رحلة في السّنـــوات
سنة 2058: أنا لا أحــبّ السّــير في الجنـــازات، ولا أحبّ مواكبَ العزاء، لا لغلظة في القلب، ولكنّي أحســـب الموت شأنا حميميّا يخصّ الميّتَ وأهلَـــه؛ لذلك كنتُ منزعجا ذلك اليوم وقد مات جـــاري عبد الملك بن عمّار، وأهل بيتي يلحّون :«يجب أن تخرج للعزاء!»، فخرجتُ وجلستُ إلى سور حديقته، منتظرا صلاة العصر، ومَالَ إلي أحدهـــم: «سيدهمنا العصر، لماذا تأخّروا في إخراج النّعش من البيـــت؟»، ثمّ قام فذهب وجاء، ثمّ ذهب وجاء، ومال إليّ :«يبدو أنّ الدّفن تأجّل إلى الغد!»، وهَمْهَمْتُ ولم أتكلّم، فأنا بطبعي قليل الكلام، ولم ييأس: «هَرْدَة! هَرْدَة يا حاج!»، ثمّ طَبَعَ شفتيْه الغليظتين على أذني :«سي عبد الملك غير مختون! لم يدخل مِلّة الإسلام! ولم يكتشفوا المصيبة إلاّ حين غسّلوه!»، وأمسكتُ لساني، فلا يليق برجل في مثل عمري أنْ يســبّ ويلعن، لماذا ذهب المُغَسِّلُ إلى هناك؟ ألمْ يجد مكانا ينبش فيه إلاّ بين فَخِذَي الميّت؟ وغاب الرّجل ثمّ رجع إليّ، ورجع إلى عادته السّيّئة فطَبَعَ شفتيْه الغليظتين على أذني: «الحمد لله! فُرِجتْ! سيختنونه حتّى يُدفن في مقابر المسلمين آمنا مطمئنّا!»، ولم يمت عبـــد الملك، فقـــد آلَمَتْهُ شدّة المقصّ، فاستيقظ من موته وفرّ مذعورا عاريا لا يلوي على شيء.
سنة 2059: الأربعاء 19 فيفري 2059، باتــت تـــونس غارقة في ظلام دامـــس دون سبــب معلــن، لذلك لم أسهر، وأويتُ إلى فراشي باكرا؛ وكان أحفادي وأبناء أحفادي قد تهيّؤوا لسهرة طويلة احتفاءً بعيد ميلادي السّادس بعد المائة، فتكدّروا، وقلتُ مهوّنا: «لا بأس، يا أولادي، نحتفل العام القادم! مازالت أمامنا سنوات كثيرة لنحتفل!»؛ ولم أكـــن أعير أعيــاد الميلاد اهتمــامـــا كثيرا أو قليــلا، فأنا بطبعـــي لا أحـــبّ عدّ السّنين! وكان التّاسع عشر من فيفــري يأتي ويذهب عاما بعد عام دون أن أنتبه، ثمّ صارت ابنتي راوية تنبّهني، مــذْ وعَــتْ، وتحتفــل غصــبا عنّي؛ والنّاس في ريفنــا لا يعدّون الزّمن أصلا، كأنّه ثابـــت لا يتحــرّك، أو كـــأنّه ثــلاثة فصول دوّارة، تذهب وتجيء، ولا أدري لماذا يغفلون عن الرّبيع، ربّما لأنّه يجيء قصيرا محشورا حاشرا نفسه بين شتاء وصيف، بعضه هنا وبعضه هناك؛ لذلك، لم تكن أمّي تدري في أيّ سنة جئـــت، ولا في أيّ شهـــر! كلّ ما تذكـــره أنّي جئتُ فجر ثلاثاء ذات شتاء !الذين يولدون في عزّ البرْد يكتوون بالنّار طولَ أعمارهم، قليلهم يتدفّأ وكثيــرهم يكتوي! ولحــق بي حفيـــدي إلى غــرفتي التي لا أُوصــد بابــها أبــدا: «يا جـــدّو، عُــدْ إلى الصّالة، نريـــد أن نحتفل سواءً في الظّلمة أو في النّور! الدّنيا منوّرة بــك!»، ولم أحبس دمعي، وهمس الفتى: «يا جــدّو، لماذا تبـــكي؟»، كيف أبْصَرَ دمعي؟ وتونس ليلتها في ظلام دامــس! «يا جدّو، ألم أقل لك الدّنيا منوّرة بك؟»
الصّحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق