لنجنّبهم دروب الضّياع
اندلعت الاحتجاجات الاجتماعيّة في شهر جانفي الماضي في القصرين وفي جهــات أخـــرى مــن البلاد، انصبّ الاهتمـــام في المقــام الأوّل على معضلتي البطالة والتنمية الجهويّة، وفي خضم هذه الاحتجاجات غابت عن الأنظار مسائل أخرى لاتقلّ خطورة، لها صلة وثيقة بملفّ معقّد ومترابط الحلقات لم ينل في تقديرنا العناية اللازمة في السنوات الأخيرة، ونعني بذلك ملـــفّ الطفــولة والشباب.
وعلى الرغم من أنّ عددا من الأحزاب السياسيّة بوّأته مكانة بارزة في برامجها الانتخابيّة وانبرت تطلق الوعود بالسهر على معالجته، فإنّ الحكومات المتعاقبة لم توفّق في إرساء برامج إصلاحيّة وإقرار إجراءات جريئة تحدّ من الظواهر السلبيّة التي ظلّت إلى اليوم تلقي بظلالها على أوضاع هاتين الشريحتين الاجتماعيتين.
ومن هذه الظواهر التي يجدر بنا التوقّف عندها، لما لها من بالغ التأثير في مسار تكوين الناشئة، ظاهرة الانقطاع المبكّر عن التعليم. ففي كلّ سنة يغادر عشرات الآلاف من التلاميذ مقاعد الدراسة، وقد بلغ عددهم خلال العام الدراسي الحالي أكثر من مائة وستة آلاف تلميذ وتلميذة، فتتلقّف الشوارع العديد منهم، بما يجعلهم عرضة للانحراف والجريمة، ويقع البعض في مخالب التنظيمات التكفيريّة التي سرعان ما تستدرجهم إلى ثنايا التطرّف والإرهاب.
ولاشكّ أن تنامي هذه الظاهرة يفضي، في نهاية المطاف، إلى تضخّم عدد المهمّشين الذين لا تقدر سوق الشغل على استيعابهم بالنظر إلى افتقارهم إلى مهارات وإلى كفايات متنوّعة -لا يمثّل تملّك المعرفة إلّا أحد أوجهها- تؤهّلهم للاندماج في الحياة الاجتماعيّة وتمكّنهم من الحصول على عمل.
ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل يتعدّاه إلى ما هو أشدّ وقعا على سلامة القيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة، ونعني انخرام العلاقات داخل المؤسسات التربويّة بين مختلف الأطراف، وتلاشي رسالة المربّي والتربية، وتفشي اللامبالاة والمحسوبيّة، وتفاقم ظاهرة الغشّ في الامتحانات، علاوة على تجذّر العنف في الوسط المدرسي وانتشار ظاهرة تعاطي المخــدّرات فيه، وانعدام الوعي العلمي لدى نسبة عالية من الشباب التلمذي، لعلّ من أبرز مظاهره تلك المشاهد التي لا تخلو منها عدّة مدارس ومعاهد، عند انقضاء كلّ سنة دراسيّة، لمّا يُقدم من يؤمّها على إعدام الذاكرة المعرفيّة بتمزيق الكتب والكرّاسات.
و قد كشفت دراسة أجرتها الإدارة الفرعيّة للحياة المدرسيّة بوزارة التربية عن حصول 8.081 حالة عنف مادي ولفظي من طرف التلاميذ خلال الثلاثي الأوّل من السنة الدراسيّة 2014- 2015، من بينها 1.933حالة تسبّبت فيها تلميذات، في حين بيّنت خليّة علوم الإجرام في مركز الدراسات القضائيّة أنّ نسبة تعاطي المخدّرات من طرف المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و18 سنة وصلت إلى نحو 57 بالمائة. أمّا إدارة الطبّ المدرسي فقد أفادت في تقرير لها أنّ نسبة التلاميذ الذين جرّبوا المواد المخدّرة تتوزّع بين 61,1 بالمائة من الذكور و 30,9 بالمائة من الإناث.
إنّ هذه الأرقام المفزعة التي ذكرنا ليست إلّا البعض من تجلّيات أزمة مستفحلة في صفوف جانب من أطفال تونس وشبابها الذين يعيشون اليوم حالة فراغ وضياع ، في ظلّ تقصير الأسرة في تربية الأبنــاء وتوعيتهم، وتراجع مردوديّة التعليم وتدنّي مستواه وترهّل بنيته التحتيّة، فضلا عن غياب الأنشطة الرياضيّة والثقافيّة صلب مؤسساته، والتي كانت في عقـــود مضــت أداة لصقل المواهب وتنمية ملكة التفكير والإبداع وتعميق الحسّ الفنّي والنقدي لدى التلميذ.وقد أدركت وزارة التربية خطورة هذا الفراغ، فأعلنت الشروع في تعميم الأنشطة الثقافيّة والرياضيّة على المؤسســات التـــربويّة بداية مـــن جــانفي الماضي.
ولا نعتقد أنّ إصلاح المنظومة التربويّة،الذي نسلّط عليه الضوء في هذا العدد من خلال حديث لوزير التربية، يكفي لوحده لمعالجة هذه الظواهر السلبيّة، بل إنّ الأمر يستدعي مقاربة جديدة تفرض ربط هذا الإصلاح بمراجعة جذريّة لفلسفة التكوين المهني ونظمه، في ظلّ حاجة الاقتصاد الوطني الملحّة إلى قوى عاملة ذات كفاءة ومهارة في مهن واختصاصات متعدّدة، ممّا يسمح باستحداث آلاف مواطن الشغل،علاوة على إعادة النظر في السياسات المتبعة إلى حدّ الآن في قطاعي الطفولة والشباب والمجالات المتصلة بهما، ولا أحد ينكر ما يشوب هذه السياسات من نقائص وقصور.
وكان ربّما من الأنجع في تقديرنا، عند إجراء التحوير الحكومي الأخير، ضمّ قطاع الطفولة إلى وزارة الشباب والرياضة وتعزيز صلاحياتها على نحو يجعل منها هيكلا أفقيا يعمل، وفق نظرة شاملة، في تناغم وتنسيق تاميّن مع بقية الوزارات، في المجالات ذات الصلة، ولاسيّما وزارات التربية والتعليم العالي والتكوين المهني والتشغيل والثقافة والشؤون الاجتماعيّة، على أن تتولّى هذه الوزارة إعــداد خطط عمل واستــراتيجيــات تنـــاقش وتقرّ في نطاق مجلس أعلى للطفولة والشباب قبل البدء في تطبيقها.
ومن البديهي أنّ هذه الخطط والاستراتيجيات، مهما توفّرت لها من إمكانات وآليات تنفيذ، لن يكتب لها النجاح إلّا متى كانت منصهرة ضمن رؤية مجتمعيّة متناسقة وقامت الأسرة، بالدرجة الأولى، وفضاءات التنشئة الاجتماعيّة ومكوّنات المجتمع المدني بمهامها على الوجه الأكمل في الإحاطة بالنشء والشباب ورعايتهم ، ورفد مجهود الدولة في تجسيم حقوقهم في التربية والتكوين والتشغيل والرفاه والعيش الكريم.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق