الانتفاضة الفلسطينية الثالثة هل تكون انتفاضة حتى النصر؟
إن الانتفاضة الجديدة التي تشهدها مدينة القدس الشريف والأراضي الفلسطينية المحتلة منذ مطلع شهر أكتوبر الماضي جاءت لتؤكد أن جمرة الصمود والمقاومة ما تزال، بالرغم من كثافة الرماد الذي غطاها لوهلة من الزمن، متقدة في صدور أبناء الشعب الفلسطيني الذي أثبتت أجياله المتعاقبة أنها ترفض الاستكانة والإذعان لارادة اسرائيل الجائرة.
لئن سميـــت هـــذه الانتفاضة بالانتفاضة الثالثة لما يجمع بينها وبين انتفاضتي 1989 و2000 من أوجه شبه لا سيما من حيث أسباب اندلاعها، فإنها، في ما أرى، تختلف عنهما بجملة من الخصائص التي قد تجعلها أقدر على الحسم وعلى القطع مع سنوات التيه الطويلة التي عرفتها القضية الفلسطينية بسبب «الحمل الكاذب» الذي ذهب الظن الى أن اتفاقيات أوسلو الخادعة كانت تحمله بين أحشائها. إن هذه الانتفاضة تأتي في سياق إسرائيلي وفلسطيني وعربي ودولي مختلف تمام الاختلاف عن سياقي الانتفاضتين الأولى والثانية.
فعلى الصعيد الإسرائيلي يكفي أن نلاحظ أنها اندلعت بالتزامن مع حلول الذكرى العشرين لاغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي إسحق رابين على يد شاب اسرائيلي متطرف، لندرك هذه الحقيقة، فما من ريب أن الشعب الفلسطيني تيقن اليوم بشكل قاطع من أنه لم يكن، على امتداد العقدين الأخيرين، يطارد إلا «سرابا» خادعا وأنه لن يفتأ أن يموت عطشا إن واصل السير في الصحراء التي زجت به فيها لعبة قذرة اسرائيلية -أمريكية شاركت فيها، مع الأسف، أيد فلسطينية وعربية...
وواضح من التجمع الكبير الذي أقيم لإحياء هذه الذكرى، مساء يوم السبت 31 اكتوبر 2015 في الساحة التي سميت باسم رئيس الوزراء المغتال، أن اسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مستمرتان في خداعهما، فلقد تغنى المتحدثون خلال هذا التجمع بالسلام الذي يجب أن يأتي وكان على رأس المتحدثين الرئيس الاسرائيلي والرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، والرئيس الامريكي الحالي باراك أوباما الذي توجه إلى الحضور بكلمة مصورة... وغني عن البيان أن عملية اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين، وهي أول عملية من نوعها في تاريخ الدولة الإسرائيلية مند قيامها، جاءت لتؤكد أن إسرائيل والسلام أشبه شيء بخطين متوازيين لا يلتقيان أبدا إلا بقوة قاهرة، أو بمعجزة خارقة، خاصة وأن القادة الإسرائيليين أصيبوا بعدها بالرعب، ولم يعودوا قادرين على مواصلة السير على طريق التسوية، بل إنهم أصبحوا يتنافسون على عرقلة مسيرتها بالإمعان في قهر الشعب الفلسطيني وقمعه، وهو ما يفسر هيمنة أكثر القادة اليمينيين تشددا على مقاليد الحكم في إسرائيل على امتداد أغلب فترات العشرين سنة الماضية...لذلك لم يكن من العجيب أن يكون صنّاع الانتفاضة الفلسطينية الراهنة من الفتية والفتيات الذين لم يبلغوا سنّ العشرين، أي من الذين يمكن أن نسميهم «جيل اتفاقيات أوسلو» وهو جيل خاب ظنه في مقولات هذه الاتفاقيات وفقد الأمل في أن يرى نفسه حرا وأن يرى بلاده مستقلة إن لم يتحرك ولم ينتفض، بل لم يثـر على إســرائيل وعلى عدوانها المتفاقم على الشعب الفلسطيني وعلى حقوقه ومقدساته.
أما على الصعيد الفلسطيني فقد بات واضحا للعيان أن القيادة الفلسطينية الراهنة، وهي القيادة التي أتت باتفاقيات أوسلو وأتت بها اتفاقيات أوسلو الى الحكم، تهرمت وترهلت وفقدت كل رصيدها من المصداقية بعد أن عجزت عن تحقيق التسوية الموعودة، وفشلت في صد إسرائيل عن انتهاك أبسط حقوق الشعب الفلسطيني وعن التهام المزيد من أراضيه التي كان يفترض أن يقيم عليها دولته المستقلة، وربما يكون الوقت قد حان لسقوطها تلقائيا ودون حاجة الى اسقاطها... وأما على الصعيد العربي، فإن انصراف العرب، بعد ثورات ما يسمى بـ«الربيع العربي» وما كان لها من مضاعفات جسيمة على أوضاع المنطقة، عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وانشغال مختلف الدول العربية إما بشؤونها الداخلية أو ببعضها البعض، يشكلان في نظري فرصة ذهبية ينبغي للفلسطينيين أن يستغلوها أحسن استغلال وأن يوظفوها أحكم توظيف من خلال تكريس مبدإ التعويل على أنفسهم ورسم السياسات واتخاذ القرارات المستقلة التي تخدم قضيتهم بعيدا عن الإرادات والمواقف العربية المتضاربة والمتخاذلة... ولقد أثبتت تجارب الشعوب في مختلف أرجاء الأرض أن لا حرية لشعب لا يحرر نفسه بنفسه...
وأما على الصعيد الدولي، فلا بد أن نلاحظ أن الانتفاضة الفلسطينيـة الجديدة تأتي في وقت بدأت فيه مؤشـــرات انتهاء زمن التفرد الامــريكي بإدارة شؤون العالم وبالتحكم في مجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط تتأكد يوما بعد يوم، لا سيما بعد أن قررت موسكو استعادة موقعها على الصعيدين الدولي والإقليمي والعودة بقوة وبالقوة الى هذه المنطقة الاستراتيجية، الآن وفي مرحلة أولى من البوابة السورية، وربما مستقبلا وفي مرحلة لاحقة من البوابتين العراقية والمصرية وحتى الليبية... ولعله من نافلة القول أن الانتفاضة الفلسطينية ينبغي ألا تدخر جهدا في الاستفادة من عمليّة إعادة تشكيل ميزان القوى الجارية في الشــرق الأوســـط الاستفــادة القصوى الممكنة.
وعلى العموم فإن الفلسطينيين مدعوون في نظري إلى أن يتذكروا جيدا أنهم يقفون اليوم على بعد أقل من سنتين من مرور قرن على صدور وعد بلفور ومرور نصف قرن على نكسة الخامس من جوان 1967 التي ذهبت بالبقية الباقية من أراضيهم، وإلى أن يضعوا نصب أعينهم ضرورة ان يبدأوا القرن الثاني من صراعهم الوجودي الطويل مع اسرائيل إما بالشروع في بناء أسس دولتهم المستقلة المنتظرة، إن أمكن، أو بتحويل انتفاضتهم التي لا ينبغي أن تنقطع أو تتوقف الى ثورة تحريرية حقيقية من أجل افتكاك هذه الدولة غصبا من مغتصبها... فهل ستنحو الانتفاضة هذا النحو؟ وهل ستجتهــد في تـــوحيـــد صفــوف الشعب الفلسطيني حتى يقف بكل مكوناته في مواجهة العدوان الإسرائيلي؟ وهل ستعمل على استغلال المتغيرات الاقليمية والدولية المواتية من أجل تحقيق أهدافها الوطنية النبيلة المشروعة؟...
إنّنا نأمل ذلك.. ونأمل ألا يقع غدرها هي أيضا وعلى غرار ما حدث لأختيها السابقتين بوعود كاذبة جديدة...
ولا غالب إلا الله.
محمد ابراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق