمة عليه.
الصادق بلعيد
مررنا مع الاستقلال من دولة «التملك» «إلى الدولة» الأبوية. فقد أُجبرت الدولة منذ الفترة ما بين 1956 و1958 على التدخل في كل مرافق الحياة اليومية، نظرا إلى عسر الظروف الحياتية لعامة الشعب. ولم يكن ذلك في الأصل خيارا إراديا، بل كان توجه الدولة في البداية ليبراليا. وبذلك تحولت الدولة تدريجيا إلى ما يشبه «العامل الصالح لجميع المهامّ». أصبحت هي الفلاح وهي المعلم وهي الصناعي وهي التاجر، إلخ؛ وتمت «دولنة» المجتمع اعتمادا على رؤية سياسية واضحة، وقع التعبير عنها لا فقط في بنود دستور 1959، بل أيضا عبر سلسلة من التشريعات والإجراءات القانونية التي طالت أغلب مجالات الحياة العامة. هكذا انصهرت الدولة في شخصية المجتمع. وقد تواصل هذا التصور المعتمد على الدولة بصفة شبه كاملة، خلال سنوات تجربة التعاضد التي بان فشلها في سنة 1969؛ كما امتد إلى فترة الانفتاح والتحرر الاقتصادي على يد المرحوم الهادي نويرة. ورغم النجاحات في ميادين النهوض بالمرأة والتعليم والصحة وارتفاع مؤشر النمو، ظهرت تدريجيا علل وإشكاليات خطيرة، كتغييب الحريات والبيروقراطية وتسييس الملفات التقنية واستشراء الفساد. كان وصول رجل مثل بن علي إلى سدة الحكم، في نظري، أمرا متوقعا، خاصة بالنظر إلى كثافة تدخل الدولة ومركزية القرار فيها... إلى أن انفجر الوضع سنة 2011.
عفيف شلبي
كان دور الدولة خلال ستين سنة من الاستقلال حاسما في تغيير بنية المجتمع التونسي نحو الأفضل. وتبرهن المؤشرات الإحصائية على أنّ نسبة السكان المتمتعين بالشبكة الكهربائية، بما فيهم الأقليات الأجنبيّة، لم تتجاوز 5 بالمائة سنة 1956، بينما تصل النسبة اليوم إلى 99 بالمائة؛ تماما مثل شبكة المياه الصالحة للشرب التي تطورت نسبة المنتفعين بها من 6,6 إلى 96 بالمائة في المدة نفسها. وبالنسبة إلى الميدان الصحي، كان هناك طبيب واحد لحوالي 200 ألف ساكن عند الاستقلال؛ أما اليوم فلنا طبيب لأقل من 1000 ساكن، هذا دون أن نتحدث عن التطور الكبير لقطاع التربية والتعليم وعن شبكة المدارس والمعاهد والكليات وعن البنية التحتية...
لكن من الضروري ذكر مرحلة التعاضد خلال الستينات، والتي كانت لها نجاحات في مجال المشاريع الكبرى، غير أنها منيت بفشل ذريع في قطاعات الفلاحة والتجارة والخدمات؛ وتواصلت صدمتها السلبية إلى اليوم؛ مما يفسر تدني التنمية الجهوية خارج الشريط الساحلي، والذي يعود إلى رغبة جزء هام من النخب في عدم تكرار تجربة التعاضد.
الدولة ورهاناتها الحاضرة
احميدة النيفر
ما هو وضع الدولة بعد الثورة وفي سياق العولمة وما نجم عن هذه الظاهرة من اهتزازات بالنسبة إلى بنيانها، رغم ما يبدو عليه من تماسك؟
ما هو الدور الجديد للدولة بعد ستين سنة من الاستقلال وهل يمكن لنا أن نقوم بتشخيص لهذا الدور؟ وما هي الإضافات والتغييرات الهامّة التي جاء بها دستور 2014 في هذا المجال؟
وما هي علاقة الدولة بالمجتمع المدني وإلى أي حدّ نجح الدستور الجديد في تغيير المعادلة المتعلقة بعلاقة الدولة مع الفرد والمجتمع؟
عفيف شلبي
تبنت أغلب بلدان العالم، بما فيها الغربية والليبرالية، موقفا وسطا بين من يساند تدخل الدولة المكثف وبين من يعارضه.
أذكر أنّي لما شاركت في مفاوضات مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كنت استظهر بكتاب عنوانه «ألف إجراء للسياسة الاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية»، لأقيم الدليل على مدى تدخل الدولة الأميركية في العديد من المجالات.
نذكر كذلك جميعا كيف يقوم الاتحاد الأوروبي سنويا بضخ حوالي 300 مليار دعما للقطاع الفلاحي الأوروبي. وهي أمثلة تعكس مدى التدخل غير المباشر للدول المتقدمة لكي تساند اقتصادها في ظل مناخ العولمة، بوصفها فاعلا مؤثرا في السوق وفي مسالك الإنتاج، إلى جانب مسؤولياتها العمومية التقليدية. لم تضع العولمة، إذن وعكس ما يقال، حدا لتدخل الدولة؛ غير أنّ تدخلها يتخذ في ظلّها طرقا وأساليب غير مباشرة. وهذا أمر ليس بالسهل.
لقد أُجبرت دولة الاستقلال على تحمل مسؤولياتها التاريخية منذ البداية؛ وهناك اليوم في تونس شبه إجماع على عدم تحميل الدولة مسؤولية بعث المصانع أو القيام باستثمارات مباشرة في القطاعات المنتجة؛ كما حدث في الستينات مع تجربة التعاضد. لذا يتعين علينا التخفيف من تدخل الدولة المباشر إلى الحد الأدنى، وأن نبقي لها دور المحرك الأساسي لمجهود التنمية. يجب أن ندرك أنه دون تدخل الدولة سيكون من المحال أن نحصل على تنمية جهوية مثمرة أو تطور تكنولوجي فاعل. للدولة إذن، وحين تتوفر لها إرادة سياسية صلبة، آليات متعددة لتشجيع الخواص على الاستثمار في الجهات الداخلية بالخصوص. كما تعود لها مسؤولية التخطيط واستشراف آفاق المستقبل واستنباط المشاريع وعرضها على القطاع الخاص، إلى جانب تهيئة البنية التحتية وتوفير المناخ الملائم لبعث المؤسسات الاقتصادية وخلق مواطن الشغل.
الصادق بلعيد
من الأهمية بمكان أن تعود تونس إلى دولة القانون قولا وفعلا، وحصر تدخل الدولة في حدود دنيا، أي المرور من الدولة «الأبوية» إلى دولة لا تتدخل إلا في الحد الأدنى.ونحن نلاحظ كيف أن المجتمع أصبح اليوم يؤمن بقدراته في مجال العمل الجمعياتي وفي تحمل عبء مشاكله والمساهمة في طرق فضّها. يجب إذن قلب المعادلة لتجاوز حالة القطيعة والانفصام بين الدولة والمجتمع المدني. وتبرز هنا قيمة الدفاع عن منظومة حقوق الإنسان والحريات. على سبيل المثال، أرى من الملحّ إعادة إحياء المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ليكون هيكلا استشاريا تجتمع فيه كل القوى الفاعلة والخبرات الوطنية في كل المجالات، ويتولى وضــع أســس التنمية الجهوية ومساندة مؤسسات الدولة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
كذلك نحن بحاجة إلى رجال أعمال يتوفر فيهم قدر وافر من ملكة الخلق والإبداع. وأنا أشيد هنا بتجربة بعث محاضن لرجال الأعمال الشبان؛ يجب على الدولة أن تواصل جهودها في مجال تكوين أجيال جديدة من باعثي المؤسسات الاقتصادية.
لقد شهدت تونس ثورة في 14 جانفي 2011 ؛ ولكن الثورة الحقيقية لم تقع إلى اليوم، وستتحقق حين يطمئن المجتمع إلى أنّ الدولة ستبقى الراعية لديمومة الوطن ولها دور استشراف مستقبل تونس، مثلا في آفاق سنة 2050، وإعداد الأرضية الملائمة لتقدم الوطن ومناعته على أسس متينة.
مهدي مبروك
قامت دولة الاستقلال بخيارات أثبتت محدوديتها، رغم أهميتها. وجرت تبعا لذلك قسمة بين الدولــــة والمجتمـــع في سياق تاريخي غير ملائم وسيء، فكانت قسمة غير عادلة، مما خلق ثقافة الثـأر (من الدولة). لذا لا مجال اليوم لإعادة تلك القسمة. والملفت للنظر أن دستــور 2014 وسّــع بقدر كبير من صلاحيات الدولة وواجباتها في كل المجالات (تتعهد الدولة .. وتتكفل الدولة ...) كأنّ المجتمـــع أصبح مجــرد تابع للدولة. وبذلك فرّطنا في الفرصة التاريخية للتسوية وللتصالح بين الدولة والمجتمع. ومما يعسّر علينا المهمة ظاهرة استحواذ المجتمع المدني على المهام والوظائف التي من المفـروض أن تقوم بها الدولة. كانت هناك فرصة، في نظـري، لأن تتم تسوية تـاريخية بين الدولة وبين المجتمع، ولكن للأسف هذا لم يقع، وضيعنا هذا الموعد التاريخي.
دولة ما بعد الثورة، بين مخاطر تآكل نفوذها وضعف ثقافة التسوية
محمد إبراهيم الحصايري
تطرح اليوم على البلاد إشكالية هامة ألا وهي تآكل هيبة الدولة وسيادتها سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي؛ وهو ما يتجلّى من خلال دخول تونس على الصعيد الأوّل في حلقة من التحالفات التي تعكس حالة الاحتياج التي وصلنا إليها في تسيير شؤون البلاد، وعلى الصعيد الثاني في معضلة التداين المفرط المضرّ بالاقتصاد الوطني. فكيف يمكن معالجة هذه الإشكاليّة؟
عفيف شلبي
يجب علينا أن نعتبر من تجارب الستين سنة الماضية وأن نحدّد خياراتنا على ضوئها، وذلك عبر سياسة التسويات. طبعا هناك مصاعب ستعترضنا. مثلا أصبحت معضلة ارتفاع حجم التأجير في القطاع العام مدعاة للانشغال؛ وأعتقد أننا حطمنا الرقم القياسي العالمي بنسبة تأجير عمومي تعادل 14 بالمائة من الناتج الداخلي الخام.
وأنا أوافق من يقول إنّه توجد لدينا اليوم ثقافة الثأر. لذا وجب على الدولة أن تفرض القانون وهي أول وظيفة محمولة على عاتقها؛ لكنها اليوم للأسف تبدو عاجزة عن أداء مهامها. لقد انخفضت إنتاجية العمل في قطاع الفسفاط، على سبيل المثال، بشكل مفزع وخيالي؛ ذلك أنّ العامل كان قبل الثورة ينتج معدل 600 طن سنويا؛ أما اليوم فقد تدنى الإنتاج إلى حوالي 60 طن سنويا لكل عامل؛ أي بنقص 90 بالمائة في الإنتاجية!!! مقابل ذلك تضاعف عدد الأعوان ثلاثة مرات ونصف. ويعتبر هذا التصرف لا فقط ذا أبعاد خطيرة وغير بريء، بل ينمّ أيضا عن عقلية الثأر التي تحدثنا عنها.
احميدة النيفر
هــــل عنـــدنا في تونــس ثقافة التسويـــــات؟
الصادق بلعيد
على المستوى القانوني، ما من ريب في أنّ حضارات العالم الشرقي والآسيوي بنيت على ثقافة التسوية، وهذا نلمسه عندنا في تقاليد أهالينا عند نشوب الخلافات، حيث كان المرء يتجنب التجاهر بخلافه مع الغير ويحاول إيجاد تسوية معه من دون ضجيج، بل يستنكف من اللجوء مباشرة إلى المحاكم إلا عند الضرورة. بينما وعكس ما يعتقد، تعتمد معاملات المجتمعات الغربية في الحياة العامة على مبدإ التنازع.
نحن في مجتمع يطالب الدولة بأن تتكفل بكل شيء؛ بل أصبحت ظاهرة التواكل والاعتماد على الدولة منتشرة بشكل كبير؛ وهي من علامات خروج ثقافة الثأر ( من الدولة) إلى العلن؛ وهذا عين التناقض مع ما ندعو إليه من ضرورة أن يقوم المجتمع المدني بدور فاعل في البلاد. بينما قطعت المجتمعات الغربية شوطا واسعا جدا في مجال أنشطة المجتمع المدني، إلى حد يبدو لنا في بعض الأحيان «مَرَضِيّا».
وخلاصة القول إنّ الدولة عاجزة، في أوضاعها وبهياكلها المختلة حاليا، عن إيجاد الحلول الكفيلة بفرض سيطرتها على الشأن العام؛ والأحداث والاحتجاجــات الأخيرة خير دليل عن غياب الردع الصارم في إطار القوانين المنظمة للحياة العامة.
طبعا، هذا الوضع العام لا يمكن له أن يدوم، خاصة بالنظر إلى حجم التحديات التي تواجهنا. لذا ستمر بلادنا حتما، في رأيي، بمرحلة تسلّط من جديد.
عفيف شلبي
تتهدد البلاد فعلا مخاطر جمة. وإذا غابت عندنا ثقافة التسوية والتنازلات الأليمة لفائدة البلاد ومستقبلها – ولا أعني التسوية المغشوشة- وفي إطار ديمقراطي صحيح وبنّاء، فسنصبح مهددين بفوضى كبيرة وبثورة جديدة أو بالانزلاق نحو الاستبداد. يجب أن نعلم أن الحكومة اليونانية التي منحها الاتحاد الأوروبي حوالي 400 مليار يورو للخروج من أزمتها (بينما نحلم نحن بالحصول فقط على 5 بالمائة من هذا المبلغ على مدى بضع سنوات لنتمكن من تجاوز وضعنا الاقتصادي الصعب، ولم نحصل إلا على النزر القليل منه إلى اليوم)، أقول إنّ دولة اليونان ورغم تلك الإعانات الضخمة أُجبرت على التخلي على ثلث أعوان القطاع العام (من 500 ألف على 320 ألف تقريبا) وخفضت الأجور العمومية بنسبة 30 بالمائة وفي جرايات التقاعد بنسبة 40 بالمائة. لنتصور ماذا يمكن أن يحدث لو تجرأت الدولة على القيام بمثل هذه الإجراءات؟ ... أشعر أننا أصبحنا في تونس اليوم ضحايا ما يعبر عنه البعض ب«دكتاتورية لا سلطة».
مهدي مبروك
أعتقد أنه يجب علينا كنخب أن نفكر خارج منظومة أداء الحكم وأن لا نحجب الأسئلة الكبرى التي تطرح اليوم على وطننا، مثل قضية علاقة الدولة بالمجتمع المدني التي تعرضنا لها. لكن من الواضح أنه لدينا اليوم خشية جماعية إزاء ما تمر به الدولة التونسية من حالة ضعف ووهن، نتيجة ضغط الإكراهات الداخلية والدوائر الدولية المستعدة لإعانتنا بشروطها.
لقد أصبحت الدولة اليوم مهددة في كيانها؛ فالإديولوجيا الإسلاماوية تنخر أجهزتها؛ وعادت تطفو على السطح النزاعات الفئوية والنعرات «العروشية» والجهوية الانفصالية -والتي اعتقدنا أنّ دولة الاستقلال قد قضت عليها بنسبة كبيرة- خاصة وأنّ المجتمع المدني أصبح يتقوى على الدولة. وأدّى هذا الوضع الصعب تدريجيا إلى تنازل الدولة عن وظائفها الأساسية، مع ما سينتج عن ذلك من مخاطر كبرى على الوطن وسكانه.
لذا بات من الأكيد البحث عن صيغ من التوافقات والتسويات والتنازلات المتبادلة بين النخب والطبقات بجميع أصنافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، لكي نمكّن الدولة من فرض هيبتها وسيطرتها، لا بالعنف ولكن بقوة القانون كما هو الشأن في البلدان المتحضرة.
- اكتب تعليق
- تعليق