(حسناء جنوة التّي غيّرت تاريخ الدّولة الحسينـيــّة (الجزء الثاني
رغم الحراسة المشددة التي ضربت عليه، تمكن علي باشا الحسيني من التسلل خارج أسوار مدينة تونس مساء الجمعة 20 فيفري 1728 م؛ والتحق بأنصاره في جبل وسلات غرب مدينة القيروان، معلنا ثورته على عمه الحسين بن علي. وترجع بذور الخلاف بين الرجلين إلى بداية الدولة الحسينية، حين لم يكن لمؤسسها ولد ذكر من زوجاته؛ فرأى من الحكمة أن يكلف ابن أخيه الشاب علي بن محمد بمهام «باي الأمحال» والتي تعني قيادة الجيش في غيابه؛ بما يؤهله عمليا لوراثة العرش من بعده. لكن تشاء الأقدار أن تقع فتاة جميلة، أصيلة مدينة جنوة الإيطالية، في أسر قرصان تابع للباي؛ فيتزوجها هذا الأخير، وتنجب له بداية من سنة 1710م أربعة أبناء وبنت. منذ تلك الفترة، شرعت حاشية الباي في الضغط عليه لتمكين نجله البكر محمّد من ولاية العهد، خاصة مع اشتداد عوده وظهور بوادر نبوغه. لكن حسين باي بقي متهيبا من عواقب إزاحة ابن أخيه عن المنصب الرفيع الذي اعتلاه لأكثر من عقد ونصف ...
كيف سحب حسين باي ولاية العهد من ابن أخيه علي؟
في شتاء سنة 1724 م كان باي الامحال في بر الجريد، على رأس المحلّة التي استخلصت الضرائب. ولمّا انتهى من مهمّته، استأذن في العودة إلى الحاضرة من عمّه، الموجود بالقيروان على رأس محلّة ثانية. واستقبلته كالعادة حاميات وحصون تونس بالأعلام وبدويّ المدافع التي يجيبها العسكر ببارود المكاحل؛ ودخلها في موكب مهيب، تسبقه من الأمام على يمينه عسكر الترك، المشاة، ومن خلفه من اليسار صبايحية الترك، الخيّالة. ولمّا عاد الباي واستقبله أبناؤه وقبّلوا يده، قارن بين وضعيّة ابنه البكر، الذي لم يكن له أي وظيف في الدولة وبين وضعيّة ابن أخيه صاحب المنصب الرفيع الشأن، وتملكته الغيرة ... عندها قرّر أن يتحرّك.
بدأالباي باستشارة الشيخ العالم «إمام المفسرين في عصره» محمد زيتونة المتوفي يوم 7 جوان 1726م، في تقديم ابنه محمد باي للسفر بالمحال؛ لكن الشيخ تحفظ عن مجاراته، وقال له: «هذا أمر مهم يجب فيه التأني والتثبت وربما سيكون سببا في فتنة بين الناس». وعندما أجابه الباي: «لا تخشى شيئا فإن افريقية كسجادة طويتها وجلست عليها»، ارتعد الشيخ فرقا من هذه المقالة، وقال: «الآن خفت عليك حيث اعتمدت على حولك وقوتك وأعجبت بنفسك»؛ وخرج خائفا على صاحبه.غير أنّ الباي عزم بلا تراجع على تقديم ابنه للسفر بالمحلة، لبلوغه في نظره مبلغ الرجال وتأهله لأعلى المراتب. لذا أحضر أحد ثقاته من المتصفين بالدهاء، ودعاه لنصحه واستنباط الحل الأمثل لتحقيق مبتغاه، مع ضمان إرضاء ابن أخيه، الذي لا يمثل له حسب رأيه «أي مشكلة». فأجابه الرجل: «من الثابت أن ابنك مقدم على ابن أخيك. ولكن ابنك غير معروف، على خلاف ابن أخيك الذي تعود العسكر وأعيان الدولة على رِأيته... لذا اقترح عليك أن ترسل وفدا إلى السلطان في اسطنبول محملا بأنفس الهدايا، وتطلب من «الصدر الأعظم» أن يخلع لقب باشا تونس على ابن أخيك، مع منحه «فرمان» في ذلك. وبعدها يمكنك تكليف ابنك بقيادة العسكر؛ ثم تنيط إليه إثر مدة قصيرة بعهدة عرشك، من غير أن يغضب سلفه. وجرت الأمور كذلك، حيث عاد الوفد بعد أشهر مكللا بالنجاح؛ فقام الباي بتهيئة دار رمضان باي وطلب من ابن أخيه أن يقطن بها؛ وأرسل له الفرمان الذي عين بمقتضاه باشا تونس. فشكر علي عمه وقبل يده وتظاهر بالقبول؛ ودخل مدينة تونس ولبس الفرمان في موكب مشهود، تحت وقع دوي المدافع المرحبة به.
لكن عندما حان وقت خروج المحلة في السنة الموالية 1725م، علم أن الباي قرر منح قيادتها إلى ابنه محمد، الذي كان عمره 15 سنة؛ وثبتت ظنونه وهمسات أنصاره منذ مدة، من أن منحه لقب الباشا لم يكن إلا مناورة لإبعاده عن الحكم؛ فكتم غيظه وتحول إلى باردو، ليهنئ عمه... ولما تهيأت المحلة للسفر، استأذن علي باشا من الباي في توديع ابن عمه محمد خلال استعراضه للجند، وذلك لمزيد تمتين العلاقة بينهما، فوافقه. وخرج علي باشا في بدلة عسكرية فاخرة، راكبا فرسه الصفراء الجميلة؛ وكان وسيما وصاحب بنية جسمية مهيبة، مع قامة فارعة أطول من قامة ابن عمه الذي لم يكتمل نموه بعد. لذلك خطف كل الأنظار نحوه. وكان وراءهما أحمد شلبي الذي عينه الباي للسهر على ابنه. انزعج شلبي من تصرف الباشا، ولم يهنأ له بال إلا بعد انتهاء الاستعراض. ولما عاد علي باشا إلى منزله وبقي وحده، تأكد أن الدوائر بدأت تدور عليه بعد العز، وأن شأنه دنا عند الناس؛ واستصغر خطة الباشا لأنها حرمته من لذة الأسفار والتنقل من عمالة إلى أخرى، وأصابته غصة من تقدم ابن عمه لقيادة الجيش، لما يرى في نفسه من تفوق عليه؛ فأحزنه ذلك كله كثيرا وأشعل في داخله شرارة سامة بدأت تعظم إلى أن أصبحت لهيبا.
عادت المحلة إلى تونس ونزلت بخيمة الحرايرية؛ وخرجت فيالق حصون تونس وأعيانها لاستقبالها والدخول معها كالعادة إلى العاصمة بمهرجانها الفخم. يومها رافق علي باشا ابن عمه محمد « باي الامحال» الجديد، ممتطيا كالعادة فرسه الأنيقة؛ ولكنه تعمد استباق الأمير الشاب ببضع خطوات فغطى رأيته على الناس. لم يطق أحمد شلبي تحمل هذا المشهد، وتقدم من الباشا مخاطرا بحياته وقال له: «تأخر قليلا يا سيدي وامش حذو ابن عمك، لكي تبق معه على نفس الخط». لم يجبه الباشا، ولكن نظر إليه ولسان حاله يقول: «لو كان لي سيف لقطعت رأسك حالا».
بمثل تلك المواقف، تكاثرت الأقاويل وعقارب الوشاية بينه وبين عمه؛ إذ تأكد للباي ضيق نفس ابن أخيه وسوء ظنونه، ودعاه نصحاؤه لردعه دون توان؛ فنصب عليه العيون لمراقبة تحركاته. كما علم الباشا من جهته أن خصومه أوغروا صدر الباي عليه؛ فخاف على نفسه من القبض عليه، وأدرك أنه لم يعد له مكان في تونس، وشرع في إعداد العدة مع أخلص أنصاره، للهروب إلى جبل وسلات الذي وعدته وجوه عشائره بمساندته. هكذا أمكن له الفرار مساء تلك الجمعة من أوائل سنة 1728م.
الحرب الأهلية بين الحسينية والباشية
أسر حسين الباي لبعض خواصه أنه ندم على عدم الأخذ بنصيحة من حثه على سجن أو قتل ابن أخيه، الذي بدا واضحا منذ مدة أنه كان يضمر الشر لعرش عمه. وبعد أن فشلت كل محاولاته للتصالح معه، بدأت الحرب الأهلية بين الطرفين بداية من جبل وسلات؛ وكانت فتنة طاحنة وشنيعة، خربت المدن والقرى وأهلكت الحرث والنسل وأسالت أنهارا من الدماء وفرقت بين الأهالي، وبنت بينهم جبالا من الأحقاد الدفينة، لم تهدأ سواكنها إلا بعد عقود. فقد انقسمت تونس بحضرها وعربانها إلى فريقين: فمن الحسينية : القيروان وسوسة والمنستير والمهدية والقلعة الكبرى وصفاقس وقرى من الساحل؛ ومن قبائل العربان بنو رزق وأكثر عروش دريد وقبائل جلاص وأولاد عون وأولاد سعيد والهمامة. ومن الباشية: مساكن وجمال والقلعة الصغرى وأكودة وزاوية سوسة وجبل وسلات وقبائل ماجر والفراشيش وأولاد عيار وأولاد سعيد، وغيرهم. وهكذا نهبت القصور، بما فيها قصر باردو، وضاعت ثروات البلاد العلمية والمادية الثمينة، وخربت وهدمت مدن بصفة شبه كاملة كالقيروان والقلعة الكبرى، وقتل من أعيان وأهالي الكاف وباجة وسوسة والمنستير وصفاقس وغيرها خلق كثير على مدى سنوات؛ لأن كل فريق منتصر - ولقد تداولا على الانتصار لسوء الحظ - كان ينتقم بشراسة من المدن والقرى والقبائل المساندة لخصمه... انتهت الجولة الأولى من الصراع، والتي امتدت حوالي سبع سنوات، بانتصار الحسين بن علي، بعد جهد جهيد وخسائر بليغة في الجند والعتاد والمال؛ وفر ابن أخيه علي باشا إلى الجزائر، حيث سجنه حاكمها المساند لعمه، ودخل ابنه يونس الفيافي بين العروش البعيدة المناصرة له.
بعد بضع سنوات من ذلك، وإثر عودة حسين باي إلى قصر باردو بعد إحدى حملاته، حدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ غادرت «ماريا دوريا – منانة» تونس، برضا زوجها على الأرجح ولدواعي غير معلومة يقينا، وعادت إلى مسقط رأسها جنوة؛ وهو ما أثبتته أخيرا الباحثة الإيطالية «ماري تيراز بوهاجيار»؛ بينما واصل أخوها مصطفى جنويز مكوثه مع صهره في تونس، بوصفه قائدا للمدفعية. وانتهى بها المطاف، بعد أن رفض والدها قبولها في البيت، إلى أن دخلت أحد الأديرة. وتشاء الأقدار أن يموت داي الجزائر المساند للحسين باي، ويرتقي هناك حاكم جديد إلى السلطة هو ابراهيم باشا؛ فيخرج علي باشا من السجن، ويجهز له سنة 1735م جيشا قويا، مكنه من الانتصار على غريمه في معركة شهيرة بجهة سمنجة. وفر الحسين بن علي مع فلول أنصاره وأبنائه محمد وعلي ومحمود إلى مدينة القيروان؛ وانتصب ابن أخيه علي باشا بايا على تونس، حيث تواصل عهده إلى سنة 1756م.
وفي يوم الجمعة 13 ماي 1740م، الموافق 16 صفر 1153، وإثر حصار مرير لمدينة القيروان دام حوالي خمس سنوات، أفنى أهلها وحولها إلى خراب، أمكن لجيش يونس بن علي باشا، أن يهدم جانب من سورها ويدخلها. ففر الحسين بن علي من الباب الغربي على فرس شقراء معروفة بالسبق. ولكن خيل جنود يونس لحقت به وقتلته وجرحت جميع رفاقه، وأصيبت فرسه بطلقة نار، فوقعت أرضا بصاحبها؛ ولم يجرأ أحد على الاقتراب من الباي حسين إلى أن لحق بهم يونس؛ فترجل وسل سيفه. حينها قال له عم أبيه: «أتخضب شيبي بدمي يا يونس وقد طهرت – أي ختنت - أباك في حجري، وأعطيت البشارة لمن زف لي خبر ولادتك؟» فقال له يونس: «الملك عقيم يا سيدي»، وتقدم فطرحه أرضا ووضع رجله على وجهه وطعنه حتى أرداه. ثم أمر ضابطاً يدعى عثمان آغة بقطع رأسه، فأبى معرضا حياته للخطر. تمالك يونس نفسه وأخرج منديله وطرحه أرضا، وتولى فصل رأس عمه عن جسمه، ووضعها في المنديل وحملها إلى القيروان، حيث أراها للجند حتى يتحققوا من الانتصار. ثم أرسل الرأس إلى والده في باردو؛ وقيل إنّ الباشا بكى لرؤيتها وأنكر فعل ابنه. ولكنه لم يمنعه ذلك من إرسالها إلى القصبة، حيث وضعت فوق «القبة» المعدة لذلك - ولكم عرضت هناك من جثث ورؤوس الحكام والأعيان والثوار والعامة خلال تلك الحقب؟-، لكي يراها أهل العاصمة. وبعد ساعة من الزمن حملت إلى تربة سيدي قاسم السبابطي حيث دفنت. وسخر يونس أحد أصحاب العربات - كرارطي - لحمل جثة الحسين بن علي تركي على عربته إلى باردو؛ فأمر الباشا بتحويلها إلى التربة المذكورة، حيث تم غسلها ودفنها مع الرأس، حيث لا تزال موجودة إلى اليوم. هكذا انتهت حياة مؤسس آخر دولة ملكية في تونس قبل إعلان الجمهورية.
ولقد انتهى حكم علي باشا سنة 1756م، بعد أن شهد عهده ثورة ابنه يونس عليه ووفاة ابنه سليمان مسموما على يدي ابنه الآخر محمد. فقد عاد ابنا عمه محمد وعلي من منفاهما بالجزائر، بعد غربة دامت 16 سنة، بمساعدة حاكم آخر للجزائر يدعى حسن باي– مرة أخرى-. وانتهت حياة علي باشا مخنوقا على يدي مماليك «روامة» - أي أوروبين- بأمر من القائد الجزائري؛ وعرضت جثته في القصبة ليراها الناس قبل دفنها في التربة، كما فعل برأس عمه قبل 16 سنة ... وقتل معه ابنه محمد وأخوه مراد وحفيده نعمان، وغيرهم كثر. واستولى على الحكم محمد باي 1756 – 1759م، ثم أخوه علي باي 1759ـ 1782م، ابنا الحسين باي، كما تنبأ بذلك الرجل المجذوب في ضريح سيدي عبد الوهاب سنة 1708م؛ ودام حكم أبنائه وأحفاده إلى يوم 25 جويلية 1957.
أما والدتهما، حسناء جنوة، فقد امتد بها العمر إلى سنة 1789م، أي أنها عاشت قرابة القرن حسب الوثائق التي أخرجتها إلى النور مؤخرا الأستاذة «ماري تيراز بوهاجيار»؛ وتكون بذلك سخرت حياتها وهي في شرخ الشباب للصلاة والعبادة، علها تكفر حسب اعتقادها عن الذنب الذي اقترفته بالارتداد عن دينها؛ واختارت العيش، بعد سنوات الملك العشرين في حريم باي تونس، زاهدة ومنعزلة عن الدنيا داخل دير حوالي 54 سنة؛ رغم أن ابنها محمد ومن بعده ابنها علي، ثم حفيدها حمودة باشا كانوا يحكمون البلاد التونسية. والطريف أن ابنها علي كان تزوج جارية علجية - كنيتها محبوبة-، أيام منفاه في الجزائر، وأنجب منها فتاة سماها «آمنة» أو «منانة» على اسم والدته، أي جدتها؛ وهي أخت حمودة باشا بــــاي الحسيني 1782 ـ 1814م وزوجة محمود باي ابن عمها محمد الرشيد باي 1814 ـ 1824م، وهي أيضا والدة كل من الحسين باي الثاني 1824 ـ 1835م ومصطفى باي 1835ـ1837؛ وكل البايات الذين حكموا تونس بعد هؤلاء من أحفادها. تلك هي القصة المثيرة التي جرت مختلف أطوارها في الربوع التونسية منذ حوالي ثلاثة قرون؛ وأصبحت بعض فصولها، الحلوة والمرة، حديث الأسمار، وسيرة أبطالها عبرة لمن يعتبر في أرجاء البلاد جيلا بعد جيل، إلى عهود الحماية الفرنسية. ولله في خلقه شؤون وله العاقبة في الأول والآخر.
مختار المستيسر
- اكتب تعليق
- تعليق