في تاريخ الحداثة الثقافية والفكرية في تونس
لتونس حركة علمية وأدبية متتالية الحلقات، عريقة في التاريخ لا سيما منذ جمهورية قرطاج. ولو أن أحدا استعرض التاريخ التونسي، قبل الإسلام وبعده، لوجد أن البلاد التونسية كانت منذ عشرات القرون موطنا لحضارات عديدة نشأت فوق أرضها بفضل جهود أبنائها، أو جاءت عن طريق الوافدين عليها.
وفي طليعة هذه الحضارات حضارة قرطاجنة التي دامت سبعة قرون كاملة، سيطرت على حوض البحر الأبيض المتوسط ونافست روما . وقد تتالت بعد ذلك حضارات أخرى أهمها الحضارة العربية الإسلامية منذ منتصف القرن الأول الهجري، حين وضع عقبة بن نافع الأسس الأولى لمدينة القيروان.
ولست بحاجة الى استعراض كامل تاريخ الأدب والثقافة العربية في تونس، بل يكفي أن أذكّر بأعلام تونسيين ملأت شهة، رتهم الآفاق وما تزال مؤلفاتهم مصدر الهام للفكر البشري. ومن ابرز هؤلاء "عبدالرحمن ابن خلدون" وهو غني عن التعريف، و"جمال الدين ابن منظور" صاحب لسان العرب، أكبر موسوعة للغة العربية, فضلا عن مؤلفاته العديدة الأخرى، وكذلك " ابن شرف" صاحب زهر الأدب، و"ابن ظفر الصقلي "وهو أول ألف في أدب الأطفال و"ابن رشيق" صاحب "العمدة"، الكتاب الأدبي الشهير و"حازم القرطاجني" وهو أول من جعل من فن الجمال الأدبي والمناهج الأدبية علما خاصا قائما بذاته و"ابن حمديس" الذي علّم الايطاليين القافية والزجل والشعر الغنائي والوصفي وابن الجزار الذي يعتبر من الأطباء العالميين المعتَمدين في التدريس بأوروبا من القرن العاشر إلى القرن السابع عشر ميلاديا و"علي بن أبي الرجال" وهو من أساطين الفلك في العصر الوسيط.
أما "محمد بن سحنون" و"أبو الحسن القابسي" و"ابن خلدون" فهم أول من وضع علم التدريس وخصّه بالتأليف. وقد اقتُبست مؤلفاتهم في علمي التدريس والتربية الحديثين. وأذكر كذلك الملك "المعز ابن باديس" وهو أول من ألف في فن الخطوط وصناعة الرق والورق والتجليد. أما "ابن الصلت المهدوي" و"إبراهيم الرقيق القيرواني"، فهما من عظماء المؤلفين في فن الموسيقى.
وقد كان للتونسيين أثر في تأسيس عديد الجامعات، فالجامعة الزيتونية بتونس بناها عبدالله بن الحبحاب سنة 114هـ. وجامعة القرويين بفاس بنتها الأميرة "فاطمة أم البنين" سنة 255هـ. وجامعة الأزهر في القاهرة بناها "المعز لدين الله الفاطمي" سنة 365هـ. وعلاوةعلى ذلك ساهم أهل تونس في تأسيس الجامعات العلمية بأوروبا، فضلا عن جامعة "دار الحكمة" بالقيروان. أما جامعاتهم بأوروبا فهي : جامعة بالرمو، التي أسسها "بنو الحسين" حكام صقلية التونسيون وجامعة كاسينو التي كان يدرس بها أساتذة تونسيون وبكتب تونسية. وكان بعض الأساتذة التونسيين ينقلون إلى اللاتينية أمهات الكتب العربية في كافة العلوم. فإذا علمنا أن الطفرة العلمية الأوروبية الحديثة، قد انبثقت من جنوب ايطاليا، ندرك إلى أي حد كانت جليلة وعظمية تلك الخدمات التي أسداها التونسيون إلى الفكر البشري والثقافة العالمية.
وغني عن البيان ان الجذور الأولى للحركة الاصلاحية في تونس تعود إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حين قام المصلح التونسي خير الدين باشا، بوضع أسس ثابتة لتجديد علمي واجتماعي شامل، أثمرت في عهده ولا تزال تعطي أحسن الثمرات. وقد بدأ خير الدين سلسلة أعماله الإصلاحية بتأسيس المدرسة الصادقية التي كانت تدرس فيها العلوم واللغات الأجنبية،وقد تخرّج منها عدد كبير من رجالات الفكر والعلم، وما زالت هذه الموسسة تضطلع حتى اليوم بدور علمي وادبي مهم. واضافة الى تاسيس هذه المدرسة وضع خيرالدين قانونا لإصلاح التعليم وتنظيمه بالجامعة الزيتونية. كما أرسل بعثات علمية لفرنسا وايطاليا، التي ما لبثت أن عادت إلى بلادها فساهمت في بناء صرح الصحوة الحديثة مساهمة فعالة.
وفي 21 مارس 1881 نُكبت البلاد بالاستعمار الفرنسي الغاشم ، وعانت من ظلمه وعدوانه. لكن الشعب التونسي لم يستسلم لكل ما وضعه الاستعمار في طريقه من عقبات .وهو ما أتاح انبثاق حركات قوية في شتى الميادين هدفها تحقيق صحوة تقوم على أسس راسخة من التضحية والفداء. وقد حمل لواءها وتقلد أعباءها عن وإيمان واقتدار نفر من الشباب المثقف الواعي الذي أدرك بمرارة مدى الهوة السحيقة التي تردى فيها الشعب التونسي فأخذ على عاتقه إنقاذ هذا الشعب من كل محنه.
وتقدمت هذه الطليعة الواعية من الشباب المخلص المستنير إلى ميادين الكفاح وصدحت بآرائها الجديدة في جرأة نادرة وبحماس شديد، مبشّرة بانطلاق كفاح شاق عنيف. وسرعان ما التفّت حولها جماعة قليلة أخرى من الشباب المتحفز الطموح، اصطدمت بقوتين خطيرتين هما : الاستعمار الفرنسي الغاشم والحركات الرجعية التي كانت سادرة في أحلامها ومنغمسة في متعها على حساب الشعب الجاهل المنكود.
وبديهي أن هذا الكفاح الشاق العنيف لم يكن ليكلل بالنصر ويلازمه النجاح لولا نضالات رجال افذاذ .
ابو القاسم الشابي رمز التجديد الفكري
ومن بين هؤلاء، كان "أبو القاسم الشابي" نموذجا لهذا الشباب المناضل ورائدا لحركة الانبعاث الفكري، والتجديد الأدبي في تونس، وشاعرا ملهما ناوأته البيئة وصادمه المجتمع، وناهضته العقول المحنّطة والأفهام المتحجرة فكان نصره عليها باهرا وثباته أمامها قويا.
والشابي صورة حيّة لوجدان الشعب التونسي في تلك المرحلة الصعبة ، التي أيقظت في نفسه عوامل الطموح الوثّاب والكفاح العنيف. فكان الشابي خير معبر عن آلام الشعب التونسي وآماله، وأصدق دافع لثورته وانتفاضه، في أدبها القوي الرفيع وتصويرها الصادق الأمين.
إن حياة الشابي مليئة بالشقاء والألم،زاخرة بالأحزان والأتراح، طافحة بالحرمان والعذاب موسومة بالكآبة والأسى. ولسنا نعرف شاعرا في مثل بيئة الشابي وأجوائه، تجمعت عليه ضروب العذاب وألوان الشقاء، ، فألهبت قلبه بالحب، وقادته إلى حياة تميزت بتبرمه العنيف وثورته الجارفة . ولأبي القاسم الشابي الذي ولد في 24 فيفري 1909 و توفي في 9 أكتوبر 1934، أي عن سن لم تتجاوز 25 سنة، مكانة استثنائية في التاريخ الثقافي التونسي، هي مكانة الرمز والقيمة الأدبية العالية التي تناطح قمم الأدب والشعر. فهو شاعر الخضراء الخالد دون منازع وصاحب تجربة رائدة في مجال الحداثة الشعرية والمقالات النقدية الجريئة أفصح عنها وصرّح بها بنبرة عالية وواثقة، بل وحتى صادمة.
وقد كانت تجربة الشابي مرتبطة اشد الارتباط بتجارب الإصلاح التي عرفتها تونس في الثلاثينات من القرن الماضي، حيث برزت أفكار التحديث والمحاولات الجادة في مقاومة الجمود والتقليد، الشيء الذي جعل تلك الفترة مرحلة هامة أظهرت الجدل الفكري الكبير الذي كان سائدا انذاك ، وهي فترة تميزت بالحداثة وبالإبداع وظهر فيها العديد من الرموز منها الشابي والطاهر الحداد وغيرهما.
وإذا ما أردنا التامل في أبرز خصائص تجربة أبي القاسم الشابي، فإننا نلحظ ان السّمة البارزة في مسيرته الشعرية القصيرة التي لم تتجاوز السبع سنوات، تكمن في أهمية الأشعار التي تركها والتي جلبت لها اهتمام العديد من النقاد ، حتى أنه وصف بشاعر الإرادة العربية الذي كتب القصيدة الشهيرة "إرادة الحياة"، وقد جاء في مطلعها:
إذا الشعب يوما أراد الحياة....فلا بدّ أن يستجيب القدر.
ولا بدّ للّيل أن ينجلي....ولا بدّ للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة ... تبخر في جوها واندثر
...وأعلن في الكون أنّ الطموح ...حبيب الحياة وروح الظفر
وإذا طمحت للحياة النفوس...فلابدّ أن يستجيب القدر.
وتكشف أشعار الشابي عن قوة موهبته ومدى الصدق المتدفق في قصائده التي تنتصر للحياة وللإنسان وللحرية وللحب وللجمال وللمرأة، وتقف بالمرصاد للظلم و الاستبداد. كما نلمس في ديوان" أغاني الحياة" التزام الشابي بقضايا وطنه وشعبه واعتماده القصيدة سلاح مقاومة ضد بطش المستعمر دون أن يحجب التزامه الوطني والقومي الأبعاد الرومنطيقية والوجودية والرومنسية، التي نجدها في قصائد كثيرة من ديوانه الشهير أغاني الحياة، وأبرزها "صلوات في هيكل الحب".
ولعل قوة موهبة الشابي هي التي جعلته يقدم إبداعا خالدا خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار ِقصر عمر الشابي.
وان ما يلفت الانتباه في المضامين الشعرية لقصائد "أغاني الحياة" هو أن الشاعر عرف كيف يقحم قصيدته في أرض المعركة ضد المستعمر من جهة، ويشبع حاجته كشاعر ميتافيزيقي ورومنطيقي، يهوى مخاطبة الطبيعة وتأمّل الوجود. ويكفي في هذا السياق أ ن نتصوّر ما كان يمكن أن يبدعه الشابي لو أن المرض أمهله سنوات أخرى ولم يكن متعجلا في إخراجه مبكرا من الحياة.
وتتمثل السمة البارزة الاخرى في تجربة الشابي في كونه صاحب رؤية شعرية واضحة المعالم تتضمن انتاجا شعريا متفردا، فهو يؤمن بضرورة التحلي بالصدق ويمارس الكتابة الشعرية باعتبارها فعلا وجوديّا، وتأسيسا لواقع مغاير ولمنظومة قيميّة مختلفة تردّ الاعتبار الى الانسان وتكرس ارادته وحقه في الحرية والكرامة ككائن خلق حرا طليقا، حيث كتب الشابي:
خلقت طليقا كطيف النسيم... وحرا كنور الضحى في سماه
... تغّرد كالطير أين اندفعت ... وتشدو بما شاء وحي الإله
... كذا صاغك الله يا ابن الوجود ...وألقتك في الكون هذه الحياة
... إلى النورفالنور عذب جميل ... إلى النور فالنور ظلّ الإله.
لقد حمل أبو القاسم الشابي مشروعا متكاملا وأخلص لتجربته الشعرية، فكان بالفعل يسعى إلى تجنيب قصيدته الوقوع في لعبة الأغراض الشعرية التي عرفها الشعر العربي من مديح وهجاء. وفي هذا السياق لا بدّ من لفت الانتباه إلى أن الشابي لم يمدح أحدا في قصائده ولم يرث سوى أبيه.
كما عبّرت كتابات الشابي عن مفهومه للشعر وعن تصوره للشعراء وملامحهم حيث قال في هذا الصدد "إن الشعر ما تسمعه وتبصره في ضجّة الريح وهدير البحار وفي بسمة الوردة الحائرة التي يدمدم فوقها النحل ويرفرف حواليها الفراش، وفي النغمة المفردة التي يرسلها الطائر في الفضاء الفسيح"، هذه هي رؤيته السامية للشعر.
أما الشعراء الذين يستحقون صفة الشعراء فهم حسب الشابي: "أولئك الموهوبون الذين يسبقون عصورهم فيغنّون أشهى أغاني الجمال وأعذب أناشيد القلب البشري لأجيال لم تخلق بعد، وهم أولئك الذين لا يصورون عادات العصر المتغيرة المتحولة، بل عادات الحياة الخالدة على مدى الدهر، ولا يصفون أحاديث الوعاظ والمتكلمين والمتفلسفين، بل أحاديث نفس الإنسان التائهة في بيداء الزمان، ولا يعلنون أسرار القصور والمجالس، بل أسرار الأزل والأبد".
وتكشف مقولات الشابي هذه عن عمق رؤية صاحبها وتأثره بمدرسة أدباء المهجر وعلى رأسهم جبران خليل جبران، ذلك أن الشابي الذي درس في جامعة الزيتونة والمنتمي إلى عائلة علم، كان منفتحا على تجارب هامة في العالم ومتواصلا مع المشاهد الأدبية في المشرق ، حيث كان ينشر قصائده في مجلة "أبولو" المصرية، على سبيل المثال.
وإلى جانب "أغاني الحياة" ترك لنا الشابي محاضرته الشهيرة وهي "الخيال الشعري عند العرب" التي ألقاها بفضاء الخلدونية سنة 1929 وهي محاضرة مارس فيها الشابي أحد أهم قيم الحداثة، والمقصود بذلك قيمة النقد. ففي هذه المحاضرة أطلق الشابي العنان للنقد وللانتقاد اللاّذع معبرا بذلك عن انشقاق فكري ونقدي خطير، استدعى منه جرأة غير مسبوقة وشجاعة نادرة في مواجهة الجمود والتقليد خصوصا حين ننزّل مضمون المحاضرة في سياقها الزمني. فلقد وجّه أبو القاسم الشابي الذي يصنف كمجدد في الشعر الكلاسيكي عدة سهام الى محيطه الثقافي آنذاك عندما ذكر بشكل صريح، وهو المعروف بسعة اطلاعه على الشعر العربي القديم، أن كل ما أنتجه الشعر العربي في مختلف عصوره قد كان على وتيرة واحدة ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب، وأن الخيال الشعري العربي أجدب كالصحاري التي نما فيها ، بل إن الأدب العربي حسب تصوره أدب مادّي لا سمو فيه ولا إلهام ولا تشوق إلى المستقبل وأنه كلمة ساذجة لا تعبر عن معنى عميق.
والخيال الشعري عند العرب دعوة إلى تجاوز المفاهيم السائدة والموروثة وثورة على نظرة العرب القديمة الى الشعر والأدب عموما. وهي تشابه ما دعا إليه عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وطه حسين في المشرق، إلاّ أن ثورة الشابي تتّسم بعنف شديد وبآراء جريئة ومواقف جسورة، زعزعت الأوساط الثقافية في تونس آنذاك وخلخلت طمأنينة أجيال آمنوا بثوابت أدبية وشعرية جامدة، كانوا قد اضفوا عليها طابع القداسة.
يقول الشابي في مقدمة محاضرته " أما الآن فحسبي أنّي لبيّت رغائب اخواننا الكثيرين من الشباب المستنير الذي لم أخّط كتابي إلاّ لأخاطب فيه حماس الفتوّة وأدعوه معي إلى أن نسلك بالأدب التونسي سبيل الحياة الجميل".
ولعل المهّم في كل هذه المقولات النقدية هو حالة النقد ذاتها التي تحملها الجرأة التي اصطبغت بها، وهو ما يجب أن نستدينه من الشابي اليوم وغدا ودائما، خصوصا أن الآراء التي وردت في محاضرته المشار إليها، قد اعترف صاحبها في كلمته التصديرية للكتاب الذي وردت فيه المحاضرة، بأنه يعلم أن كثيرا منها في حاجة إلى الشرح والبيان والتحليل وإلى زيادة التمحيص والبحث، إلا أن الأقدار لم تسمح له بذلك.
إن هذه الخصائص وغيرها تؤكد قيمة الشابي من خلال الدرس الشعري والنقدي الذي قدمه في فترة موجزة تشبه البرق في سرعة انقضائها، ذلك أنه تميز بالصدق وبالإخلاص في إبداعه وفي الانشقاق فكريا، وفي شجاعته على الإقدام على أخطر قيم الحداثة وقلبها النابض وعقلها العامل وهي قيمة النقد.
لقد ردّدت أنا وأبناء جيلي وبعض الأجيال اللاّحقة قصائد الشابي منذ صغرنا بالمدارس الابتدائية. وقد شحذ الشابي فينا،منذ صغرنا الهمم ودفعنا الى حب الحياة والى العلم والمعرفة والى الاسهام في بناء بلد حديث وفتيّ قوامه دولة عصريّة، وهو ما يشكّك فيه البعض حاليّا.
واليوم ونحن نعيش زمنا انعدمت فيه الرؤية المستقبليّة، وسرقت فيه من التونسييّن والتونسيّات وخاصة الشباب منهم، الامل وأحلام اليقظة والمنام يحقّ لنا أن نطرح مسألة صحوة فكرية قوامها العمل والكدّ والالتفاف حول الوطن والوقوف وقفة الرجل الواحد لإنقاذه، ومجابهة ما وقعنا فيه من رجعيّة وتقهقر غريب عن المجتمع التونسي المستنير والمحبّ للحياة.
توفيق جابر
- اكتب تعليق
- تعليق