حول "مشكلة" الصكوك الإسلامية:لا خوف على السيادة الوطنية
لنؤكد في البداية أن الصكوك الإسلامية ليست "مشكلة" بل هي حل من حلول تمويل الاستثمار المطروحة على الساحة المالية والمصرفية في إطار المالية الإسلامية، وإذ أصبحت "مشكلة" هذه الأيام فذلك قد يكون مرده سوء فهم وعدم إلمام أو نقص في التقديم والتوضيح فيما يتعلق بالآلية وبشروط استعمالها في بعض مجالات الاستثمار ، خاصة وهي غير معروفة في السوق المالية التونسية شأنها شأن الآليات الأخرى للمالية والمصرفية الإسلامية إذا استثنينا التجربة الحديثة والمحدودة لبنك الزيتونة الإسلامي وبنك البركة الإسلامي ( غير المقيم ) ، فلا خوف على السيادة الوطنية من اللجوء إلى الصكوك الإسلامية وإلى آليات التمويل الإسلامي الأخرى، ولا خوف من الاستمرار في اللجوء إلى مصادر التمويل التقليدي، وكل ذلك في حدود المعايير والتوازنات التي تفرضها قواعد التصرف السليم والحوكمة الرشيدة في الموارد المتاحة بتوظيفها على أحسن وجه في المشاريع الداعمة لخلق الثروة وفي المشاريع المنتجة على أساس تأمين الإنتاجية وتنافسية الاقتصاد والمحافظة على التوازنات المالية والاقتصادية بالتحكم في عجز الميزانية وفي نسبة التداين.
ويمكن تعريف الصكوك الإسلامية بأنها أوراق مالية متساوية القيمة وناتجة عن عملية تحويل كامل أو جزئي لمشروع استثماري قائم أو سيتم إنشاؤه ويوفر دخلا ، فهي آلية للتوريق في المالية الإسلامية تقوم على التشارك في المخاطر بين المستثمر والمدخر ، وهي تمثل حصصا شائعة في ملكية المشروع ، وهي قابلة للتداول وتعتبر البديل الإسلامي لما يعرف بالسندات في النظام المالي التقليدي ، ويتم الاكتتاب فيها في إطار عقد شرعي طبقا للقانون المصرفي المشرع وفق الشريعة الإسلامية
وتصنف الصكوك الإسلامية حسب خصائصها إلى أربعة أصناف مستمدة من آليات المالية الإسلامية : صكوك المشاركة وهي معدة لتمويل مشروع أو نشاط استثماري على أساس المشاركة (المضاربة والمشاركة والوكالة بالاستثمار) ، صكوك الإجارة وهي حصص مشاعة في ملكية أصول متاحة للاستثمار، صكوك العقود الفلاحية ( المزارعة والمساقاة والمغارسة ) ، صكوك البيوع المؤجلة ( السلم والاستصناع والمرابحة ) ، وتشير إحصائيات العشرية الماضية إلى أن صكوك الإجارة هي الأكثر انتشارا بما يزيد عن 30 بالمائة من جملة الإصدارات لمخاطرها المنخفضة .
وتعد الصكوك الإسلامية من أكثر آليات التمويل والمصرفية الإسلامية التي تلجأ إليها الدول لتغطية عجزها المالي ولتمويل استثماراتها في إطار ميزانية التنمية أو لتلبية حاجيات المستثمرين من السيولة المالية التي تتوفر لدى مدخري الأموال اللاربوية كبديل عن الموارد المالية المتوفرة لدى المؤسسات المالية والمصرفية التقليدية التي تتعامل بنسب الفائدة ، وانتشرت هذه الآلية بصورة مكثفة منذ أواخر القرن الماضي في العديد من الدول الإسلامية وخاصة ماليزيا ودول الخليج العربي بل وشمل هذا المد المصرفي الإسلامي في السنوات الأخيرة دولا غير إسلامية على غرار الهند وسنغافورة وحتى بريطانيا وأميركا وفرنسا .
ونظرا لحاجة البلاد لتعبئة الموارد والآليات المتاحة لتمويل الاستثمار في أطر جديدة خارج مسالك الاقتراض التقليدية تم وضع إطار قانوني خاص بالصكوك الإسلامية ( قانون عدد 30 بتاريخ 30 جويلية 2013 ) للاستفادة من قنوات التمويل الإسلامي بالتوازي مع التمويل التقليدي ، ويشمل هذا النظام الجديد إصدارات الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية والمؤسسات الخاصة. ويمكن استخدام الصكوك في تمويل مشاريع البنية التحتية والمشاريع الصناعية والزراعية وحتى المشاريع الاجتماعية بواسطة صكوك القرض الحسن ( بدون عائد مالي ) ، ويتم التصرف في آلية الصكوك في إطار صندوق مشترك للصكوك وبواسطة شركة تصرف تقوم على إدارة المشروع وعلى تأمين حسن التصرف فيه طيلة مدة العقد بما يحفظ حقوق الأطراف المتعاقدة .
وفي إطار البحث عن موارد مالية لتغطية عجز الميزانية لسنة 2016 على مستوى العنوان الثاني ( ميزانية التنمية ) أعلنت وزارة المالية عن اعتزامها إصدار صكوك في سوق المالية الإسلامية بقيمة مليار دينار بغرض تمويل مشاريع مبرمجة بالموازنة ، مشيرة إلى إمكانية تقديم الملعب الأولمبي برادس "كضمان" للمكتتبين حسب القواعد والشروط المعمول بها في مثل هذه المعاملات في السوق المالية الإسلامية، وهي أول عملية من نوعها في تاريخ المالية التونسية وبهذا الحجم وبهذا الشكل في خصوص الضمان على صيغة "نقل مؤقت للملكية" لمدة العقد التي بنهايتها يقع تسديد قيمة الصكوك وتسترجع ملكية العقار، وهو ما أثار ردود أفعال مضادة ذهبت إلى حد التلويح "بالمس من السيادة الوطنية" وتشبيه الفترة الحالية بفترة ما قبل الحماية في إشارة إلى ما آلت إليه الأوضاع آنذاك من "ارتهان للأجنبي" انتهى إلى انتصاب الحماية الفرنسية . وأصبح الأمر اليوم موضوع تجاذبات عبر وسائل الإعلام بما يجعل العملية في شكلها المعلن معرضة للرفض لدى الرأي العام ، هذا فضلا عن أن الكلفة المالية النهائية للعملية قد تكون باهضة بالمقارنة مع تكلفة الاقتراض التقليدي وهو ما يستوجب التدقيق ، الأمر الذي يتحتم معه بذل جهد اتصالي وإعلامي هادف لإنارة الرأي العام حول حقيقة الأمر خاصة فيما يتعلق بتداعيات العملية على السيادة الوطنية التي قد لا تكون في مأمن تام حتى عند اللجوء (المفرط ) إلى التداين التقليدي ، والمؤكد من هذه الناحية أن لا خوف على سيادة الدولة طالما تم توظيف التمويلات المتحصل عليها في إطار المالية التقليدية أو المالية الإسلامية في المشاريع المنتجة ونحوها ذات المردود الاقتصادي ، وتم تسديد قيمة "السلفة" عند نهاية العقد ، وطالما تم التحكم في حجم المديونية بما يكفل استقلالية القرار الوطني ويؤمن سيادة الدولة .
وفي هذا السياق قد يكون من الأفضل إعادة توجيه الصكوك المزمع إصدارها لتمويل مشاريع جديدة بصيغة الإجارة أو المشاركة أو الاستصناع في مشاريع البنية التحتية كالسدود والمواني والسكك الحديدية والطرقات السيارة والطاقة والمشاريع الصحية والتربوية ، وهي مشاريع مرشحة للتمويلات التقليدية في إطار عقود اللزمة بصيغة BOT ، فتكون الفرصة متاحة لإجراء "مناظرات" تنافسية وربما تشاركية بين تقنيات المالية الإسلامية وتقنيات المالية التقليدية ، كما يمكن توظيف قسم من الصكوك في تمويل مشاريع اجتماعية تضامنية برعاية الدولة أو الجماعات المحلية في إطار آلية صكوك القرض الحسن ، ولمزيد تعبئة موارد التمويل الجديدة قد يكون من المجدي إصدار نظام قانوني مصرفي خاص بالمالية الإسلامية ينظم التمويل الإسلامي بمختلف آلياته بالتوازي مع قانون المصرفية التقليدية عوض الاقتصار عن القانون الحالي المتعلق بالصكوك الإسلامية ، ولم لا يقع التفكير في بعث مؤسسة للقرض الحسن لتمويل الاستثمار في مشاريع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وذلك بغرض الاستفادة من الموارد المالية ومن المزايا المتاحة في السوق المالية الإسلامية في إطار الفهم الحداثي للشريعة الإسلامية واستغلالها في تمويل المعاملات الاقتصادية ، مع التأكيد على أن الأمر لا يتعلق في النهاية بالدعوة إلى التخلي عن المعاملات المالية والمصرفية التقليدية بقدر ما يوحي بتنويع آليات وفرص التمويل وإتاحة هامش من الاختيار للدولة وللجماعات المحلية وللمتعاملين الاقتصاديين بشرط اعتماد قواعد الحوكمة الرشيدة والشفافية في التعامل والالتزام بالضوابط القانونية والشرعية ذات الصلة.
صالح الحامدي
- اكتب تعليق
- تعليق