أدب وفنون - 2015.11.06

حول الذّكرى السّتّين لصدور مجلّة الفكر

حول الذّكرى السّتّين لصدور مجلّة الفكر

في غرّة أكتوبر 2015 يكون قد مضى على صدور أوّل عدد من مجلّة الفكر ستّون سنة. كان ذلك عندما أقدم محمّد مزالي في 1 أكتوبر 1955، قبل الاستقلال، ومن دون الاستعانة بأيّة جهة، على بعث هذه المجلّة الشّهريّة محاطا بثلّة من الأساتذة والأدباء لتبقى في إصرار وثبات طوال 31 سنة حتّى تضطرّ إلى الاحتجاب في جويلية 1986 في ظروف قاسية. وليس هذا البيان الغرض منه مجرّد إحياء ذكرى بل لتوضيح المبادئ الّتي ارتضاها السّاهرون على المجلّة وللكشف عن المنهج الّذي أقرّوه طوال عقود من دون تغيير للنّسق الّذي انبنت عليه بالخصوص الافتتاحيّات، مضامينَ وأساليبَ، حتّى لا يكون هناك انسياق إلى نوع من الإسقاط.

وهكذا لم تكن مجلّة الفكر مجرّد نشريّة تجمع جملة من الإنتاج الأدبي والفكري بل كان ما ينشر على صفحاتها، وبالخصوص فحوى افتتاحيّاتها، مستوحي من منهج يعتمد أقانيم ثلاثة : الإنسانيّة في مجالها الرّحب، والوطنيّة في عزّتها وشموخها، والشّعبيّة في واقعيّتها الملهمة، وبساطتها الرّائعة وسلطانها الآسر الغلاّب. وعلى هذا الأساس اختارت المجلّة تسليط الفكر على واقع البلاد، وإعمال النّظــــر في مشاكل الوطن، والاعتماد على النّفس من أجل الظّفر بنمط حياتيّ تونسيّ صميم يكسب كلّ الأعمال والأقوال معنى. وهذا لا يتأتّى إلاّ بالحرص على إجلاء معالم الشّخصيّة التّونسيّة بإحياء تراث البلاد، واستئصال مركّب النّقص الّذي يعانيه البعض بهذه الدّيار إزاء الشّرق أو الغرب، وبإفساح المجال إلى الشّباب الّذين يحملون قيما جديدة، ويتمتّعون بمواهب لا تنتظر إلاّ التّشجيع والصّقل.

وبهذه الصّورة كان التمسّك الدائم بحرّيّة الفكر الّتي هي شرط الأدب الحقّ في احترامٍ لآراء الكتّاب وشتّى منازعهم ما داموا جادّين ومدركين لتَبِعة الحرّيّة الّتي تنفي الفوضى والسّفاهة العقليّة والمحبّات الغالبة والعبث... ومبدأ آخر تمسّكت به المجلّة وهو السّير، ما أمكن، في اتّجاه الثّورة الإنسانيّة الخلاّقة الّتي تجتاح البلاد التّونسيّة آنذاك والحرص على مقاومة قوى الرّجعيّة. وكذلك السّعي في أن تواكب هذه المجلّة في حدود مشمولاتها وإمكانيّاتها الحركة التّحريريّة الّتي بفضلها قطعت تونس أشواطا في طريق الكرامة والحرّيّة.

وكذلك لم تنفكّ الافتتاحيّات تذكّر بأنّ المجلّة ليست مجلّة شخص بعينه أو جماعة ضيّقة بعينها بقدر ما هي ملتقى لأسرة الأدباء والمفكّرين عامّة، ومنبر لكلّ الآراء الصّادقة والأفكار النّيّرة، ومجال لكلّ المحاولات الأدبيّة الأصيلة المبدعة القيّمة، رائدها السّعي في تبيّن الشّخصيّة الأدبيّة القوميّة، وتعزيز مقوّمات الثّقافة الوطنيّة، والمساهمة في إثراء التّراث الفكري في الوطن الأكبر، ومبدؤها التّمسّك بحرّيّة التّعبير، والذّود عن حرمة المفكّر الأصيل  دون المزيّف المتاجر بأدبه، والإيمان بأنّ النّهضة الأدبيّة المنشودة هي ثمرة جهاد جميع الأدباء مهما كان سنّهم أو أسلوبهم أو نزعتهم أو مدرستهم، وبأنّ معيار تقييم الأثر الأدبيّ إنّما هي قيمته الأدبيّة الذّاتية، بقطع النّظر عن الموضوع، بل بالرّغم عن أهمّيّة الموضوع في العمل الأدبيّ، والإيمان كذلك بأنّ قضيّتنا الكبرى، نحن معشر الأدباء، ليست الأدب الملتزم أو الأدب غير الملتزم مثلا بل هي قضيّة الأدب أو اللا أدب.
كما أنّ المجلّة دأبت على الاهتمام بالنّشاط الثّقافيّ الّذي عمّ البلاد في فترة البناء وتؤكّد أنّ الرقيّ بالبشر الّتي هي غاية تونس وهدف المسؤولين بهذه البلاد وشعار مخطّطنا لا تقتصر على الهيكل الأساسيّ وسدّ الرّمق فقط بل تستوجب الرّفع من شأن الإنسان التّونسيّ وتمكينه من ممارسة إنسانيّته والسّموّ به إلى أعلى مراتب الرّفعة المعنويّة. والمتتبّع للحركة الثّقافيّة بتونس يجب عليه أن يتجاوز العاصمة ويتطلّع إلى معالم الحيويّة الّتي تنمو يوما بعد يوم في كامل جهات الجمهوريّة. ولعلّه يتفاءل بمستقبل ثقافتنا الوطنيّة، إذ لا ثقافة ولا ازدهار ولا تقدّم إلاّ إذا توازت الجهود في القمّة والقاعدة معا، وتركّزت العناية أساسا على الشّعب، وسعت إلى رفع مستواه. وبالتّالي إذا ساعدت على إيجاد هذا الحوار المتواصل بين صفوة المثقّفين وعامّة الشّعب في مستوى الفكر، على نحو ما توفّر في الميدان السّياسي الوطنيّ التّونسيّ .

وما فتئت المجلّة تؤكّد أنّ التّخطيط العلمي والمسلك الحداثيّ المتوخّى من شأنهما أن يرسما الطّريق الّذي به نصل إلى المبتغى في إيجاد التّونسيّ الجديد المتفاعل مع عصره. لأنّنا لم نحقّق بعدُ الثّورة الكاملة العميقة الأصيلة الّتي تنفذ إلى الرّوح والوجدان وتعيد خلق الإنسان. وفي هذا السّياق نعتقد أنّ قضيّة الإسلام، من حيث هو دين، يجب أن تبقى بعيدة عن أيّ نوع من التّوظيف وهي إلى ذلك تتطلّب الحلّ. ذلك أنّنا نؤمن بثوريّة المبادئ الكونيّة للإسلام وقدرته على الرّفع من شأن الإنسان...
هذه أهمّ الخطوط الفكريّة والثّقافيّة الّتي سارت عليها مجلّة الفكر طوال 31 سنة أحببت التّذكير بها لاعتقادي أنّها كانت لبنة هامّة في صرح الحداثة الفكريّة والأدبيّة والثّقافيّة لهذه البلاد. ولا إخال أنّ العديد من الّذين ساهموا في مسيرة مجلّة الفكر بإنتاجهم وإبداعهم يشاطرونني الحرص على التّذكير بدور هذه المجلّة في تكوين رصيد ثقافيّ وتنمويّ لا يمكن أن ينكره كلّ من يريد الخير لهذه البلاد.
رئيس تحرير مجلّة الفكر سابقا

البشير بن سلامة

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.