نيبال : بلد الفقر والجمال!
قول النيباليون إن بلدهم هو أشبه «بساندويتش» بين عملاقين: الهند والصين. والحقيقة أنه سندويتش استثنائي المذاق. كيف لا وهو بلد سقف العالم: الإيفريست، الواقع في أعلى سلسلة جبال في العالم: الهيمالايا.
زرت نيبال في مهمة صحفية. كانت فرصة نادرة لأرى نبيال في لحظات غروب العصر الملكي فيها، والذي امتد لقرون عدة، ليعلن فيها النظام الجمهوري، ابتداء من صيف العام 2008.
مطارالعـــاصمـة كاتماندو صغير جـــدا، وخـدماته متواضعة للغاية. لكن النيباليين الذين تعودوا قدوم قوافل السياح من جميع أركان الأرض، لهم من سعة الصدر والصبر على ظروفهم الصعبة ما يجعلك تقبل بالطوابير الطويلة، والانتظار الذي لا ينتهي، وهزال الإمكانيات.
في الطريق إلى الفندق، بدت لي كاتماندو مدينة تعج بالحياة، والفقراء.. أكداس من البشر في أسواق ضيقة ومتداعية، وباعة يعرضون أي شيء، ودخان الشواء يتصاعد من كل زقاق، دون أن يثير لديك أية شهية.. الروائح العفنــة تتسلل عبر نوافذ التاكسي بلا مقدمات، وشظف العيش على قارعة الطريق.. والمعابد في كل ركن وزاوية.
ديانتان رئيسيتان تتعايشان في نيبال دون صدام: الهندوسية الغالبة، والبوذية بعدد أقل.. إلى جانب عدد ضئيل من المسيحيين، وقلة قليلة من المسلمين.. يعتبر البوذيون في نيبال أرضهم مقدسة أكثر من غيرها، بما أنها شهدت ولادة بوذا، وعلى قممها عاش، وألقى بتعاليمه. وتلك قصص طويلة جدا.
دخلت الفندق.. كان اسمه «ياك أند ياتي» .. عرفت لاحقا أن «ياك» و«ياتي» هما كائنان خرافيان يدّعي الناس منذ قرون أنهم يرونهم أحيانا يعبران بين جبال الهيمالايا ووهادها السحيقة.. لا أحد يجزم بالرواية، ولا أحد ينكرها.. في أرض تلك الجبال الشاهقة جدا، الأساطير أيضا لا سقف للخيال فيها!
على صخرة تتوسط حديقة الفندق التي تعج بالزهور المختلفة، آثار قدم ضخمة بخمسة أصابع.. إنها خطى واحد من الكائنين الخرافيين..أحد العملاقين مر ذات ليلة من هنا!.. وهذا أمر لا فائدة من أن تجادل فيه عمال الفندق..!
المفارقات في نيبال لاحصر لها.. بلد ذو جمال طبيعي أخاذ، لكن الفقر ينهشه من كل ناحية.. أما التلوث، فظاهرة تصل حد الرعب.. والاختناق!..أدخنة عوادم السيارات تبعث سحابة سوداء تلاحقك أينما حللت.. يقتات نيبال على كمية وقود محدودة توفرها لهم الجارة الكبيرة الهند.. طوابير الشاحنات القديمة والسيارات المهترئة، ولكن خاصة الدراجات النارية وتاكسيات «التكتك»، تمتد بلا نهاية أمام محطات الوقود.. في الحقيقة هي ليست محطات بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما هي مضخات للبنزين مثبتة هكذا على قارعة الطريق، والعاملون فيها بإمكانهم أن يتوقفوا عن البيع في أي لحظة يريدونها، في حال أزعجتهم الفوضى، أو نال منهم التعب!
وسط الأدخنة التي تنبعث من كل شيء، وخاصة من بوابات المعابد، وبين بسطات الشوارع التي تبيع كل شيء، وأي شيء، تكابد أكداس الكتب لتجد مكانا لها وسط الفوضى.. أغلبية الكتب باللغة النيبالية ، وهي إحدى اللغات الهندية، وتتكلمها الأغلبية من بين الثلاثين مليون نيبالي.. ويمكن أن يقفز إلى ناظريك غلاف كتاب عن صدام حسين، وغلاف آخر بصورة جورج بوش.. صراعات الشرق الأوسط قريبة من النيباليين، وجنودهم المرتزقة المعروفون «بالغوركا» منخرطون منذ زمن في حروب المنطقة.
فوضى حركة السير لا يمكن أن تتوقف إلا لسبب واحد: عندما تقرر بقرة أو أكثر أن تعبر الشارع.. البقر مقدس في الديانة الهندوسية.. لم تكن دهشتي لتخفى على المترجم النيبالي الذي كان يرافقنا.. كان يجيب عن السؤال قبل أن أطرحه.. قال: «في أساطير ديانتنا أن البقرة حملت بأحد آلهة الهندوس. ولذلك وقوفنا احتراما لها هو تقديس للرحم الذي حمل بتلك الآلهة.. نحن لا نذبحها ولا نأكل لحومها.. لكننا بالطبع نستخدمها في الزراعة وحقول الأرز».. من أطرف ما حدثني عنه مرافقي أيضا أن التجار يتبركون بالبقرة التي تتوقف أمام دكاكينهم صباحا لتأكل ما قد تجده أمامها.. لذلك يعمد الكثير منهم إلى ترك بعض العشب أمام محلاتهم قبل إغلاقها ليلا.
قادتني المهمة إلى مدينة بوكهرا، على مسافة مائتي كيلومتر، غرب العاصمة كاتماندو.. بوكهرا هي بوابة الهيمالايا كما يسمونها. يتلوى الطريق كالأفعوان بين الجبال.. يرتفع حتى يصبح المشهد مخيفا، ثم ينحدر إلى أودية سحيقة.. عندما تلتقي شاحنتان، تتوقع أن إحداهما ستهوي لا محالة.. لكن النيباليين يعرفون دائما كيف يتعاملون مع تضاريسهم الوعرة..
وسط الغابات التي تتتالى مشاهدها على جانبي الطريق، تبدو قوافل النساء الحاملات على ظهورهن أكداس الحطب في شكل خيوط متلاحقة كالنمل.. ظهور مقوسة، تنحني تحت أحمال ثقيلة، تتبع بعضها بعضا بخطى وئيدة، في رحلة مضنية تتكرر منذ تاريخ بعيد.. الاحتطاب في نيبال مهنة الجميع تقريبا.. موسم البرد طويل وقاس.. والتدفئة توفرها الغابة، لا غير.. وشهور الصيف القصيرة هي فرصة تجميع الحطب للشتاء الطويل.
في وسط المدنية التي تقسمها بحيرة جميلة إلى شطرين، تعج المقاهي الصغيرة بالكثير من الغربيين القادمين لمغامرة تسلق الهيمالايا.. تبيع لهم المدينة أدوات التسلق، من أحذية ثقيلة، وزلاجات، وحقائب، ومواقد، وحبال، ومطارق طويلة للحفر في الثلوج وتثبيت المسامير.. كما تتوفر المكتبات على مئات الروايات لمتسلقين سابقين كابدوا ويلات معركة الصعود إلى قمم الهيمالايا، وخاصة قمة إيفريست التي تقع على علو 8.848 مترا عن سطح الأرض.. ولأن الرحلة تحتاج إلى دليل، يعرض المئات من الشبان النيباليين وحتى من جنسيات أخرى خدماتهم على المغامرين الجدد.. والأسعار تحددها سوق العرض والطلب، ودرجة المخاطرة.
لكن شوارع بوكهرا لا تعج بهؤلاء فحسب، بل هناك أعداد كبيرة أخرى من غربيين وآسياويين ، يتميزون بملابس هي أقرب إلى الأسمال البالية.. إنهم حجاج من معتنقي الديانة البوذية يأتون إلى المنطقة، ليسلكوا دروبا وعرة عند الجبال الواقعة على أطراف المدينة المتوارية بين تضاريس مدهشة.. يعتقدون أنها مسالك تضعهم على خطى أتباع بوذا الأوائل، الذين كانوا يقضون في تلك المناطق أوقات طويلة من التـأمل والصمت.. .. في التصوير على قمم بعض الجبال المحيطة ببوكهرا، شاهدت قوافل من أولئك، نساء ورجالا وأطفالا.. يسيرون حفاة على أرض صخرية تدمي الأقدام.. ويبدو أن في الرحلة تعذيبا ذاتيا مقصودا، للوصول إلى ما يسميه بعضهم بالألم المقدس!
في بوكهرا، سألت رئيس تحرير صحيفة محلية. قلت: أنتم بلاد الغابات، والمياه، والهيمالايا، والإيفريست.. كيف يحدث أن يكون النيباليون بكل هذا الفقر؟..
أجاب مبتسما: مشاكل نيبال عند سفح الهيمالايا، لا على قممها!.
عبد الدايم الصماري
- اكتب تعليق
- تعليق