رحلة على متن التك تك... - جولة في سوق دلي هات بالعاصمة الهندية
كلّ زيارة إلى الهند لا يمكن أن تكتمل بدون استكشاف أسواقها الشعبية، فهي تبقى، بعيدا عن اللقاءات والمؤسّسات الرسميّة، المرآة التي تعكس حقيقة المجتمع بكلّ تناقضاته وتبوح بما خفي من أسراره وطباعه. بل انه عبر الاحتكاك بروّاد تلك الأسواق وما تقدّمه للزائر من بضائع ومن أطباق فنيّة ثقافية ومن أكلات شعبية يمكن الوقوف على بعض من خصوصيّات بلد العجائب. وقد لا يكون من المبالغة في شيئ الإقرار بأنّ الزائر سيكتشف عبر تلك الأسواق وجها مختلفا بلا أقنعة أو بروتوكولات من بين الوجوه الكثيرة والمختلفة للهند، بلد الاطياف والعرقيات واللغات والأديان المتعددة، بلد يصدمك للوهلة الأولى صبر فقرائه وترف أغنيائه وتألق نجومه وفنانيه في عالم السينما والأفلام الهندية التي اقتحمت بيوتنا وباتت ضيفا ينافس الأفلام الٲمريكية والتركية و الإيرانية ...
هنا تتناول الغداء في كشمير... والعشاء في أغرا و تقضّي الليل في بومباي ...
دلي هات (DELLI HAAT) أحد تلك الأسواق الممتدة جنوب العاصمة نيودلهي التي لا يمكن للزائر ألاّ يتوقف عنده، لأنه وبكلّ بساطة خارطة مصغرة لشبه القارّة الهنديّة بخصوصياتها وفنونها وتراثها، هنا في رحاب هذا السوق تمتزج الصور والعروض بطريقة لا تتقنها إلاّ أنامل رسّام أو فنان مدرك لقيمة الفن والابداع في حياة الناس. ديلي هات، كما يسميه سكان العاصمة الهندية، أشبه بمسرح مفتوح في بلد المليار وأربع مائة مليون نسمة، يقدّم لزائريه من مختلف أنحاء العالم طبقا يلبي كلّ الاذواق والطلبات ...
ولعله من الطرائف المرتبطة بدلي هات أن الدخول إلى السوق يستوجب اقتطاع تذكرة كما في الملاعب الرياضية والمسارح ودور السينما. والسعر يقدر بعشرين روبي للسكان المحليين وخمسين روبي للأجانب. ولاشكّ أنّ الأهم، وقبل الانطلاق في جولة داخل ديلي هات، أن تمرّ بما حول الســوق مــن عربات وباعة متجولين يتنافسون في جلب انتباه الزبائن، ويعرضون بدورهم ما لديهم مـن بضــائع مختلفة بدءا بالشاي والثمار، مرورا ببعض المنتوجات الصناعية العائلية وصولا الى الكتب بالانجليزية أو الهندية بما يلبي كلّ المستويات، وحيث يمكنك أن تعثر على مذكرات غاندي بمبلغ يقل عن اليورو الواحد ...
الوصول إلى ديلي هات ليس بالأمر الصعب حتى لمن يزور هذا البلد لأول مرّة، وسيكون بالإمكان الوصول إلى السوق لمن شاء عبر المترو انطلاقا من ساحة نهرو. و لكنّ الممتع فعلا، اذا أردت متابعة سير الطريق والاطلاع على الحركة في الشارع في أي ساعة من النهار، أن تركب التكتك، تلك العربة المتوفرة طوال النهار والليل في كلّ مكان والتي يمكن الاشتراك فيها بين أكثر من شخص. وستمنحك الرحلة فرصة مشاهدة العاصمة الهندية المزدحمة على مدار الساعة وهي تستفيق صباحا على رائحة الأطعمة الهندية المتسللة من تلك العربات الممتدة على الطرقات وهي تعرض وجباتها الصباحية ومشروباتها على المارة من العمال والطلبة وغيرهم، وعلى متنها أيضا ستكتشف متاعب الحياة بالنسبة لأصحابها وقيمة تلك العربة التي تمثل مصدر ثروتهم، لذلك تراهم لا يتوقفون عن تلميعها وهم ينتظرون زبائنهم ... الرحلة إلى دلي هات ستأخذك لبعض الوقت بعيدا عن رفاهية الفنادق إلى حياة الشارع حيث الفقر والبؤس والتشرد الواضح على ملامح أطفال وقد استيقظوا لتوّهم من النوم وبدؤوا يطوون الملايات البلاستيكية التي افترشوها على الٲرصفة وتحت الأشجار والجسور، هناك أيضا قد تجد طفلة تسحرك بجمالها وسمرتها تعرض على المارّة باقة من الورد أو سبائك ملونة صنعتها من البلاستيك...
وكلما توغلت في الطريق، كلما سادك اعتقاد بأنّ للهند أكثر من وجه تسوّقه للزائر في بلد دخل النادي النووي منذ عقود ولكن نحو ثلث مواطنيه يعيشون حالة من الخصاصة والفقر المدقع ... خلف القتامة وخلف الوجوه البائسة المنتشرة في الأرض بحثا عن لقمة العيش في زحمة الحياة، ترى الهندوس بعمائمهم أو رؤوسهم المكشوفة يسيرون في هدوء مثير وكأنهم على قناعة، على رأي الخبراء والمطلعين بشأن هذا البلد، بأنّ ما يعيشونه من إقصاء أو تهميش وفقر ليس بسبب إخفاقات الحكومة ولا بسبب السياسات الفاشلة أو الفساد، ولكنه وضع فرضته الطبيعة التي صنفت البشر إلى طبقات من النبلاء و الٲثرياء والمنبوذين وأن لكلّ حظه...
طموحات هنديّة لا حدّ لها ...
ولعلّ ما يمنح سوق دلي هات طابعا خاصّا ذلك الحضور الاستعراضي العجيب للألوان الزاهية التي تشفي السقم وتزيل الغمّ من النفوس. كيف لا والهند تعدّ 7 ملايين حرفي جعلوا من الصناعات التقليدية والنسيج مورد رزق لهم ولعائلاتهم، وجعلوا لكلّ عائلة منهم اختصاصها وشهرتها ومجالها وربّما هذا ما يفسّر أن الهند يكاد يكون البلد الوحيد الذي يعتمد وزيرا للنسيج في الحكومة المركزية.
دلي هات، الواقع جنوب العاصمة السياسية والمالية نيودلهي، يضمّ 200 محلّ صغير يتناوب عليه التجار من كلّ أنحاء الهند كل أسبوعين، يعرض فيه أصحابه كلّ أنواع الصناعات التقليدية الهندية من حرير و مفارش وخزف واكسسوارات وعطور وغيرها من المقتنيات التي تشهد على جودة وبراعة الٲنامل الهندية التي باتت منافسا جديا للبضاعة الصينية المقلدة. هناك أيضا في السوق يمكن أن تتذوق كلّ الأطعمة الهندية والبهارات الشهيرة القادمة من جودبور إلى جيبور إلى كلكوتا إلى اغرا وسهربور. كما أن المطاعم المتوفرة في السوق تمنحك الفرصة أن تتناول فطور الصباح في كشمير والغداء في بومباي والعشاء في دلهي ...
ولٲنّ شوارع وأروقة وأسواق العاصمة الهندية نيودلهي كانت ولا تزال أشبه بالمعرض الفني المفتوح على مدار السنة، فقد بهرت العالم ألكلر بارتي الذي يقول في ذلك «عن الهند أنقل اليكم اعتراف الطواويس بأنها استعارت ألوانها من قلوب الهناودة »... بين أروقة سوق دلي هات أيضا سيبهرك الحضور المميز للمرأة الهنديّة التي تصنع بفكرها وأناملها وذوقها الرفيع أسطورة الهند الصاعدة في آسيا. تجدها تجلس في هدوء على الأرض أو أمام عربتها الصغيرة أو محلها تتفانى في الرسم أو الحياكة أو في صنع المجوهرات والاكسسوارات بمختلف أنواع الحجارة المستجلبة من المدن الهندية. لكن ستجد هناك من تجلس خلف السوق تقرأ الكف وتستطلع الأخبار للراغبين في ذلك، وستجد أيضا هناك من تجلس ترسم بالحناء رسوما فنية رائعة على أيدي وأرجل النساء والفتيات الملتحفات بالزي الهندي التقليدي أو الساري الذي لا تستغني عنه نساء الهند في الٲحياء الشعبيّة كما الٲحياء الراقية ...يقول البعض إنّ للهندوس ثلاثة وثلاثون مليار آلهة من آلهة الحب والزراعة والسعادة إلى آلهة المطر والنور والشمس وغيرها. وربما في ذلك ما يمنح الهندوس المجال للخيال الواسع والابداع والابتكار في مختلف مجالات الفنون في بلد يتطلع قادته السياسيون إلى أن تكون الصناعات التقليدية والنسيج والفنون والسينما جسرا لاكتساح العالم ثقافيا وصناعيا، وتجاوز كلّ الحدود الجغرافية والوصول بالبضائع الهندية إلى القارة الإفريقية والرهان من أجل الارتقاء بمستوى المبادلات التجارية الالكترونية إلى 100 مليار دولار بحلول سنة 2020 ...
«دلي هات» رحلة سياحية ثقافية ممتعة تأخذك بين مختلف أقاليم الهند التي لن تتمكن من الوصول اليها ... ولمن شاء أيضا فإنّ العاصمة نيودلهي، وهي من أكبر عواصم العالم، حيث تضمّ 18 مليون نسمة، تحتضن مئات المعالم الٲثرية التي تختزن ذاكرة الهند وتاريخ الحضارات الهندوسية والفارسية والمغولية المتعاقبة عليها، ومنها القلعة الحمراء المترامية الأطراف والمسجد الجامع الشهير الذي بناه السلطان شاه جاهير، الذي أقام تاج محل، والذي يتسع لخمس وعشرين ألف من المصلين وهو قبلة السياح والمسلمين في الهند، على أنه من الطرائف أنّ النساء في الهند لا يسمح لهنّ بدخول المسجد بعد المغرب ... قوس النصر الذي أقيم على شكل قوس النصر في العاصمة الفرنسية، تاج محل المتحف الوطني، متحف غاندي، جامعة نهرو ومعالم مغرية لمن كانت وجهته العاصمة الهندية التي مهما حاولت أن تغطي كلّ ما فيها فلن تتمكن من ذلك. ونيودلهي، التي توصف بأنها تمثال مصغر عن شبه القارة الهندية، لن تخذلك من حيث تعدد المفاجآت وتنوعها ... وسيجد الزائر في ذلك الحضور المكثف للتلاميذ والمربين من مختلف المستويات والطوابير الطويلة لأطفال المحاضن والمدارس والمعاهد في المتاحف، كما في غيرها من المواقع الاثرية، وفي الحدائق العمومية ما يثير الدهشة فعلا أمام تلك «الحشود» في زيها التلمذي الموحّد، البدلة للذكور واللباس الهندي للفتيات ... المفاجآت التي يمكن أن تصادفك في شوارع العاصمة الهندية قد لا تقف عند حدّ وهي حتما ستفتح شهية الزائر للبحث والغوص في أسرار هذا البلد الذي يتطلع إلى الانفتاح على بقيّة شعوب العالم في زمن العولمة وعصر الثقافة الالكترونية... ولعلّ هذا ما جعل العالم ألكلر بارتي يقول في ذلك «عن الهند أنقل اليكم اعتراف الطواويس بأنها استعارت ألوانها من قلوب الهناودة»...
آسيا العتروس
- اكتب تعليق
- تعليق