نظرات في واقع الثّقافة الوطنيّة
كثيرا ما تنتهي نقاشاتنا حول الوضع الرّاهن للثّقافة ودورها في المجتمع إلى جدل عقيم وقلّما نجد في تعريفات الثّقافة الكثيرة ونظرياتها المتناقضة ما يعين على بناء منظومة تستجيب لضرورات المرحلة. وبينما يحتدم النّقاش حول عديد القضايا، وخاصّة منها السّياسيّة، يُلاحظ بقاء الثّقافة ومشكلاتها على الهامش. وإن كان هناك من حديث عنها، فهو يقتصر على ما يُثار بين الحين والحين من مشكلات حول التّظاهرات الدّوريّة كالمهرجانات أو ما يعترض هذا القطاع أو ذاك من مصاعب مع ما يصاحب ذلك من جدل صحفي وتلاسن على القنوات التلفزيّة، إضافة إلى الآراء العامة المدافعة على الثّقافات المحليّة أو المنتصرة للثقافات الفئويّة أو الدّاعية إلى ثقافة إنسانيّة كونيّة والحال أنّه لا تعارض بين هذه الأبعاد إذا ما أُدرِجت جميعا ضمن مشروع ثقافيّ وطنيّ توافقيّ متوازن ومنفتح يستقرئ الواقع ويتكيّف بالمتغيّرات مع المحافظة على الثّوابت التيّ يقرّها المجتمع.
إنّ مـــا شهـــدته تــونس من أحداث وتحوّلات في سنــوات مــا بعــد الثّورة في مجالات عديدة يدعــو إلى مــراجعة أهداف الثّقافة وهياكلها ومضامينها الموروثة عــن العهــــود السّابقة. وأبرز ما يميّز المرحلة الحاليّة تفاقم مشكلات القطاع التّقليديّة في مجالات النشر والفنون والتّراث والبنية التّحتيّة وافتقارها إلى مزيد من الاعتمادات والتّشريعات المناسبة؛ هذا، إضافة إلى بروز أشكال مستحدثة للممارسة الثّقافيّة على الشّبكة العنكبوتيّة، بل وظهور ثقافات مضادّة ممّا يشير إلى تشكّل واقع ثقافيّ مختلف خارج الأطر التّقليديّة للثّقافة؛ والسّؤال، هنا، هل أنّ من واجب الدّولة أن تستوعب ذلك الواقع الجديد بتشعّبه وأن تضع له ما يناسب من هياكل وتشريعات ضمن المشروع الثّقافيّ الوطنيّ الذي ذكرناه. والواضح أنّ مقتضيات المرحلة، بما تحمله من ضرورات، تُلْزم الدّولة بالنّهوض بذلك المشروع لا بالرّؤى المُسقَطة والتّعليمات الفوقيّة، بل بالسّياسات المستخلصة من الاستشارات الجادّة والدّراسات القاعديّة المعمّقة والمعطيات الإحصائيّة الموضوعيّة التي توفّر مرتكزا لرصد الحاجات الثّقافيّة والعمل على إشباعها تحاشيا لما قد يحدثه إهمالُها من توتّرات وآثار سلبيّة على المناخ الاجتماعيّ، علما بأنّ المشكلات أيّا كانت لا تخلو من بعد ثقافيّ.
أيّ عــلاقات للثّقــافة بــالقطاعات الأخرى؟
إنّ صياغة أي مشروع ذي جدوى للثّقافة تتطلّب وعياباتّساع مجالها وتعدّد وظائفها وبضرورة تحديد موقعها ضمن القضايا التي تشغل المجموعة الوطنيّةوالبحث في علاقاتها بالقطاعات الأخرى، لضمان دورها في النّهوض بالمجتمع ككل. ولطالما طالعتنا شعارات تطرح الثّقافة كبعد أساسيّ في التّنميّة داعية إلى اعتبارها قضيّة الجميع وليست اختصاصا لوزارة أو مؤسّسة، إلاّ أنّها لا تزال عمليّا منحصرة في الفنون والآداب والتّراث والمأثورات الشّعبيّة والعمل الثّقافي الذي تهيمن عليه المناسبات الفصليّة ودوريّة المهرجانات. ومهما ادّعينا من أهميّة للثّقافة كما تمارس اليوم، في تشكيل هويّة وطنيّة عامّة، إلاّ أنّنا لا نلمس لها أثرا نوعيّا في محيط حياتنا الماديّة وفي سلوكناولا تطالع الزّائر الأجنبي منها سوى صورة مضطربة لا تعكس ثراء إرثنا الحضاريّ ولا تطلّعاتنا إلى المستقبل؛ وما الثّقافة كما تُمارس اليوم وكما يفهمها الكثيرون سوى قطاع يكاد ينغلق على نفسه في صيغ مجترّة وفي غياب صلات تعاون وتفاعل حقيقيّة ومستمرّة بالقطاعات الأخرى في الدّاخل وبما يجدّ من تطوّر وتنوّع في الثّقافات عبر العالم.
الثّقــافة والسّيــاســة
لقد ظلّت الثّقافة طويلا مرتهنة لخطاب فوقيّ بالغ المركزيّة في سياق رافض للتّعدّدية السّياسيّة الحقيقيّة بينما المفروض أن تكون السّياسة ذاتها من منعكسات الواقع الثّقافي العامّ. واليوم وقد توفّرجانب من الممارسة الدّيموقراطيّة فإنّ على الثّقافة من حيث كونها مشروعا وطنيّا متوازنا، تجاوزالقناعات السّياسيّة الضيّقة والظرفيّة التي تظلّ حبيسة اختيارات ومسبّقات لا تعبّر بالضّرورة عن مجمل حاجات المجتمع وتطلّعاته، فضلا عن أن تُعنى بالبحث في علاقات الثقافة بالمتغيّرات العالميّة سلبا وإيجابا واتّخاذ ما ينبغي اتّخاذه للتعامل معها. والمطلوب أن يكون المشروع الثّقافي الوطني حصيلة جهود متنوّعة وحوار مستمرّ بين مكوّنات المجتمع، وتعبيرا عن مشاركة قاعديّة واسعة من أجل سياسة متوازنة تعتمد اللاّمركزيّة لا كشعار بل كوسيلة حقيقيّة تقاوم مظاهر الإهمال والتّهميش الاقتصادي والاجتماعيّ والثّقافيّ.
نحو مفهوم عــام للثقافة الوطنيّة
علينا إذن أن نتجاوز عموميّة المبادئ والأهداف والمهام الواردة في ديباجات النّصوص القانونيّة المحدثة لوزارة الثّقافة والمؤسّسات التّابعة لها، إلى بلورة مفهوم واضح للثّقافة الوطنيّة يكون قاعدةً لمشروع متكامل بأهدافه ومضامينه وآلياته واقتصاده،وتتظافر على تنفيذه مؤسّسات الدولة المركزيّة والجهويّة والمحليّة والقطاع الخاص في إطار مخطّطات مرحليّة وبغطاء قانونيّ مناسب؛ ولا نعني، هنا، بعض التّشريعات المتعلّقة بحفز القطاع الخاصّ إلى الإسهام في الثّقافة والتي تظلّ ظرفيّة وغير ملزمة ولا تندرج ضمن منظومة استشرافيّة متكاملة؛ مع العلم أنّ إسهامات المؤسّسات الخاصّةليست اليوم سوى مبادرات موسميّة ذات طابع تنشيطي استشهاري، وقد تتمثّل في إسناد جوائز تشجيعيّة للرّواية والشّعر أو بعض المنح الدّراسيّة. وعلى العموم، فالمنتظر من القطاعات الأخرى ليس مجرّد الدّعم المالي وحده، بل أن تكون لها برامج ثقافيّة نوعيّة ضمن استراتيجياتها الخاصّة.
لقد شهدت الممارسة الثّقافيّة في تونس منذ الاستقلال تحوّلات كثيرة وأفرزت أشكالا جديدة من التّعبير ومضامين مستحدثة في علاقة مع التكنولوجيات الرّقميّة ممّا يدعو إلى التّعجيل ببلورة لمفهوم جديد للثّقافة الوطنيّة يتلاءم مع تلك التّحوّلات من أجل صياغة سياسات تحقّق للثّقافة النّجاعة والتّمثيليّة الواسعة مع خطط اتّصاليّة تضمن لها وضوح المعالم في الدّاخل والخارج. ومن مهامّ تلك السّياسات تجديد مضامين القطاعات الثّقافيّة التّقليديّة وتنويع أشكالها واستيعاب قطاعات ومضامين جديدة واستحداث مجالات تنشيطيّة داخل المؤسّسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتّربويّة. ورغم ما قد يواجه ذلك المشروع من تشكيك في النّوايا واتّهامات بالتّنميط وبإمكانيّة تغليب خصائص أو عناصر على أخرى، إلاّ أنّه يظلّ الأنسب إذا ما اتّخذ منحى توافقيّا يقي من التّشرذم في ظلّ ما يشهده المجتمع من انقسامات فئويّة وصراعات سياسيّة، مع الاعتماد على القواسم الرّوحيّة والماديّة المشتركة الموروثة تاريخيّا في علاقتها بما يستجدّ من ضرورات ومراجعات يفرزها الواقع.
الثقافة كضمان للسلم الاجتماعيّة
ولسائل أن يسأل: أيّ مشروعيّة لإعطاء قطاع الثّقافة كلّ ذلك الوزن مقارنة بالقطاعات الأخرى وما الذي يبرّر لزوم مساهمة الجميع فيه، خاصّة في ظروف عصيبة تمرّ بها المجموعة الوطنيّة وفي ظلّ أخطار تتهدّد أمنها واستقرارها؟ ألا يبدو الحديث عن الثّقافة، والحالة تلك، ضربا من التّرف إزاء ما نعانيه من مشكلات متفاقمة، وما جدوى الخوض في التّنميّة الثّقافيّة أمام تهديدات الإرهاب واستشراء البطالة وتدهور الاقتصاد؟!
غير أنّ تلك التّساؤلات التي تبدو وجيهة ومنطقيّة إنّما تعبّر في الحقيقة عن سوء فهم لماهية الثقافة يتجاهل صلاتها المتشعّبة بالواقع ويعمّق هشاشتها وتقوقعها إذ يعتبرها ترفا يُمارس في فترات الدّعة والرّفاه وراحة البال. أمّا إذا فهمناها كسلوك وطريقة حياة ومُثُل جماعيّة وتعبير عن الانتماء إلى مجتمع واحد، فإنّها الحليف والمعين على الأزمات والرّافد في الملمّات والأزمنة الصّعبة لأنّها المقياس الذي يُختبر به الحسّ الوطنيّ وتُفضَحُ به الممارسات المشبوهة ولأنّها، في النّهاية، السّور المنيع الذي تنكسر عليه أشكال التّهديد الدّاخليّة والخارجيّة وهي الوسيلة لرأب الصّدوع في جسد المجموعة. ومن هذا المنظور تبرز الثّقافة كتربيّة وقائيّة تضمن السّلم الاجتماعية وتتصدّى للعنف والإضرار بالمصلحة العامّة وغيرها من الآفات التي لا مناص من توصيفها كمشكلات ثقافيّة؛ ولقد تبيّن، على سبيل المثال،نشوء الإرهاب كما نعرفه محليّا، في ظلّ اغتراب ثقافيّ، من علاماته ضعف الوسطيّة الدّينيّة ذات العلاقة الوثيقة بالفكر الإصلاحيّ وتعطّل دورها التقليدي في المجتمع وقد كانت تمثّل صيغة حوار مبتكرة مع الحداثة وسمةً ثقافيّة تونسيّة خاصّة.فقد لجأ التّديّن عند بعضهم وفي غياب تأطير داخليّ للحاجة الدّينيّة، إلى تأويلات منغلقة ومتشنّجة تنشرها الفضائيّات التّلفزيّة بين شباب انتهى إلى حالة جهل مخيف بمنجزات تاريخه الحضاريّ، ومن آثارها السّلبيّة نبذ التّسامح والدّعوة إلى العنف وإلغاء العقل، بل وإلى نسف تجارب فكريّة أصيلة من التّراث الإسلامي وتلك، في النّهاية، مشكلة ثقافيّة.
في ضرورة المراجعات التّنظيميّة والهيكليّة
قد يقال إنّ مفهوم الثّقافة الوطنيّة قائم منذ زمن ويمكن استقراؤه من المهمّات المنوطة بوزارة الثّقافة وتعداد قطاعاتها من خلال النّصوص القانونيّة التي تنظّم عملها منذ تأسيسها إلى اليوم ومن مجمل الرّؤى والأفكار المطروحة في إطار الملتقيات والاستشارات والدّراسات التي تظهر بين الحين والحين، غير أنّ الوضع الرّاهن الموروث عن الثّورة والحافل بالمشكلات والأزمات وبروز مضامين وأنماط تعبير جديدة، لم يعد يكتفي من الثّقافة بجرد المهامّ وتعداد القطاعات ومعالجة مشكلاتها كلّ على حدة، بل يدعو إلى مفهوم عام متماسك ورؤية تأليفيّة تستوعب واقع الثّقافة في تنوّعه وشموله بما يحتاجه من خطط واضحة ومراجعات تنظيميّة وهيكليّة وترتيب للأولويّات وإرساء برامج تنفيذيّة تبتعد عن الارتجال؛ ولعلّ الوقت قد حان للتّخلّي عن المقولات العامّة والوعود التي لا تسندها برامج ناجعة فتظلّ أقرب إلى الأمانيّ، إضافة إلى تلك المخطّطات الزّمنيّةالتي قلّما تُنْجز بالكامل وكثيرا ماتُعيق تنفيذَها طبيعةُ التّصرف الإداريّ.
الثّقافة والاتّصال
لقد ظلّت الإدارة العموميّة على مدى عقود عاجزة عن تخليص القطاع من أزماته،ولا يتعلّق الأمر فقط بنقص في الاعتمادات المخصّصة له بل وكذلك بحاجته إلى جهد اتّصاليّ مكثّف يعرّف بالتّراث والهياكل والانجازات والبرامج. والثّابت أنّ مفهوم الاتّصال بات من الأبعاد الأساسيّة في الثّقافة المعاصرة، ناهيك أنّه دخل في تسمية عدد من وزارات الثقافة بالخارج باعتباره ضمانا لنجاعة عملها ووضوح سياساتها واختبار ردود الفعل إزاءها. والواضح أنّ الاتّصال في ثقافتنا لا يزال في حاجة إلى تعميق مفاهيمه كتعريف بالمضامين الثّقافيّة وآليّة تختبر جدوى السّياسات وتوضّح الأهداف. وكمثال على قصور الجهد الاتّصاليّ إنّنا لا نظفر، إلى اليوم، بمختارات ومنتخبات نموذجيّة تشرف عليها الدّولة في مجالات الآداب والتّراث الموسيقيّ التّقليدي الكلاسيكي والشّعبي ولا نزال نفتقر إلى موسوعات للفنون وقواميس للفنّانين والأدباء، توفّر واجهة للثقافة في الدّاخل والخارج ومرجعا جادّا للدّارسين. ومهما اجتهد القطاع الخاص في سدّ الثّغرات بإنتاج بعض المراجع في تلك المجالات إلاّ أنّه يظلّ محكوما بضرورات المصلحة الخاصّة ولا تفي نتاجاته بالحاجة من حيث الشّمول والتّنوّع، كما أنّه لا يلتفت إلى ما لا يُجنى ربحٌ من ورائه.
وختاما تجدر الإشارة إلى أنّ اضطراب الرؤية العامّة للثّقافة يتّضح في ما اعترى تسميّة وزارة الإشراف على مدى تاريخها من تغييرات لا تعكس تطوّرا في المفاهيم والمهام والمضامين وإنّما تخضع لاعتبارات ظرفيّة حسب الطّقس السّياسي، فنرى التسميّة تتحوّل من «شؤون ثقافيّة» إلى «ثقافة وإعلام» إلى «ثقافة»،تتلوها عودة إلى «ثقافة وإعلام»، ثم خلطة بين «ثقافة وشباب وترفيه» في إثرها «ثقافة ومحافظة على التّراث» (خلال فترة كانت الأشدّ والأقسى على التّراث). وخلاصة القول إنّ المتابع للشّأن الثقافي، حتّى وإن لم يكن من أهل الاختصاص، يشعر باتّساع الفجوة بين الإدارة وبين الواقع الثّقافي الذي أصبحت تتحكّم فيه جهات ومصالح ذات أهداف ووسائل لا نعتقد أنّها تصبّ جميعا في ما اصطلح على تسميته بالثقافة الوطنيّة.ولنلاحظ كم أمام الثّقافة من القضايا العالقة أو التي ظفرت بحلول منقوصة رغم الاستشارات العديدة والنّدوات والقوانين التي تواجه صعوبات في التّطبيق، مثل حقوق التّأليف وحصر التّراث المادي واللاّمادي وحمايته وتحقيق الصّلات في ما بين التّعبيرات الفنيّة لتحقيق اندماج الفنون كقاعدة لابتكار مضامين جديدة من نوع المسرح الغنائيّ، إضافة إلى مشكلة التعليم الفنّي في مراحله المختلفة، الذي تتقاسمه وزارات مختلفة، بينما المفروض أن يعود لاختصاص وزارة الثّقافة. والأمر مشابه في قطاع الإنتاج التّلفزيّ الذي لا رأي فيه لوزارة الثقافة بينما لا شكّ في طبيعته الثّقافيّة، إلى غير ذلك من المشكلات التي لها سيّء التّأثير في صياغة الوجدان الفرديّ والجماعي.
وخلاصة القول إنّ الثّقافة تمثّل اليوم مشكلة حقيقيّة والمطلوب النّظر إليها كسلوك وممارسة ومشاركة تتأسّس على الحقّ في التّنمية البشريّة للفرد والمجموعة وعلى تأكيد الانتماء إلى وطن وحضارة ومدّ جسور التّفاهم بين مكوّنات المجتمع وتحويل الفروق بين الخصوصيّات من عوامل مولّدة للتوتّر إلى عناصر إثراء متجدّدة وإضافات قيّمة.
علي اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق