"خسوف" والدور المرتقب للثقافة والمثقف
عُرض الفيلم الأخير ”خسوف“ للمخرج القدير الفاضل الجزيري، خارج المسابقة، ضمن فعاليَات أيام قرطاج السينمائيَة الأخيرة.
يروي الفيلم قصة منشطة تلفزية شابة لبرنامج له صدى جماهيري، تجمعها الصدفة بمحافظ شرطة يحقق في جريمة قتل باعث عقاري. يكتشف الإثنان وجود خلية إرهابية تسفر الشباب للجهاد، ويحاولان بمعية قاضي تحقيق كشف عناصرها وتفكيكها. والمقصود من عنوان الفيلم هو خسوف تونس التي تعيش زمنا مريرا وعنفا لم تعرف مثيله عبر تاريخها.
يبين الجزيري أن فيلم خسوف «يحاول تسليط الضوء على آفتي التهريب والإرهاب اللَتين تحركهما شبكات منظمة وتمولها رؤوس أموال كبيرة.» ويضيف «لقد أردنا التعبير عن جزء من حجم المعاناة التي اكتوت بسعيرها العديد من العائلات التونسية عندما تصحو على خبر سفر أبنائها للجهاد في سوريا، ولأن كل عمل فني هو مغامرة في النهاية، فقد سعيت كفنان إلى التعبير برؤيتي الخاصة عن الواقع بكل إرهاصاته وكل أبعاده ودلالاته».
الفيلم الأخير للفاضل الجزيري الذي نجح من خلاله في إيصال رسالته إلى المتفرج هو الأغلى ثمنا، حيث كلفه حياة ابنه الذي توفي خلال التصوير، تغمده الله برحمته وغفرانه. وبالرغم من آلامه العميقة، خلق من الضعف قوة وأبى إلا أن يكمله وأن يهديه إلى روح ابنه. ويعتبر هذا العمل الذي سيوزع قريبا في قاعات السينما لبنة إضافية في مسيرته الإبداعية المتميزة.
خلال حواري مع المخرج أوضح لي أنه استهل خلال سنة 2011 كتابة سيناريو مستوحى من نص مسرحي قديم «صاحب الحمار.» إلا أن الأحداث التي عرفتها بلادنا تدريجيا جعلته ينجر نحو سيناريو يصور الواقع ويحاول أن يستشرف المستقبل. واستطرد قائلا: «نحن نعيش حقبة تاريخية بالغة العنف، بدأت منذ حرب الخليج التي تلت الحرب العراقية الايرانية، حيث اهتزت كامل منطقتنا وكان لها لاحقا تأثير سلبي في العالم ككل. ويرجع ذلك إلى فترة صعود رونالد ريغن إلى سدة الحكم حين بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في إعادة تموقعها في العالم وفي قلب موازين القوى برسم جغرافيا جديدة وخلق جيوستراتيجيا تتحكم فيها حسب هواها ومصالحها».
ويضيف: «لقد كانت تونس مخبرا خلال الخمس سنوات الماضية، وأخشى أن نكون في بداية مرحلة ثانية بالغة العنف يمكن أن تزعزع البلد ومؤسساته. فبعد العمليات الإرهابية التي جدت، من المرجح أن تتفاقم الأمور إن لم تتوفر الإرادة السياسية التي انعدمت بعد انتخابات أكتوبر 2011، وإن لم يتم العمل على إحباط المخططات الإرهابية التي تستهدف بلادنا بتضافر مجهودات المؤسستين الأمنية والعسكرية وكذلك المواطن».
إثر مشاهدة الفيلم الذي حثني على مزيد استجلاء واقعنا الأليم، تذكرت ما كتبه السيد البشير بن سلامة في مقاله المتميز تحت عنوان «إشكالات المسألة الثقافية» الصادر في عدد شهر ديسمبر الفارط من مجلّة «ليدرز العربية» إن الأميَة الثقافيَة تعني افتقاد المرونة فكرا وممارسة في التعامل مع الذات ومع الآخر، مع الماضي الموروث ومع الحاضر ومستحدثاته، مع مفردات الحضارة ومنجزاتها. هي إذن التحجر الفكري والعقائدي والتزمت الديني والقومي والمذهبي، وضيق الأفق بكافَة أشكاله والتعصب الأعمى لهذا الطرف دون سواه، وقد سماها البعض الجاهلية الأولى“.
الدور المرتقب للثقافة والمثقف في مجابهة آفتي التطرف والإرهاب
المثقف يأمل أساسا في مستقبل أفضل لأمته ولأبنائها، وبالتالي يحمل دون هوادة هموم مجتمعه. كما يمتاز برؤية ثاقبة للأحداث وتطوراتها وبمواقف ملتزمة صارمة وواعية تجاه قضايا مجتمعه طبقا لما تمليه عليه عقيدته ووعيه وضميره، فضلا عن مسؤوليته الاجتماعية و الثقافية و السياسية. فأي دور للثقافة والمثقف في الوضع الراهن لبلادنا؟ وهل يمكن إشهار سلاح الفكر المستنير والمتفتح المجتهد والمجدد في وجه آفتي التطرف والارهاب؟ في هذا المضمار يقول الجزيري «ليست مهمة المثقف باليسيرة في هذا الظرف بالذات بل إن مسؤوليته جسيمة، فالالتزام له ثمن وتلك هي ضريبة الإبداع ومهنة الفنان معقدة تتطلب جهدا ونضالا وتضحية. وإن كان لكل فنان طريقته في التعبير وله أسلوبه في التفكير، فالمهم في النهاية هو الانتصار لمصلحة هذا الوطن والثبات على الموقف والدفاع عن الرأي. وهذه المهمة الصعبة والجسيمة المناطة بعهدة المثقف تتطلب منه فهما حقيقيا لدوره ووعيا بمهامه خاصة من قبل الجهات الحكومية».
غياب دور العائلة وحتمية مراجعة جذرية للمنظومة التربوية
تكمن المعضلة الأساسية في الخلية الأولية للمجتمع وهي العائلة التي أضحت مستقيلة من مهامها الأساسية بخصوص الإحاطة بأبنائها. ومن ثم يتبين افتقاد شبابنا في جل الحالات إلى روح التضحية والصبر والشجاعة والمثابرة، وهي خاصيات تنعدم تدريجيا لديه وتفقده الأمل في الحياة حيث يبدو له أن الآفاق مسدودة، وهو ما دفع عددا منهم إلى الانخراط في التنظيمات الإرهابية. وفي هذا الخصوص يأتي دور المجتمع المدني وخاصة الجمعيات لإعطاء الأولوية لهذه المسألة وتحسيس العائلات لتسترجع دورها الأساسي والمحوري في متابعة الأبناء، وتُضاعف دور الأسرة لا فقط للتصدي للانحراف والإجرام واستهلاك المخدرات بل كذلك لمظاهر استقطاب أبنائها، خاصة وأن العديد من العائلات تفطنت إلى انخراطهم في التنظيمات المقاتلة في سوريا أو المتمركزة في الجبال. كما يتوجب كذلك على الجهات الرسمية المبادرة بحملات تحسيسية في وسائل الإعلام والاتصال تكون مكثفة ومتواصلة في الزمن.
ولا تقتصر المسؤولية على دور العائلة، بل كذلك على التعليم وبرامجه وسلوك المدرسين الذين انعدمت عند البعض منهم روح المسؤولية والمبادرة للإسهام في بناء الفكر المستنير والمتشبع بالعلم والمعرفة. إن التعليم الذي كان مفخرة تونس بعد الاستقلال، لتميزه بالمنزع التنويري وبالمناهج الدراسية التي ترتكز على تقوية الثقافة والفكر النقدي فضلا عن تنمية الحسّ الوطني، عرف تقهقرا مفزعا منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي. وقد تمثل ذلك في تجريد المناهج من كنهها وفي قرار التعريب المتسرّع، وخاصة مادة الفلسفة. والمسألة لا تكمن في التعريب في حد ذاته بل في الطريقة الارتجالية المتبعة في اتخاذ مثل هذا القرار دون الإعداد مسبقا للمناهج الملائمة ،علاوة على عدم تأهيل المدرسين علميا وبيداغوجيا. فهل كان مثل ذلك القرار يهدف إلى تدجين الفكر النقدي ووأد الذكاء عند الناشئة من قبل السلطة والحزب الحاكم، والذي تزامن مع احتجاجات شعبية وغليان في بعض الجهات وكذلك في الجامعة وبعض المعاهد. وتلت ذلك «سياسة إرادية لإنجاح التلاميذ» قضت على مستوى التعليم نهائيا.
نتابع بكل اهتمام تصريحات وزير التربية الحالي حول الاصلاحات التي يعتزم القيام بها، ولا نشك البتة في مصداقيته وفي المجهودات التي يقوم بها. إلا أنه يتعيّن عليه القيام بإصلاح شامل للمنظومة التربوية وتأهيل المربين ضمن دورات تدريبة، والسهر على عودة الأنشطة المدرسية الثقافية والفنية والعلمية بكثافة في المؤسسات التربوية.
وفضلا عن المراجعة الجذرية للتعليم بكل مراحله، ينبغي العمل على تكثيف التحصيل العلمي وتقوية الروح الوطنية لدى التلاميذ والطلبة مع الأخذ في الاعتبار التطابق بين التعليم وسوق الشغل. كما يجب إدراج مواد غير تقليدية ضمن البرامج العلمية، ومن بينها التربية على وسائل الاتصال والانفتاح على التكنولوجيات الحديثة. ولمزيد فتح آفاق الشغل أمام الناشئة تتوجب العناية بالتكوين المهني والفني بمختلف مراحله وزيادة مخرجاته إلى نسبة مئوية عالية، حيث أن الجامعات أضحت «مصانع للعاطلين عن العمل».
غياب دور الفضاءات الثقافية والترفيهية الموجهة للشباب
يتبين من الوضع الراهن لدور الثقافة والشباب ضمور دورها وتدهور بناها التحتية وتجهيزاتها وعجزها عن تقديم مادّة مغرية للرواد، انجر عنه تـراجع إقبال الناشئة على المادة الثقافية والترفيهية. كما تقلص دور الجمعيات التي كانت تعنى بنشر الثقافة مثل الجامعة التونسية لنوادي السينما ونوادي القصة والمسرح، والتي كانت تمثل مواقع إشعاع في الجهات. وبانتشار الثقافة الرقمية و ألعاب الفيديو فُقد التحصيل الثقافي للناشئة. ولا يفوتنا أن نلفت الانتباه إلى تراجع فضاءات العرض السينمائي والمسرحي وانعدام الحوافز لتشجيع المستثمرين على بعث فضاءات جديدة (20 قاعة سينما في كامل الجمهورية)، علاوة على الانعدام الكلي للفضاءات الثقافية في الأحياء والمدن الجديدة.
وفي هذا الخصوص يتعيّن على وزارتي الثقافة والشباب إحياء هذه الدور وتنويع أنشطتها وإعادتها إلى سالف عملها الذي عرفناه زمن شبابنا. ومن بين الإجراءات الممكن اتخاذها لتجاوز هذا الوضع ، تطوير دور الثقافة و الشباب بجعلها مواكبة لإيقاع الناشئة من حيث البرمجة ووسائل الترغيب (حوالي 500 فضاء بين دور ثقافة ودور شباب)، بتصور مجدد وغير تقليدي وبتشريك الشباب مباشرة في تسييرها وصياغة أنشطتها، إضافة إلى تكثيف ورشات تكوين للشباب ومن بينها قراءة الأفلام والمسرحيات وتفكيك رموزها والتمكن من تقنيات الصورة والملتيميديا...
أما المطالعة التي عزفت عنها الأجبال الجديدة، فيكون من المفيد تطوير المكتبات العمومّية و إيجاد مقاربات جديدة لجعل الناشئة تقبل على القراءة و تتعّود عليها، علاوة على بعث برنامج »الكتاب للجميع « يعتمد على طباعة كتب بتكلفة بسيطة (باستعمال نوع من الورق ومجانية حقوق المؤلف ...)، وهو أمر ممكن ويطبق في عدة بلدان بما فيها الغربية.
ويبقى كذلك المجتمع المدني ومكوناته المتمثلة خاصة في الجمعيات، والتي يسيطر عليها حاليا »الإسلاميون«، وهو المجال الأرحب لتشريك الحراك الشبابي فيه وتشجيعه على الانضمام إليه.
ولمّا كان الإصلاح يتطلب نفسا طويلا وجهدا موصولا فإنّ من أوكد الأولويات العمل على زرع ثقافة الانتماء إلى الوطن وحبه والتضحية من أجله صيانة لمقومات الهويّة الوطنيّة ودرءا لمخاطر الفرقة والانقسام. وهل من مسلك أقوم ووسيلة أنجع من الثقافة لبناء مستقبل أكثر إشراقا للأجيال القادمة ولحمايتها من شرور التطرّف والانغلاق الفكري؟
ولنا أن نستحضر في هذا السياق ما كان يردده أحد أعلام الثقافة البارزين المرحوم حمادي الصيد : »متى يفهم العرب أن الخروج من جميع أزماتهم يتوقف على تجديد ثقافتهم«؟
توفيق جابر
- اكتب تعليق
- تعليق