قراءة في الوضع الحالي والآفاق
قبل كل شيء علينا التأكيد بأنّ تونس خطت خطوات هامة في طريق بنائها الديمقراطي: دستور تضمّن قيم الديمقراطية و المواطنة والعدل، صِيغ بأغلبية قاربت الإجماع، و تنظيم انتخابات حرة ونزيهة رغم ما شابها من استعمال المال المشبوه، و سعي متواصل من أجل ضمان الاستقرار في محيط محفوف بكل المخاطر...
هذا جيد، و لكنه ليس ضامنا لعدم العودة إلى الوراء أو لعدم السقوط في متاهات العنف و الانفجارات الاجتماعية... فماذا يجني الشاب التونسي من الدستور إن لم يشعر بطيب العيش وبالكرامة في وطنه؟ ماذا يجني المواطن من الدستور الذي يتحدث عن الحقوق والحريات وعن التمييز الإيجابي و عن الحوكمة الرشيدة في حين أنّ الحكومات المتعاقبة عاجزة عن الحدّ من البطالة ومجابهة غلاء المعيشة؟ ماذا تعني الحوكمة الرشيدة في ظل تنامي الرشوة والمحسوبية وكل مظاهر الفساد؟ ماذا تعني الثورة أصلا في ظل عودة متسارعة لأساليب و رموز جاءت الثورة تحديدا للقطع معها؟
مرّ التونسي من خيبة إلى أخرى، وفي كلّ مرة يمنيّ النفس بأن القادم سينقذه من الماضي القريب و البعيد، وفي كل مرة يُجابه بالأساليب نفسها وبالإخفاقات ذاتها التي ينذر تراكمها بانفجارات... واجبنا أن نقي تونس منها...لا يجادل أحد في حق رئيس الجمهورية في المبادرة التشريعية، بل لقد سعينا إلى ذلك عند صياغة الدستور، لكني أعتقد أنه ما كان لرئيس الجمهورية أن يخرج للتونسيين بمشروع يقسّم صفوفهم ويدخلهم في جدال هُم في غنى عنه، قانون يُبيّض الفساد وينسف مسار العدالة الانتقالية، لأنّه يضرب عرض الحائط بشروط المساءلة والمحاسبة والشفافية التي تقوم عليها. والحقيقة أنّ هذا المشروع جاء في ظروف عامة تنبئ أن من هم في الحكم لا يعبؤون بضرورة ترسيخ قيم المواطنة والحريات، وإلا ما معنى أن يواجه شباب ينتهج العمل المدني والسلمي بخطابات التهديد والوعيد، بل وبضربات الماتراك، لا لشيء إلا لأنهم عبروا عن رأيهم بكل حرية؟ أية مصالحة هذه التي تأتي عبر ضربات الماتراك؟
كيف يتهيأ للبعض أن يمرّ هذا المشروع مرور الكرام و الناس يعانون من غلاء المعيشة و الأجراء يعرفون أن العدل الجبائي و مقاومة التهرب من الضريبة هي قضايا لم تدرج بعد في أجندة الحكومة و أنهم هم الذين يتكبّدون الجزء الأكبر من تمويل خزينة الدولة؟ .
مصلحة البلاد تقتضي سحب هذا المشروع وفتح حوار جدي حول سبل دعم مسار العدالة الانتقالية وإنجاحها وتوحيد الصف لمواجهة التحديات والأخطار...لِنَقُلْها بجرأة و صراحة: خطر الإرهاب الذي تواجهه تونس ليس خطرا داهما من الخارج أو خطرا وافدا علينا من الأغراب، إنه نتاج وضع دولى وإقليمي، بالتأكيد، ولكنه يتغذى من وضع تونسي سمته انسداد الأفق وانعدام الأمل في غد أفضل، شباب تونس و فقراؤها يجدون أنفسهم اليوم بين مطرقة داعش و«وعودها الروحية والدنوية» وسندان ثورتهم الموؤودة و آمالهم الضائعة...
هذا هو التحدي المطروح على الجميع: إعادة الأمل والتأكيد بأن الثورة على الظلم و الفساد والاستبداد لم تكن خطأ، الخطأ هو في أن من تعاقب على الحكم حاد بالثورة عن أهدافها، فبقيت التنمية ومقاومة الفساد وتحقيق المواطنة كلاما أجوف و خطاب اجتماعات تحشيدية لا غير!
تونس في حاجة إلى هبّة وطنية تضع التنمية ومقاومة الإرهاب في صدارة برامج الجميع مثلما كان الحال إبان بناء الدولة الوطنية الحديثة، حيث الصحة والتعليم و النهوض بالمرأة هي أولويات كل الوزارات والإدارات، هذا ما نحتاجه اليوم و على بعض الوزراء أن يكفوا عن البحث عن نجاحات شخصية لا معنى لها، فهم في هذا الموقع لخدمة تونس والتونسيين. فإمّا أن يكونوا في خدمة مشروع وطن وإمّا أن يبحثوا عن نجاحاتهم في مجال آخر.
مجهود أسلاك الأمن والحرس والجيش، مجهود بطولي، و الإنجازات التي تحققت بالدم الغالي هي مفخرة كل التونسيين، و لكنها لوحدها لا تأتي على مكامن الإرهاب.
المطلوب برنامج شامل يثمّن دور الأبطال بتشريعات تحميهم وتحمي أهاليهم، بخطط تضع مقدرات البلاد في خدمة هذه الحرب عدة وعتادا، وأيضا ببرامج تنمية بشرية تجعل المواطن محور كل مشروع، فتُوجّه التمويلات للمشاريع الكبرى الرامية إلى رفع العزلة عن الجهات المحرومة، و تنطلق برامج مقاومة الفساد، وتُواجه كل محاولات النيل من الحقوق و الحريات بكل صرامة ، ويعاد النظر في برامج التربية والتعليم بما يحفز الناشئة على الانفتاح والفكر النقدي، ويُفسح المجال للفن والإبداع للتأكيد بأن عالم الحرية عالم رحب يجمع و لا يفرق، إنه مشروع وطن و ليس برنامج أشخاص.
آنذاك يمكن للشاب التونسي أن يقارع فكر الموت والتقتيل و التكفير بفكر التسامح والبناء والتطور، آنذاك يمكن لنا القول بأننا أعدنا الثورة إلى طريقها السوي: طريق المواطنة والكرامة والتقدم.
- اكتب تعليق
- تعليق