أخبار - 2015.12.02

عياض بن عاشور: ألا انهضوا يا بني وطني

ألا انهضوا يا بني وطني

العنف الإرهابي الانتحاري الآخذ في التعاظم في بلادنا يعتبر بلا ريب أشد أشكال  العنف حدة، لكنه لا يملأ وحده المشهد. يكفي أن  يسير الواحد منا على الطريق العام حتى يدرك أن لا وجود حقيقة لضوابط تحكم السلوك، ناهيك عن ضوابط السير على الطريق. إنه سلطان اللامبالاة وعدم الاكتراث، سلطان ينتهي إلى العنف، ولا شيء آخر غير العنف.

لقد فاز رئيس الجمهورية في الانتخابات لأنه خاضها معتمدا على مبدأين أساسيين. أولهما "دولة مدنية لبلد مسلم". وثانيهما "ترسيخ هيبة الدولة". شعاران حركا السواكن، ومهدا السبيل لتجميع شتات قوى وأحزاب وشخصيات متعددة المشارب صلب حزب واحد. اجتمع شمل كل هؤلاء، وكان السبيل إلى ذلك إحياء أسطورة قام عليها استقلال البلد :" أي نعم للتدين المجتمعي المتطور, لا للدين السياسي " من جهة، والحرص على تخليص الحياة الاجتماعية من كل مظاهر اللامبالاة وعدم الاكتراث، من جهة ثانية.

"دولة مدنية لبلد مسلم"،  شعار يحمل أكثر من معنى، يحض على القيام بعمل بعينه يتمثل في مناهضة كل أشكال التدين المشوب بالسياسة بمعناها المبتذل، عمل لا ينبغي بطبيعة الحال أن ينجز باللجوء إلى وسائل الإكراه و العنف. إنه عمل شاق طويل النفس،  ذو طبيعة ثقافية وتربوية واجتماعية. والعودة إلى الاسطورة التي أسست لاستقلال البلد لا يمكن بطبيعة الحال أن تترك للدولة وحدها، فعلى المجتمع المدني أن يسهم في هذا العمل بكل جد. فالمجتمع المدني هو الذي أفشل خلال الفترة الانتقالية كل المحاولات الرامية إلى أسلمة المجتمع والدولة. لكن ما تحقق لنا يبقى اليوم دون المؤمل بكثير. فالسعي إلى أسلمة المجتمع تمهيدا لأسلمة الدولة في نظر البعض يتعاظم باستمرار رغم ما تقوم به الحكومة من عمل لتدارك الأمر، لا سيما على مستوى الشؤون الدينية والتربية على سبيل المثال، وهو أمر واضح للعيان في المؤسسات العمومية الكبرى وفي المصالح العامة. مظاهر هذا التدين الأرعن المستشري غير خافية،  نراها في الأماكن العامة وفي المستشفيات وفي المصحات الخاصة والعامة وفي المدارس وداخل المحاكم. ففي بعض المصالح المدنية وأمام بعض المحاكم، نرى كيف أن مجلة الاحوال الشخصية تترك جانبا، ونرى ما هو أفضع وأدهى: دستور 2014 يتم تجاهله وخرقه. من ذلك أن بعض القضاة في محاكم كمحكمة الاستئناف بتونس ضمن القرار الصادر عنها بتاريخ 26 جوان 2014 يمعنون في التغاضي عن دستور2014، ويتجاهلون وجوده تماما أو هم يذهبون في تأويله مذهبا مغرقا في الغرابة، يجرده من كل معنى. عمل كثير ينتظرنا إذا، وعلى الحكومة أن تبادر إلى بلورة استراتيجية طويلة النفس ودقيقة، بغرض التصدي لثقافة ساعية إلى قلب الموازين ظهرا على عقب عن طريق الخلط بين ما هو تدين مجتمعي وما هو تدين سياسي. ففي وسط كهذا، وفي ثقافة كهذه، يجد الإرهابي ما يحتاجه من عدة وعتاد، وما به يقوى اعتقاده الراسخ بأن دنيا البشر على وجه الأرض ينبغي أن تمحق محقا في حال مخالفتها لنظام ملكوتي شرعي أقره الله. العداء الذي يضمره الإرهابي تجاه البشر مبني على هذا الاعتقاد الراسخ بأن حياته وحياة غيره من عباد الله يمكن أن يضحى بها نصرة لهذه القضية التي يعتبرها من أجل القضايا وأسماها. فمقاومة الإرهاب تبدأ بالتصدي إلى هذا النمط من الثقافة.

الإرهاب في تونس يتغذى مما تتيحه له ايديولوجيا الاسلام الذي نشأ في سياق الثورات الحاصلة هنا وهناك،  وفي ظل بعض السياقات الدولية والإقليمية، ويستفيد إلى حد كبير من غياب العدالة الاجتماعية الذي يعتبر من أهم الاسباب المباشرة لتفشي هذه الظاهرة، إلى جانب العامل الثقافي. ومسألة العدالة الاجتماعية تبقى مطروحة طالما بلغ الفقر حدودا غير مقبولة، تعاظمت بعد الثورة، وهو ما يعمق الشعور بالإحباط المتولد عن مظاهر الإقصاء الاجتماعي، ويضعف الشعور بالمواطنة وبالانتماء الوطني، بل يقضي عليه تماما. والشهادة التي أدلى بها نسيم السلطاني أحد أقارب مبروك السلطاني الذي قطع الإرهابيون رأسه في جهة سيدي بوزيد ونقلتها احدى القنوات التلفزية في 16 نوفمبر 2015 فيها من البلاغة والقوة بهذا الخصوص ما لا يتاح للكتب التي تتحدث عن ظاهرة الإرهاب وعن أسباب نشأتها. حينما يبلغ الفقر مستويات غير مقبولة مثل هذه، فإن ذلك يقوي العوامل النفسية التي تدفع إلى العنف بشتى أشكاله ويجر الإرهابيين إلى شراء الذمم فيغرون ضحاياهم ويحملونهم على التزام الصمت ثم يضمونهم إلى صفوفهم ويدربونهم ويغسلون أدمغتهم. ويخطئ من يعتقد أن تجذر ظاهرة الإرهاب في العالم وفي بلادنا مرده إلى انحراف ما. ولكي نتوفق إلى التصدي بنجاعة للإرهاب، علينا أن ندرك أن هناك أسبابا وجيهة يمكن أن يتخذها الإرهاب ذريعة لكي ينغرس بهذا الشكل في بيئة تقبل بان تكون حاضنة له لأسباب وجيهة كذلك. هذا يعيدنا إلى معضلة العدالة الاجتماعية التي تقع في صميم أهداف الثورة، بل قل أن للثورة فيها نصيب النصف و للحرية نصيب النصف الآخر.

ولا سبيل إلى حل المشاكل بمجرد الاعتماد على الإجراءات الأمنية والقوانين المناهضة للإرهاب كالقانون عدد 22/2015 بتاريخ 7 أوت 2015 المتعلق بمقامة  الإرهاب والتصدي لظاهرة تبييض الأموال بمعزل عن طبيعة الإرهاب وطبيعة تبييض الأموال كظاهرتين منافيتين للحرية الإنسانية.

وهنالك معطى أساسي، بل قل وجودي، لا بد لنا أن نستحضرها كلما انصرفنا إلى معالجة بعض القضايا سواء تعلق الأمر بمعالجة ظاهرة الإرهاب أم بالتصدي لمشكلة تبييض الأموال، وهو معطى مفاده أن ثورة قد حصلت. كثير من الناس نراهم في غفلة من ذلك معرضون. ويستحيل أن نذهب في ممارسة السياسة دون أن تكون هذه الفكرة المهمة ماثلة في أذهاننا وخاطرة في خلدنا. لكننا نلاحظ بكل أسف أن السياسة عندنا  أصبحت اليوم تمارس على نحو لا يستجيب لأحد أهم الأسباب التي دفعت إلى الثورة، كما لا يتماشى مع ذلك الوعد الذي آلينا على أنفسنا أن ننجزه والمتمثل في تثبيت سلطان الدولة. ولا نرى في راهن الأحداث إشارات ما تشي بأننا ماضون فعلا في هذا الاتجاه، بل نرى فيها مؤشرا على أننا سائرون في اتجاه إضعاف الدولة.

نرى كيف أن السلطات العامة وبعض الأحزاب السياسية إلى جانب عديد النواب في مجلس نواب الشعب يسلكون سلوكا يوحي بأنهم على غير وعي بأن هنالك ثورة قد حصلت. وما كان هذا الانقسام صلب نداء تونس أن يكتسي خطورة تذكر لو ظلت تبعاته مقصورة على الحزب وحده، لكنها و يا للآسف تجاوزت حدوده وخرجت عن نطاقه. هذه التداعيات تنال من توازن تآلفات تشكلت بشق الأنفس داخل مجلس نواب الشعب وتمس بسير السلطات العامة وتضرب توازناتها، كما تمس أي سعي إلى تأويل الدستور وتنفيذه. فعن أي سلطان دولة نتحدث؟  وعلينا من جهة أخرى أن نذكر بحقيقة ثابتة مفادها أن الشعب التونسي أصبح يتملكه شعور بالقرف والاستياء تجاه ما يحدث من أمور ذات صلة بهذه الأسرة وبهذا الشق أو ذاك. ولسنا هنا في معرض إطلاق الأحكام على أشخاص بعينهم حتى ولو كان لهم من الشأن والجاه ما يرفعهم إلى مقام عمر بن عبد العزيز ومارك أوريل، إنما يهمنا أن نقول أن هنالك حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، وهي أن شعبنا ضاق ذرعا بهذه الأمور، ولم يعد يستسيغ ما يروج من حكايات عن العائلات أو عن هذا الشق أو ذاك. هذه حقيقة موضوعية قد تكون غيرعادلة من منظور شخصي للعدالة، إنما تظل قائمة ثابتة لا تحتاج إلى نقاش. الأمر هو ذاك، لأن الثورة قررته ولأجله قضى الشهداء. لقد حدثت ثورة ولا سبيل إلى إدراك ما لسلطان الدولة من معنى إلا من خلال هذا المنظور وحده. ما حصل داخل نداء تونس أمر مسيء لرئيس الجمهورية على الصعيدين الوطني والدولي، لكنه يمس فوق كل ذلك من هيبة الدولة. الخسران يبقى نصيبنا جميعا في هذه اللعبة ويبقى الإرهابيون وحدهم في عداد المنتصرين فيها ... فهلا انهضوا يا بني وطني؟

عياض بن عاشور

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.