يوميات مواطن عيّاش: شد كرهبتك لا يجيك ما أشوم!
كنت راكشا في بيتي مثل الباي، بين شيشة وكاس تاي، والمادام تدور بين يديّ، تجود باللوز والحلوة الشامية، عندما طرق الباب، فإذا به أغلى الأحباب، صديقي العيّاش، وهو- لو تعلمون- راجل كيفو ما ثماش. ولمّا فتحت له الباب مرحّبا، رأيت وجهه متقلّبا، فدخل وهو يهدر ويزمجر، مثل بحر هائج أو فيضان مدمر، ولم أتوصل إلى ترييضه (أو قل ترويضه) إلا بعد عناء، وقد أصابني ما أصابني من الإعياء.
ولما هدأ زائري من فورة غضبه، وعاد أخيرا إلى رشده، قلت له :«ما الذي دهاك يا رجل وماذا أصابك، حتى تفقد إلى هذه الدرجة أعصابك؟»، قال:«السيارة»، قلت: «لسيارة؟ وهل تعرضت إلى حادث يا ستار؟ أم سرقت منك في عزّ النهار؟»، فقال : «لا حادث ولا سرقة ولا حريق، بل فلسة في وقت الضيق، ودمار نزل عليّ من حيث لا أدري، ونار تشتعل في صدري»، فقلت: «والله مافهمت حتى كعبة، فوضح لي الأمر برب الكعبة!»، فقال: «من أين أبدأ القصة يا ترى؟ فالموضوع متشعب طويل، كما سترى».
فقلت:«ابدأ بما شئت ولا تطل علي، فقد أخذ القلق يتسرب إليّ»، قال: «لكن قبل ذلك اسمح لي من شيشتك بجبدات، ولا تبخل عليّ من شايك والحلويات!». وبعد أن شيّش صاحبي وتنهنه، عاد من جديد يتأوّه: «آه يا صاحبي آه، على صديقك وما دهاه ! سأبدأ لك قصتي بذلك الصباح التعيس، الذي أوقفني فيه بوليس. ولما تفحـص الكوارط والورقات، بان له أن تاريخ «الفزيتة» قد فات، فحجز بطاقتي الرمــاديّة وحرّر ضدّي محضرا وخطيّة. ولم تنفع مع الشـرطي توســـلاتي، وفشلت كلّ محـاولاتي، فسلمت أمري لخالق الأرض والسمــاء، وقلت: عليّ بالفزيتة دون إبطاء.
«لكن القدر كان يخبئ لي مفاجآت، لم أكن أراها في أخيب المنامات : فعندما أدرت مفتاح المحرك، رفض هذا الأخير أن يتحرّك. ورغم تكرار المحاولات، تمسّكت السيارة بالسكات، فما بقي لي إلا طلب النجدة من الميكانيكي جاري علاء، ليشخص الداء ويصف الدواء. وبعد انتظار مرّ علي كالقرون، أطلّ صاحبي بركبه الميمون، وأخذ يقلب ويجرب، ويمس ويجس، وأنا أنظر اليه كالبهلول، لا أفهم ماذا يقول، كلما ذكر، بالفرنسية، اسم قطعة ميكانيكية. وعندما انتهى من فحوصه الفنية، قال لي بنبرة الطبيب في الأفلام المصرية: «حالتها يا أستاذ خطيرة، ومعالجتها ليست باليسيرة، فعليك بالصبر الجميل، وضع ثقتك في الله العلي الجليل»، فأجبته بنفس النبرة السينمائية: «وهل الحالة ميؤوس منها يا دكتور علاء، ومرضها ما عندوش دواء؟، فرد عليّ الميكانيكي، بنفس الأسلوب الدراماتيكي :«أحنا نعملو إلّي علينا، وإن شاء الله ربي يشفيها ويهدينا». وبعد هذا الحوار السينمائي الركيك، جاءت الشنقالة لترفع السيارة إلى الكلينيك.
«ولم تمض بضع ساعات على رفع السيارة حتى هاتفني الميكانيكي يطلب «البشارة»: «احمد ربي على كل حال، ما طلعتلكشي «كولي بيال»، الضربة جات جلديّة، وما هي باش تكلفك كان مليون وميّة». فقلت له: «هاذي جلدية، وخذات لي كلّ الشهرية، إمالا لو كان جات الضربة قوية؟ ترسّي لي نخدم عام كامل عليها هيّ؟». لم يأبه الميكانيكي بالملاحظة، ووعدني بأن السيارة ستكون في أقرب وقت جاهزة، مؤكّدا أن نجاحها في امتحان الفزيتة مضمون، والمهمّ أن يكون معك المليون، والسماح في المياة دينار، على خاطر المدمّة والصغار. إلى الفزيتة الآن، واطلب ربك أن يخرجك ناجـحـا من هذا الامتحان!: هكذا قلت لنفسي وأنا أتسلم السيـارة من الدكتور علاء، سليمة- حـسب قـوله مـن كلّ أذى.
و«الفزيتة»، لمن لا يعلم، امتحان عسير، ويوم كبير، يذكّرك بيوم القيامة المشهود، فالداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود. إنك في يوم الحساب، تتأرجح بين الثواب والعقاب، تنتظر في طابور طويل، وبصبر جميل، المرور على الصراط، لتعرف ما لسيارتك من حسنات، وما عليها من سيئات، وإن كنت بالتالي من المغضوب عليهم المساكين، أم من أهل الجنة الميــامين، علما بأنّ جنّة «الفزيتة» لا تـدوم أكــثر مــن عام، تعــود بعده إلى كــرسي الحجّام.
«وكما في يوم القيامة، لا ترى في طوابير «الفزيتة»، إلا وجوها واجمة، من الامتحان خائفة، ومن الانتظار عابسة. وترى في المقابل أعوانا كالزبانية المرعبين، يقودون أحيانا بشدّة وأحيانا بلين، عمليّة تقدم الطوابير، نحو باب الحساب وتقرير المصير.
«وعندما يأتي دورك وتجتاز الباب، لا يفيد أصحاب ولا أحباب، إذ يستقبلك زبانية آخر، هم مقررو الخير والشرّ، فلا يبقى لك إلا أن تطلق صوتك بالدعاء والتسبيح، لكي تهتدي سيارتك إلى الطريق الصحيح، وإلا اضطررت للعودة إلى حساب جديد، وطابور آخر طويل مديد.
«بهذه الصورة في بالي، قصدت «الفزيتة» وأنا لا أبالي، أو هكذا أقنعت نفسي لأرفع من معنوياتي، وأزيل عنّي الخوف من الآتي. لكن الآتي خيّب انتظاراتي: فعند الفحص تبيّنت سيّئاتي، أو قل عيوب السيارة، فخرجت من «الفزيتة» وفي الحلق مرارة، لا أدري هل أثور على الميكانيكي الكذّاب، أم ألوم نفسي على فقري إلى أكتاف وأحباب، أجدهم وقت الغصرة، فلا أبقى مثلما أنا الآن في ندم وحسرة، لكن هل ينفع الندم بعد فوات الأوان؟ وهل كان في الإمكان إلا ما حصل وكان؟
«لذلك عدت مرغما لا بطل، إلى نقطة الصفر دون خجل، لأسلك مجددا الطريق الكلاسيكي، الذي يبدأ من الميكانيكي، وينتهي بامتحان اليوم الكبير، مرورا بصراط الطوابير... وبعد عناء وتعب، نجحت في تحقيق الأرب، وخرجت من مركز الفحص الفني، فرحا أغنّي».
وعندما بلغت رواية صديقي العياش هذا الحد، قطعت صمتي بعد أن امتد، وقلت: «تهانينا أيها الصديق، فالفرج لا بد أن يأتي بعد الضيق»، فقال العياش: «تهاني ماذا يا صاحبي؟ فالقصة لم تنته». قلت:«وهل لمسلسلك بقية، بعد أن خرجت سالما غانما من الفزيتة الفنية؟»، قال: «وهل تظن أن من يملك مثل هذه السيارة، مكتوب عليه غير الخسارة ؟ تصوّر أنني لم أبتعد عن مركز الفحص مسافة أمتار، حتى اشتعلت في المحرك النار، ولولا ألطاف الإله، لحصل ما لا تحمد عقباه».
قلت لصديقي العياش : «والآن ما الحل؟ وكيف سيكون العمل؟»، قال : «لقد حلفت عليها بالطلاق، ولا عودة اليها بعد اليوم على الإطلاق»، قلت: «وما دخل زوجتك في السيارة؟ اشرح لي بصريح العبارة!»، قال: «ومتى حدثتك عن حرمي المصونة؟ أنا أتكلم على السيارة الملعونة، وقد جئتك لتعينني على بيعها، بعد أن انتهيت من إصلاحها»، قلت: «وهل ستشتري غيرها، بعد أن أعياك أمرها؟»، فأجاب: «لا، أنا حلفت ع الكراهب، وماعادش فيهم راغب، ولكي أنسى همومي، سوف أستعمل النقل العمومي، فلست أحسن من مئات آلاف المواطنين والمواطنات ، الذين يستعملون يوميا المتروات والحافلات».
وبعد أسبوع من هذه الزيارة، هاتفت صاحبي ومعي البشارة: «لقد وجدت لك الشاري، وهو بانتظارك في داري». ففوجئت من العياش بكلام عجب: «وهل صدقت حقا كلامي وأنا في سورة غضب؟ لقد أصلحت السيارة، وعدلت عن البيع لا بالربح ولا بالخسارة، والحق الحق: جربت وسائل النقل العمومية، فوجدت أنها ما تصلحش بيّ، فأنا لا أحب الزحام، ولا كثرة الكلام، ومواعيدي في العمل دقيقة، ولا يجوز أن أتأخر ولو دقيقة. لذلك وجدت أن سيارتي بعملاتها أرحم، وشد كرهبتك لا يجيك ما أشوم!».
عادل الأحمر
- اكتب تعليق
- تعليق