الــزبـيـر التركـي : المســـيــرة الــفــــــــــذّة والإرث الضّـــــائـــــع
مضى الآن على رحيل الزّبير التّركي ستّ سنوات وبضعة أشهر وانقضت معه مرحلة من فنّ الرّسم التّونسي، كان له فيها بالغ الأثر كمبدع لمنظومة فنيّة متكاملة وكمحرّك للسّاحة الفنيّة ومنظّم لصفوف الفنّانين، سواء من موقعه كمستشار بوزارة الثّقافة أو كرئيس مؤسّس لاتّحاد الفنّانين التّشكيليين طيلة عقود. رحل الزّبير وترك في أعماله شهادة ثريّة على مجتمعه وصورة حيّة للمدينة العتيقة دأب على رسمها برؤية العاشق الكَلِفِ بأجوائها وأحيائها، الشّاهد على أحوالها و النّافذ إلى أعماق نماذجها الإنسانيّة، معبّرا بتبصّر وذكاء عن حقائق اجتماعيّة وثقافيّة قلّما نفذ إليها غيره ممّن تناولت أعمالهم الفكريّة أو الفنّيّة أو الأدبيّة موضوع المدينة.
أين متحف الزّبير التّركي ؟!
ولعلّ الذين عرفوه عن قرب وامتــزجـــوا به يذكرون ما أنفق من جهـــد في إعـــداد متحـــف يعرض حصيلة أعماله طيلة عقود من الزّمن. ولعلّهم، وقد واكبوا مراحل بناء المتحف وتهيئته، يذكرون ما بذله في سبيل إنجازه من تضحيات، حتّى أنّه كان لا يبيـــع من أعمـــاله سوى بعض التّخطيطات، محتفظا بما ينتجــه من رسومـــه لمشـروعــه الكبـير الــذي كان شغله الشّاغل بل هاجسا مقيما، ملك عليه عقلـــه ووجـــدانه؛ ولعلّهـــم، وقد انتقل الرجل إلى دار البقاء، يتساءلــــون أين متحفــه وأيّ مصـــير لمشـــروعه ومـــا الذي ينبغي على ورثته وعلى الدّولة فعله ليتحقّق حلم واحد من أكبر الشّخصيات الثّقافيّة الوطنيّة. إنّها لمشكلة حضاريّة حـــقّا أن لا تجـــد الرّؤى الكبـــيرة بعـــد مـــوت أصحــابها سنـــدا يضمن استمرارها في وجدان المجموعة كجسور بين المـــاضي والحـــاضر؛ وإنّها لخسارة للذّاكرة الجماعيّة أن لا ينجز مشروع كان صاحبه يسمّيه «متحف الشّعب». غير أنّ تلك قضيّة يضيـــق المجــــال هنا عن الاسترســــال فيهـــا وحسبنـــا التّـــذكير في هـــذه السّطـــور ببعض ما قدّم الزّبير التّركي لثقافة تونس وما أسهم به في بناء شخصيتها العريقة.
رؤية اتّصالية ومسار فنيّ مميّز
لم يكن الفنّ في حياة الزّبير التّركي عزلة متعالية أو غوصا في الذّات، بل كان تواصلا وتفاعلا مع ما يجدّ من أحداث وقضايا في حياة المجموعة كما كان إسهاما نشطا في مجالات متنوّعة مثل النّحت بإنجازه تمثال العلاّمة ابن خلدون، وتزويق الكتب لأصدقائه من الأدباء، وتصميم المناظر والملابس للمسرح. لقد أخذ الكثير من المجتمع ومنحه، في المقابل، الكثير. وتنعكس تلك الرؤية التفاعلية في عمله التّشكيليّ حيث اختار منذ عودته من دراسته بالسّويد سنة 1958 طرقا مبتكرة لم يتّبعها غيره من الفنّانين التّشكيليين في ممارسة الفنّ وتبليغه إلى الجمهور.
لم يقتصر الزّبير التّركي على عرض أعماله في إطار الأروقة الفنّية أو التّظاهرات الأخرى مثل الصّالونات والبيناليات على عادة الفنّانين، بل اتّخذ منهجا اتّصاليّا من خلال أشكال تعبير مختلفة مثل الكاريكاتور والقصص المصوّرة والإشهار والتّصاوير المصاحبة للنّصوص الأدبيّة، ممّا أسهم في تيسير التّعامل مع تلك الأنماط لدى النّاس وبثّ فيهم حسّا فنيّا ما في علاقة مع الثّقافة التّقليديّة وقيمها الإنسانيّة، محقّقا لعمله تأثيرا مباشرا في الواقع الاجتماعي لم يتحقّق لغيره من الفنّانين الذين بقوا شبه منعزلين داخل قاعات العرض الموسميّ أو التّظاهرات الظّرفيّة. وهكذا أصبح اسم الزّبير التّركي في وقت ما مرادفا للفظ «الرّسّام» ذاته.
لقد مارس الفنّان، لسنوات عديدة، تلك الأنماط ذات البعد الاتصالي في مجّلات منها «فائزة» و«الإذاعة والتّلفزة» وفي الجرائد مثل «أفريك ـ أكسيون» وغيرها، محقّقا بذلك حضورا لافتا في أذهان التّونسيين ووجدانهم. لقد أصبح الزّبير التّركي الفنّان الأكثر شهرة بفضل فنّ يمتزج فيه روح الدّعابة بالفهم الدّقيق لمغزى الأحداث السّياسيّة والإجتماعية والثّقافيّة، إضافة إلى أثره الرّائد في تشكيل مفهوم «الرّسّام» على نحو واضح في الوعي الجماعي.
الزّبير التّركي والميراث التّصويريّ العربيّ
تميّز الزبير بتعدّد المواهب إذ مارس الرّسم المسنديّ والفنّ الجداري والنّحت، وأكثر ما عُرِف به، التصوير المعتمد لخطّ مرن ينساب معبّرا في اختزال وبساطة عن جوهر الأشكال وخاصّة منها تلك المحدّدة للصّورة البشريّة التي يشحنها بحيويّة فيّاضة فنكاد ننفذ، من خلال حركتها وملامحها، إلى أفكارها وحالاتها النّفسيّة.وينطوي تصويره الخطيّ على إيحاءات ذات أبعاد حضاريّة وروحيّة تعبّرُ عن بيئة عربيّة إسلاميّة عميقة الجذور بمطواعيّة وانسيابية فذّة. وقد كان الفنّان يعتبر أسلوبه أقرب إلى تقاليد التصوير الإسلامي القديمة منه إلى الفنّ الغربيّ وكان يعجب كثيرا بمنمنمات مدرسة بغداد القديمة من القرن السّابع الهجري، وبنابغتها يحيى بن محمود الواسطي.
الفنّان والكوميديا الإنسانيّة
وللفنّان الرّاحل ميزة أخرى تتمثّل في اعتماد النّفس الحكائي في رسومه وتصاويره على نحو لا يمسّ بقيمتها التّشكيليّة الصّرف بل يكمّلها ويدعمها بإضفاء مسحة واقعيّة عليها تعمّق صلتها بالمجتمع التّونسي. إنّ شخصيات الزّبير التّركي المحبّبة إلى وجدان التّونسيين لا تشكلّ عالما حكائيّا متنوّعا فقط وإنّما مسرحا حقيقيّا للذّاكرة الجماعيّة ومجالا فسيحا لكوميديا انسانيّة متعدّدة الشّخوص من ماضي البلاد وحاضرها، يمثّلها شيوخ جامع الزّيتونة ورجال الإفتاء والوكلاء الشّرعيّون وعدول الإشهاد وأهل الحرف مثل أرباب صناعة «الشّاشية» والبرانسية وغيرهم، ونماذج من الطبقة الشّعبية مثل نُدُل المقاهي وصانعي الفطائر والباعة المتجولين، إضافة إلى شخصيّات نسائية لعلّها الأكثر التصاقا بالذاكرة الجماعية مثل «أمّك صنّافة» و«الحنّانة» وغيرهما. ولئن ذكّرت ملامح تلك الشخصيّات بأناس كان عرفهم الفنّان شخصيّا، فإنّها تبقى في الغالب نماذج عامّة ذات جذور في الوجدان الجماعيّ.
رحل الفنّان الفذّ منذ ستّ سنوات وترك تراثا يتوزّع اليوم بين ورثته وبين المجموعات الخاصة مع القليل من الأعمال على ملك الدّولة وكان يحلم بتجميعه في مؤسّسة تتيح للنّاس التّعرّف على مسيرته وإسهامه الكبير في الثّقافة الوطنيّة. لقد انشغل المجتمع بهزّاته وصراعاته عن واجب الوفاء له ولو بالقليل ممّا يستحقّ، ولم يبق من ذكراه سوى تمثال ابن خلدون في ساحته العموميّة أو بعض أصداء متلاشيّة هنا وهناك وشجن مُقيم عند أصدقاء مقرّبين، يتذاكرون في لقاءاتهم مُلَحَهُ الطّريفة ودعاباته اللاّذعة.
علي اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق