رشيد خشانة : الهاشمي الطرودي ... المناضل والإعلامي والناسك
برحيل الأستاذ الهاشمي الطرودي لم تفقد تونس واحدا من إعلامييها المُحنكين فحسب، وإنما فقدت أيضا مناضلا من الرعيل الأوّل بعد الاستقلال، تميّز بالسخاء والعفة والمُثابرة. انخرط الهاشمي الشاب، ولمّا يزل طالبا في جامعة الزيتونة، في موجة التمرّد الشبابي التي أعقبت إقرار نظام الحزب الواحد في 1964. ولم يلبث أن انضم مع رفيق دربه محمّد بن جنات إلى مجموعة «آفاق» اليسارية، ليجد نفسه ماثلا أمام محكمة أمن الدولة في أول محاكمة لها سنة 1968 مع كوكبة من الشباب الجامعي، من بينهم نور الدين بن خضر وخميس الشماري ومحمد الشرفي ورشيد بللونة وأحمد السماوي...
يقول الهاشمي عن أحلام واحد من أبناء ذلك الجيل، أحمد بن عثمان الرداوي: «كان الحلم ولا يزال جميلا، كانت المغامرة رائعة، كانت التجربة قاسية، أقول فقط أن الجزاء لم يكن على قدر الجهد والنتائج لم تكن بحجم التضحيات، لكن الأكيد أن ذلك الجيل، واحمد بن عثمان احد رواده، كان له شرف الرّيادة في النضال من اجل الحرية والتقدم، جيل أصرّ في ثبات ومثابرة لافتة أن يقول:لا للاستبداد، لا للقمع، لا للحيف الاقتصادي والاجتماعي».
استعاد الهاشمي حريته في أعقاب أزمة التعاضد بعدما أخلي سبيل المساجين السياسيين بمقتضى عفو رئاسي على دفعتين سنة 1970. لكن ما أن احتل موقعه مُجدّدا في ساحات العمل الديمقراطي حتى عادت طاحونة الاعتقالات والمضايقات تُطاردُه، وانتهى به المطاف في أقبية برج الرومي في 1973، لكن هذه المرّة بغطاء «قانوني» غير مسبوق، إذ تقرّر إلغاء العفو الصادر بحق سبعة من قدماء برج الرومي، هم نور الدين بن خضر وأحمد الرداوي ورشيد بللونة وجلبير نقاش ومحمد صالح فليس وعبد الله الرويسي والهاشمي الطرودي. ومع صدور أحكام جديدة عليه من محكمة أمن الدولة في أوت 1974، عرف أن الطريق مازال طويلا أمامه، فاستثمر الزمن المديد لتعلم الفرنسية، وصار يقرأ بها أعقد كتب الاقتصاد وأمهات الفكر السياسي. انغمس في القراءة وأدمن على المعرفة وكأنه قرّر أن ينحت قامة ذاك الإعلامي العصامي الذي صارهُ إثر مُغادرته الأسوار.
ثم ارتمى في أمواج الحراك الاجتماعي والسياسي في بواكير الثمانينات، لكن لم يُسمح له بمعانقة المحفظة والعودة إلى الفصل الذي طالما أحبَ، فاضطُرّ للتدريس في المعاهد الخاصّة بمقابل زهيد، لكي يُعيل أسرةً كانت رفيقةُ دربه وحبيبة قلبه حوريةُ تُخفف عليه بعضا من أعبائها.
انطلق في الوقت نفسه يُعبّد طريق احترافه للصحافة، فكتب في "الصباح" و"الموقف" و"الحياة" إلى أن انتهى رئيسا للتحرير في "المغرب"، وعندما أغلقَ بن علي هذه الصحيفة الأسبوعية وسَجن مديرَها في أوائل التسعينات، كان هو من جمع حوله فريق التحرير في مؤتمر صحفي ليكشف خلفيات الحجب. كلُ إغلاق لصحيفة أو حتى احتجابها لأسابيع، كان نكبة للعاملين فيها ولأسَرهم. مع ذلك استمر برباطة جأشه الخرافية يُمسك القلمَ وينشرُ هنا وهناك تحاليل عميقة وراقية في القضايا التونسيّة والعربيّة... بلا مقابل في غالب الأحيان.
لذا لا أجد نعتا أليقَ بشخصيته من "الناسك"، لاسيما أنه كان من تلك الفئة التي رفضت الحصول على تعويض عن سنوات الجمر التي اكتوت بلظاها طوال أربعة عقود. كان الرجل زاهدا في المادّة حد الحرمان الذاتي، بل كان يخجل من الخوض في هذه المسألة ويترفع عن إثارتها، رغم الجهد الكبير الذي كان يبذله في كتابة مقالاته. وقد شعر أصدقاؤه بالسعادة لمَا تشجع على تجميع تحاليله عن الصراع في العراق، فتوَّج تلك الكتابات المُكثفة بإصدارها بين دفتي كتاب.
كتابان آخران رصعا مسيرته واستمدهُما من أعماقه، الأول «أضواء على اليسار التونسي»، وهي وثيقة في غاية الأهميّة من وحي المسيرة التي عاشها، والثاني «كتاب الأحياء» وهو مجموعة مَرثيات قالها في رفقائه الراحلين ووالدته ونجله خالد. خالد الذي يقول عنه في الكتاب «حين يفقد الأب قرّة عينه تكون كلماته نصال حزن».
ولا بأس من اقتباس هذه الفقرة من مُقدمته للكتاب إذ يقول «هذا الكتاب لم أصنعه أنا بل صنعه الموت، لكنني وجدت نفسي مجبرا على كتابة تأبين أولَ مرةٍ لصديقٍ ورفيقٍ عانى الظلم واستبدادالحاكم هو أحمد بن عثمان، ثم وجدتني منقادا لكتابة كلمات لتأبين رفيقي نورالدين بن خضر ولتأبين ثلة من مناضلي اليسار وحركة آفاق -العامل التونسي،فهؤلاء جزءٌ من ذاكرتي، معهم واجهت السجن وتعذيب الجلادين، رحلوا وهم الذين عانوا فقط من أجل بناء تونس".
خاض الهاشمي الطرودي تجربة إعلامية جديدة مع "المغرب" بعد الثورة كانت الأخصب في مسيرته، بحكم مناخ الحرية الذي اكتنفها، لكن المرض هدَّه ولم يمنحه فرصة استكمالها. رحم الله فقيد الصحافة التونسية وجازاهُ على قدر طيبته وسخائه.
- اكتب تعليق
- تعليق