قراءة في نص القانون 37/2015 المتعلق بالتسجيل والإيداع القانوني: تحفظات على مفهوم المصنفات الرقمية والافتراضية
خلال الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب يوم الاربعاء 9 سبتمبر 2015 تمت المصادقة على القانون الأساسي عدد 37 لسنة 2015 المؤرخ في 22 سبتمبر 2015 والمتعلق بالتسجيل والإيداع القانوني وذلك بعد احترازات وتجاذبات عديدة عشنا آخر مظاهرها خلال شهر جانفي من السنة المنقضية 2014 لمّا صادق المجلس التأسيسي على الأمر عدد 59 المؤرخ في 7 جانفي 2014 والذي صدر بالرائد الرسمي في 24 جانفي 2014 عن رئاسة الحكومة لضبط إجراءات التسجيل والإيداع القانوني. وقد أثار الأمر المذكور وقتها جدلا واسعا وردود فعل عديدة منددة بمفعوله الرجعي وبتضاربه مع استحقاقات المرحلة الراهنة بالقطع مع ممارسات الرقابة وبسط الهيمنة على الفكر والإبداع والنشر في تونس. فقد تعرضت آنذاك العديد من المقالات والمداخلات للمهنيين والمختصين بالنشر والتوزيع إلى نقاط التضارب والضبابية في هذا الأمر خاصة ذلك التضمين المثير للجدل والمتعلق بتوقيت إيداع المنشورات "قبل وضعها على ذمّة العموم" الأمر الذي أخاف الكثير من حيث الطابع المسبق للرقابة على حرية الرأي والتعبير وهو ما يتعارض مع منطوق الفصل 31 من الدستور المصادق عليه في 26 جانفي 2011 والذي يمنع الرقابة المسبقة على "حرية الرأي والفكر والتعبير والاعلام والنشر".
من الإيداع المسبق إلى الإيداع اللاحق للمصنفات
لقد صادق إذا مجلس نواب الشعب على هذا المشروع وتم نشره بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 79 المؤرخ في 2 أكتوبر2015 بعد مراجعة فصوله التسعة عشر وتضمينها جملة من الإضافات والتنقيحات الاساسية التي سعى المهنيون واهل الاختصاص إلى إبلاغها إلى لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية خلال جلسات استماع متعددة سعى خلالها المتدخلون إلى التركيز على ضرورة مراجعة العديد من المسائل الشائكة التي تغاضى عنها النصّان السابقان (المرسوم عدد 115 لسنة 2011 والأمر عدد 59 بتاريخ 7 جانفي 2014) أو تلك التي أفرزتها التطورات التكنولوجية الحديثة المتعلقة منها خاصة بميدان النشر الالكتروني والصحافة الرقمية. وقد تم فعلا التنصيص على مراجعة هذه النقاط الخلافية في تقرير لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية الذي منح المشروع المعروض تطورا هاما باتجاه التوسع في مجال تطبيق إجراءات الإيداع وتكريس الانتقال من الإيداع المسبق إلى الإيداع اللاحق للمصنفات، الأمر الذي مثّل في نظر العديد نقلة نوعية في تنظيم هذه العملية والقطع نهائيا مع ممارسة الرقابة على الخلق والإبداع. ولعل من أهم البنود التي تميز بها هذا القانون هو بند الاحكام الختامية الذي ألغى جميع الأحكام السابقة والمخالفة للقانون الجديد وخاصة النقاط 3 و4 و6 و8 من الفصل 2 والفصول 4 و5 و6 و19 و22 من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرخ في 2 نوفمبر2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر. للتذكير فقط، لقد صدر أول قانون للإيداع بتونس بمجلة الصحافة تحت عدد 75-32 بتاريخ 28 أفريل 1975 وخضع منذ صدوره إلى تنقيحات متتالية ومختلفة جاءت خلال الأعوام 1988، 1993، 2001، 2006، 2011 و2014 وهو ما يدل على حساسية الموضوع وأهميته بالنسبة للشأن الوطني ليس باعتباره مُخزّنا للذاكرة الوطنية ومحافظا على التراث الثقافي فحسب، بل أيضا باعتباره وسيلة يمكن أن توظفها الأنظمة لفرض الرقابة على الفن والابداع وحرية الرأي والتعبير.
ضبابية المفاهيم الرقمية ورواسب الثقافة المطبعية الطاغية على نص القانون الجديد
لن أركز كثيرا هنا على التفاصيل المتعلقة بمسألة ضمان الحريات والقطع مع الرقابة لكونها مسألة قد اعتاد المهنيون والمجتمع المدني على الخوض فيها منذ زمن طويل، بل سأتعرض علاوة على ذلك إلى نقطة فنية وتقنية حديثة العهد يجدر التنبه إلى تبعاتها على مستوى النصوص التشريعية اللاحقة والمكمّلة لهذا القانون. هذه النقطة تتعلق بالإيداع القانوي للوثائق والمصنفات في أبعادها الرقمية والافتراضية على شبكة الانترنت، والتي قد تكون بدورها مصدرا محتملا لعودة الرقابة والوصاية على الفكر والإبداع الفني والأدبي من باب لم يتم التفطن إليها نظرا لبعض الخلط في المفاهيم وعدم التمكن من الخصوصيات الدقيقة للتصنيفات الرقمية والافتراضية التي قد لم يعتدها المهنيون والاخصائيون بقدر اعتيادهم على النشر والإيداع القانوني للمصنفات الورقية المطبوعة والسمعية البصرية.
في قراءة أولية لنص القانون المذكور، يبدو جليا أن البعدين الرقمي والافتراضي للمصنفات قد تم فعلا الاعتناء بهما وإدراجهما في صيغة النص النهائية استجابة إلى ضرورة تحيين المراجع القانونية السابقة والتأقلم مع التطورات التكنولوجية الراهنة. من أهم الفصول والأبواب التي تظهر من خلالها لمسات التحيين نذكر خاصة الفصل الرابع من الباب الثاني في المصنفات الخاضعة للتسجيل والإيداع القانوني الذي يضيف لمفهوم المصنفات، علاوة عن أبعادها المعهودة كجملة من "الوثائق المطبوعة أو المنقوشة أو المصورة أو الصوتية أو السمعية البصرية أو المتعددة الوسائط"، أبعادا حديثة تغطي "البرمجيات وقواعد البيانات والمواقع الالكترونية والمعلوماتية المترابطة". كما تم التنصيص في الفصل التاسع على أن "يتم الإيداع القانوني إما مباشرة لدى الهياكل العمومية المؤهلة بمقتضى هذا القانون مقابل وصل في ذلك أو بواسطة رسالة مضمونة الوصول مع الإعلام بالبلوغ إلى الهيكل المعني أو رقميا بالنسبة للمصنفات الرقمية".
لئن بدا جليا في هذه الإضافات أن البعد الرقمي والافتراضي للمصنفات قد تم تضمينه في التحديثات المتعلقة بمسالة التسجيل والإيداع القانوني، فإن جوهر المسألة حسب رأيي لا تزال تكسوه بعض النقائص وتعتريه بعض الضبابية في تحديد المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالجانب الرقمي والافتراضي. فالنص في صيغته الجديدة لا تزال تغلب عليه مسحة الثقافة الطباعية والسمعية البصرية المعبرة عن واقع النشر كما تكيف معه المهنيون والمشرعون في تونس على حد سواء. فجل الأبواب والفصول وكذلك التعليقات ومطالب التنقيحات تنم في باطنها عن ثقافة موروثة تعتمد الوثيقة أو المصنف كوعاء أحادي مكتمل ينفرد بهوية ذاتية محددة في الزمان والمكان سواء كان الأمر يتعلق بكتاب أو مجلة أو شريط أو فلم أو قرص ضوئي أو حتى قاعدة بيانات. لذا جاءت المادة التنقيحية المتعلقة بالبعد الرقمي والافتراضي منقوصة لتعبر عن عدم تمكن القائمين على صياغة هذا القانون من الخصوصيات الفنية والتقنية للمصنفات الرقمية والافتراضية وبمتطلباتها القانونية والإجرائية، الأمر الذي جعل من نص القانون غير متوازن بين أنماط المصنفات ليس في تحديد مفهومها فحسب، بل أيضا في ضبط سبل وإجراءات التعامل معها أثناء عملية التسجيل والإيداع القانوني. وفي هذا حسب رأيي تعميم خاطئ وإسقاط لمفهوم تقليدي للوثيقة على مادة رقمية يمكن أن تختلف كليا عن الوثيقة التقليدية في العديد من جوانبها وطرق استخدامها خاصة منها ما يتعلق بامتدادها المادي والزمني وبتحديد ملكيتها الأدبية والفكرية. وهنا يكمن أحد أوجه الخلط والضبابية في نص القانون عندما لا يتم تبيان الفوارق الدقيقة بين مختلف المصنفات الورقية المطبوعة والسمعية البصرية وكذلك الرقمية. كما أنه لم يتم التركيز على الخصوصيات التي تفرق بين المصنفات الرقمية من جهة والمصنفات الرقمية الافتراضية من جهة أخرى رغم أهميتها بالنسبة للتسجيل والإيداع القانوني كما سنبينه لاحقا.
طبيعة الفوارق بين المصنفات الرقمية والمصنفات المطبعية والسمعية البصرية
يجدر بنا التذكير أولا أن إجراءات الإيداع القانوني تبني عموما على أساس الوعاء بدلا عن المحتوى. وبالتالي، فإن أي عمل إبداعي يمكن تسجيله عدة مرات حسب اختلاف محامله. ويعتبر الإيداع القانوي من هذا الباب مغايرا ومكملا لمجال المحفوظات والأرشيف التي تستثنى منها عادة مصنفات الإيداع القانوني. إلا أن النصوص التشريعية للإيداع قد تطورت بشكل عام لتشمل خلال فترات زمنية متلاحقة ثلاثة أنماط من المصنفات حسب طبيعة الأوعية والمحامل التي تنشر بواسطتها، أولها النمط الورقي (المطبوعات) يليه النمط السمعي البصري (كالأشرطة والأفلام والتسجيلات الصوتية) ثم النمط الرقمي المادي (كالأقراص الضوئية) والرقمي الافتراضي (كالمواقع العنكبوتية). لهذه المصنفات الأخيرة خصوصيات معينة تستوجب تعاملا مختلفا على جميع المستويات من حيث صياغة المحتوى وأدوات الحفظ والصيانة وتقنيات البحث والاسترجاع ومسالك النشر والتوزيع. وقد حددت التشريعات الدولية منذ مدة مقاييس وضوابط للإيداع القانوني للنمطين الأول والثاني (الورقي والسمعي البصري) والتجارب لاتزال جارية إيجاد الحلول الملائمة للنمط الثالث (الرقمي والافتراضي) نظرا لحداثته النسبية ولخصوصياته التقنية المتشعبة، علاوة على التغييرات الجوهرية التي أحدثها في الفصل بين الوعاء والمضمون. فمن بين الفوارق الجوهرية بين هذه الأنماط الثلاثة (دون التوقف عند الاستثناءات) نذكر بالخصوص طبيعة صياغتها وتركيبتها المادية وكذلك سبل معالجتها وترويجها ثم إشكاليات تحديد ملكيتها الفكرية والأدبية لا سيما في ظل التقنيات الحديثة للنشر الإلكتروني التشاركي والطباعة والإخراج حسب الطلب. فالوثيقة الورقية كما ذكرنا سابقا عادة ما تكون وحدة مادية متكاملة وغير متحركة يسهل تحديد هويتها ومصدرها وامتدادها الزمني والمادي، تنشر في تاريخ ثابت وعلى وعاء ثابت لكن يصعب تغيير محتواها دون الالتجاء إلى إعادة صياغتها ونشرها في نسخ جديدة ومنقحة. كما أن الوثيقة السمعية البصرية كالشريط الممغنط أو الفلم أو التسجيل الصوتي تحمل نفس الخصائص إلا أن تنقيح مضمونها يتم عادة بأدوات وأساليب مختلفة وأكثر مرونة (كالقص والنسخ والتركيب) بكل ما يطرحه هذا الاجراء من إشكاليات في تحديد الطبعات (Editions). ويبقى النمط الرقمي الافتراضي هو الأكثر مرونة وتغيرا (وبالتالي أكثر تعقيدا بالنسبة للإيداع القانوني) لكونه يقوم على مبدا الفصل بين المحتوى والوعاء علاوة على مبدأي التفاعلية والافتراضية كمواقع الواب المتشعبة والمدونات والشبكات الأجتماعية المتكونة من مقالات وتعليقات متداخلة قابلة للتغيير في كل لحظة. لذا، فلئن اقتصر إنتاج وتوزيع المنشورات المطبوعة والموارد السمعية البصرية عموما على المهنيين والمختصين، فإن العالم الافتراضي اليوم يفسح المجال لكل فرد من أجل تصميم المنشورات التجارية أو الخاصة وتوزيعها بكل حرية وبدون رقابة. هذه المنشورات الرقمية (تجارية كانت أم ذات استعمال خاص) تدخل نسبة هامة منها في مساحة الإنتاج الرقمي الفكري والأدبي والفني المحسوب على الذاكرة الوطنية والتراث الثقافي للبلاد والتي حددها المُشرّع تحت تسمية حشرية ضبابية "المواقع الإلكترونية والمعلوماتية المترابطة" دون أدنى تعريف لخصوصيات المواقع وطبيعة الترابط بينها علما وأن جميع المختصين يدركون عمق التغييرات التي أدخلتها تقنية الروابط التشعبية على تركيبة الموارد الرقمية متعددة الوسائط وأساليب حملها وتخزينها. كما يدخل أيضا العديد من هذه المنشورات الرقمية التجارية والخاصة بصفة آلية في باب التصنيفات الرقمية الغير معنية بالإيداع القانوني، تلك التي تغاضى عن تحديدها نص القانون في الفصل الخامس من بابه الرابع (خلافا لتصنيفه للموارد المطبوعة والسمعية البصرية الغير معنية بالإيداع) بما يؤكد مرة أخرى مدى هيمنة ثقافة الإيداع التقليدية على روح النص القانوني والتي قد تكون ناجمة بالضرورة عن عدم استشارة أهل الاختصاص وذوي الكفاءات في هذا المجال التكنولوجي الدقيق. كما لا ننسى أيضا خصوصية العديد من المنشورات الرقمية الافتراضية التي تغاضى نص القانون عنها أيضا كتلك التي ليس لها وجود مادي أصلا قد يمكّن من تسجيلها وإيداعها. هذه المصنفات الافتراضية تنشأ ظرفيا حسب الطلب انطلاقا من مصادر رقمية متفرقة يتم دمجها بلغة xml السائدة وبصفحات الأنماط المشخصة Stylesheets، ربما لدى المشرع حكمة في اختياراته، لكني أقترح رغم ذلك تدارك هذه النقائص وغيرها مما سأتعرض إليه لاحقا في مضمون النصوص التطبيقية المصاحبة للقانون.
لكل هذه الفوارق، وهي أكثر تعقيدا مما ذكرناه آنفا، انعكاسات جوهرية على كيفية التعامل الفكري والمادي والقانوني مع هذا الصنف من المنشورات التي من الضروري أن ينتبه إلى أهميتها المهني والمشرّع وكافة مكونات المجتمع المدني على حد سواء عند صياغة النصوص التطبيقية المصاحبة لهذا القانون الجديد. والامر الهام هنا، والذي نلفت إليه أقصى الانتباه، يكمن في فرضية الامتداد "الطبيعي" (عن قصد أو غير قصد) للذهنية الرقابية التي تضمنها الأمر عدد 59 لسنة 2014 ومن قبله المرسوم 115 لسنة 2011 وإمكانية إعادة تضمينها بالنصوص التطبيقية المقبلة بحيث يتم استغلال ضبابية المفاهيم المتعلقة بالتصنيفات الرقمية والافتراضية الواردة بنص القانون لابتكار أساليب جزرية جديدة للمراقبة والمتابعة والتحجير. ونكون بذلك قد فوتنا الفرصة في تنظيم محكم للموارد الافتراضية ودعم مساهمتها في بناء الذاكرة الوطنية الرقمية المستقبلية. لذا، نرى من الضروري والأساسي أن يدرك كل المهتمين بمسألة الإيداع القانوني أهمية الفوارق الجوهرية بين طبيعة الموارد ذات الوحدة المتكاملة (ورقية وسمعية بصرية ورقمية) والمنشورات الرقمية الافتراضية التي تضعنا أمام تساؤلات قانونية أكثر تعقيدا كتلك المتعلقة بحقوق التأليف والملكية الفكرية أو تلك المعنية بالتشفير والتحديث والصيانة الرقمية. المسألة في نهايتها ثقافة قانونية حديثة تعنى بالشأن الرقمي لا يمكن تفعيلها بنفس المفاهيم والمبادئ التشريعية للإيداع القانوني التقليدي. ولنا في هذا الصدد توصيتان أولهما تقنية إجرائية وثانيهما حضارية ثقافية.
خصوصيات المصنفات الرقمية الافتراضية وحاجتها إلى ثقافة جديدة للإيداع القانوني الطوعي
أما من الناحية التقنية والإجرائية لنذكّر أولا أن الإيداع القانوني الرقمي هو عملية تسحب على جميع أنواع المطبوعات المتاحة على شبكة الإنترنت من مواقع مؤسساتية أو شخصية، مجلات حرة أو تجارية، مدونات، مواقع تسوّق، منصات فيديو أو كتب رقمية ... يجب أن يكون لمحتواها أو لناشرها صلة بالبلاد التونسية. وخلافا لمفهوم الإيداع القانوني التقليدي الملزم للناشر والموزع للمنشورات المطبوعة أو للوسائل السمعية البصرية على سبيل المثال، فإن الإيداع القانوني للرقميات الافتراضية والمواقع الإلكترونية، استنادا إلى تجارب العديد من الدول المتقدمة كفرنسا وإسبانيا وكندا، هو عمل تقني بالأساس ليس للناشر فيه دور إلزامي بالإيداع بل تتم عملية الجمع للمواقع والمصنفات الرقمية الافتراضية بطريقة تلقائية وآلية تستخدم خلالها برمجيات خاصة تتولى تحميل النسخ المتاحة من المواقع والوثائق الرقمية حسب الأصناف المحددة بموجب قانون التسجيل والإيداع القانوني للرقميات. وفق هذا المفهوم الخاص بالإيداع القانوني للمصنفات الرقمية الافتراضية، تتولى الجهات المختصة بواسطة أدواتها الإلكترونية جمع المحتويات الرقمية بالمواقع "بعد أو إبّان نشرها" وفق تحديد قانوني يضبط ماهية الوثيقة وحدودها المادية وامتدادها الجغرافي. وعلى غرار تجربة هذه البلدان، يمكن القيام بجرد الموارد الرقمية الافتراضية ذات الصلة بالبلاد التونسية ثم بإبرام اتفاقيات قانونية مع أصحاب المواقع والموزعات ذات النطاقات الوطنية (مثال .tn) المسجلة لدى الوكالة التونسية للأنترنت ومع أصحاب النطاقات الدولية الأخرى ذات العلاقة بتونس من نوع (.com, .org, .net) وغيرها.
أما في حالة عدم تمكن البرمجيات الآلية من الوصول إلى بعض الأجزاء من المواقع أو الموارد الرقمية المعنية بالإيداع القانوني وذلك لأسباب فنية عدة (كقواعد البيانات والمحتويات المحمية بكلمات عبور) أو التجارية (كالمحتويات المسعرة مسبوقة الدفع) فأن مصلحة الإيداع القانوني الرقمي تتولى الاتصال بالناشرين والموزعين والمؤلفين حالة بحالة من أجل إيجاد الحلول التقنية الملائمة لتسهيل عملية تسجيل المواقع وتوجيه محركات الجرد نحوها. في هذه الحالة لا يمكن للمصالح المختصة أن تكون شمولية في تغطيتها للمصنفات الرقمية الافتراضية نظرا للرصيد الهائل المتوفر على الشبكات ولتكلفة المعدات والموارد الضرورية لمتابعة ذلك. في هذه الحالة أيضا تتوخى المصالح المختصة طريقة أخد العينات طبقا لمعايير تقييمية تهدف إلى ضمان أفضل تمثيلية لنوعية الموارد والمواقع المدرجة بقائمة المصنفات الافتراضية بنص القانون أو نصوصه التطبيقية. كما تتولى البرمجيات المختصة القيام بمراجعة دورية للمواقع المتفق عليها مع أصحابها الذين يسهلون عملية الجرد بترسيخ كلمات العبور لمواقعهم لدى هذه البرمجيات حتى تتولى عملية الوصول والتحميل الدوري للنسخ المنقحة والمحيّنة بطريقة آلية. بكل هذه الطرق المختلفة (الأكثر تعقيدا في الحقيقة) يمكن تسجيل عدد هام من المواقع في عمق تشعبي يتم تحديده مسبقا مع صاحب الموقع. كما يتم كذلك استبعاد عدد هام من الموارد الرقمية كالمراسلات الشخصية والمساحات الخاصة بالشبكات ومواقع التواصل الاجتماعية من عمل الجرد والتسجيل ضمن أرصدة الإيداع القانوني الرقمي.
من المعمول به أيضا على مستوى دولي هو انه إذا رغب أي ناشر في إدراج موقعه بقائمة المواقع التي تزورها برمجيات الجرد من أجل الإيداع القانوني، فإنه يستوجب عليه طلب ذلك لدى المصالح المختصة عبر البريد الإلكتروني، وفي هذا أكثر من دلالة على عمق تغير عملية الإيداع القانوني من منطق الإلزام الزجري إلى مبدإ الاقتراح الطوعي. وهذا يجرنا مباشرة إلى التوصية الثانية ذات الطابع الثقافي والحضاري إذ نحن نرى من الضروري والمؤكد اليوم أن تعزف الحكومات والسلط الرقابية نهائيا وينأى السياسيون والمشرّعون بأنفسهم عن ثقافة المراقبة الجزرية والمخابراتية في مجال الفن والأدب والإبداع وأن يغلبوا ثقافة الحريات الفكرية في سلوكياتهم أسوة بالمبادئ المعمول بها دوليا والتي تنص على أن الإيداع القانوي كما حددته التشريعات الدولية يهدف بالأساس إلى جمع الذاكرة والتراث الثقافي المنشور على التراب الوطني وليس إلى مراقبته من أجل التوظيف السياسي والاستخباراتي. وفي هذا السلوك الحضاري رمزية كبرى في ترسيخ مبادئ الديمقراطية ودعم سلوكيات المواطنة والشعور بالمسؤولية تجاه المجموعة الوطنية. فمن الحكمة والإيجابية أن يبادر المشرّع ذاته قبل المواطن والمهني إلى قلب المعادلة ليجعل من الإيداع القانوني الرقمي عملية لا تلزم المؤلف أو الناشر بل تحفزه إلى القيام بذلك اقتناعا منه بأهمية ضم منتوجه إلى التراث الثقافي والمساهمة في بناء الذاكرة الوطنية. ولنذكّر هنا أيضا أنه في هذا الزمن الرقمي الذي يتضاعف فيه زخم الإنتاج الفكري بوتيرة تصاعدية مذهلة سيكون من الصعب على مصالح الإيداع القانوني، بآلياتها الرقابية الزجرية المحدودة، أن تغطي كافة المنشورات الرقمية وإدراجها بالمخزون الثقافي الوطني دون مبادرة طوعية من المؤلفين والناشرين والمبدعين وذلك من أجل المساهمة في هذا المشروع الحضاري الهام. وهذا العامل المتمثل في تحويل ثقافة الإيداع القانوني من عملية إلزامية بالنسبة للمطبوعات والسمعيات البصرية إلى عملية طوعية بالنسبة للرقميات يمكن اعتباره تطورا نوعيا هاما يساهم في خلق روح تنافسية إيجابية بين الناشرين والمؤلفين وسعيهم نحو الإيداع القانوني الإرادي تفاديا لاستثناء منشوراتهم الرقمية من الرصيد الثقافي والمخزون التراثي للبلاد.
إن إجراءات الإيداع في المجال الرقمي عديدة ومختلفة نظرا للطبيعة الافتراضية والترابطية للوثائق الرقمية وانتشارها المتزامن على موزعات مختلفة، منها المحلي ومنها الدولي. والاستثناءات من الإيداع القانوني الرقمي أيضا عديدة حسب النماذج والأحجام والنسخ والمحتويات للوثائق الرقمية المنشورة. لهذه الأسباب وغيرها تتسم القوانين المتعلقة بالإيداع القانوني للوثائق الرقمية الافتراضية بخصوصيات تختلف عن نظيراتها المطبوعة والسمعية البصرية لا يتسع المجال هنا لعرض كل تفاصيلها. فالمسألة في نهاية الأمر هي مسالة بناء ثقافة جديدة للحريات الفكرية والأدبية تكون مدعومة بآليات تقنية وإجراءات إدارية أكثر حداثة وواقعية ومرونة يمكنها أن تتماشى في جوهرها مع طبيعة المرحلة ومع الأبعاد الحضارية والتطورات التكنولوجية التي يفرضها واقعنا الرقمي اليوم.
مختار بن هندة
جامعة بوردو، فرنسا
- اكتب تعليق
- تعليق