رحلة في السّنوات
سنة 2052: 19 فيفري 2052، أدركت من العمر مائة عام؛ ولكنّي كنت منشغلا عن ذلك كلّه بالذّكريات العجيبة التي أخذت تتدافع، وأنا محتار! يـــــاه! أين كانت تختبئ كلّ هذه الذّكريات؟ كأنّها ليست ذكرياتي أنا، وكأنّها ذكريات رجل آخر؛ أو كأنّي أراها بعين غير عيني وبقلب غير قلبي؛ وكان «مستر ديفنباخ»، وهو أمريكيّ درّسنا الهندسة المعماريّة أوائل السّبعينات من القرن الماضي، يقول لنا، ونحن طلاّب مبتدئون نتدرّب على رسم معالم تونس كما اختزنتها ذاكرتنا: «لماذا ترسمون المشاهد التي تستحضرون بنفس الخطوط والأشكال والألوان؟ الصّورة أيضا تتغيّر! ليس هناك صورة ثابتة!»؛ وكنتُ أسمع أبي يروي أحيانا بعضا من ذكرياته، وأنا أظلمه: «لماذا لا تستقرّ رِواياتُه على حال؟ لماذا تتبدّل من فصل إلى فصل؟»؛ الذّكريات ليست مومياء محنّطة؛ هي أيضا حيّة تتبدّل؛ ولم يكن من عادتي أن أعود إلى ألبوم الصّور، فلماذا أعود اليوم؟ وأنا أسترق النّظر استراقا، كأنّي أخاف أنْ أهيّج أشجاني! تستوقفني صورة قديمة جدّا، جوان 1964، وأنا تلميذ في الفصل الخامس في مدرسة طارق بن زياد في القيروان؛ كنّا ستّة وثلاثين تلميذا؛ غاب يومها تِرْبُنا عبد السّلام الشّريف، وقد نام نومته الأبديّة ونحن نتهيّأ لحفل آخر السّنة، فبقِينا خمسةً وثلاثين؛ فلماذا كلّما عَدَدْتُ أترابي وجدتُ ستّةً وثلاثين؟ كيف جاء عبد السّلام إلى الصّورة، واقفا إلى يساري؟ يا عبد السّلام، فُكَّ عن يساري! فأنا لا أطيق أحدا عن يساري!
سنة 2053: قليلة هي الأحداث التي غيّرت مجرى حياتي، ولعلّ حكاية جزّار سيدي البحري أهمّها على الإطلاق! هي حكاية بدأت في يوم كئيب كسائر الأيّام، في مدينة كئيبة كسائر المدن؛ الأحد، 6 أكتوبر 1985، أخرج إلى سوق سيدي البحري في تونس، وهي سوق شعبيّة، جُلّ زبائنها من النّساء، وأنا أتسوّق على مضض، ولا أزاحم، فلا أفوز إلاّ بما خرث ولاث؛ ثمّ أعرّج على جزّار ليس في حانوته غيري وغيره؛ والسّاطور طالع نازل، وأقول لنفسي في نفسي:«سيقع السّاطور في اللّحمة الحيّة!»؛ والجزّار ضخم الجثّة، عظيم الهامة، ولكنّ يده اليمنى هزيلة وأصابعه نحيفة معروقة، والخاتم الفضّة في الوسطى كحذاء 47 في قَدَمٍ مقاسها 38؛ والرّجل دون أن يرفع بصره: «ارفع نظرك عن يدي! عيْنك حرشاء!»؛ وكان سي مبروك الطّرابلسي، وهو معلّم رياضة أواسط السّتّينات من القرن الماضي في مدرسة طارق بن زياد في القيروان، يقول لي، حين يهمّ أحد أترابي بالوثب العالي: «يا صحبي، دُرْ إلى الوراء! أو أغمضْ عينيك!» والفِتْيَةُ يتعثّرون!؛ و«مسيو كواتانون» أستاذ الكيمياء في المرحلة الثّانويّة يقول:«لن تنجح التّجربة إذا لم يرفع «مسيو وهايبي» نظره عن الأنبوب!»، وأشيح ببصري، ولكنّ الأنبوب ينفجر! ثمّ مرّت السّنوات، وحسبتُ العمرَ فَعَلَ فِعْلَه، فَلاَنَت نظرتي وطابت، وقد عَمّر قلبي كثيرٌ من الودّ والحبّ، وما أكثر ما كنت أحبّ! حتّى جاءني المدير إلى مكتبي في وزارة التّربية: «يا صحبي، لا تحضر غدا حفل التّدشين! خذْ لنفسك يوم راحة، واخرج مع صاحبتك وتمتّع!»؛ وكان الوزير الأوّل محمّد مزالي، طيّب الله ثراه، يتهيّأ لتدشين المعهد النّموذجيّ بأريانة، ومازلت ألحّ وألجّ، حتّى ضاق المدير ذرعا: «يا سي الصّحبي، عينك حرشاء! هل تريد أن تأخذنا في داهية؟»؛ وما هي إلاّ أيّام قليلة حتّى غادر الرّجل البلاد هاربا بجلده؛ وكانت صاحبتي، على أيّامها، تقول لي:«أَحَبُّ ما أُحِبُّ فيك، نظرتك!» ثمّ تطبق عليّ، وأطبق عليها، وأنا أطبق عينيّ! ووقع السّاطور في اللَّحمة الحيّة، ونجت الأصابع الأربع، ولم تهلك إلاّ الوسطى، وظلّت تتلوّى وتقفز مثل ذيل سحليّة، والجزّار غافل عن ذلك، كأنّ اللّحمة ليست لحمتَه، وأقول لنفسي في نفسي مهوّنا: «بسيطة! الوسطى لا دور لها، حضورها كغيابها! وغيابها لن يعيق عمله! وهو لم يتفطّن لغيابها أصلا! أنا لا أفهم لماذا خلق الله الوسطى!»؛ وتعلّمت ألاّ أكون أبدا في الوسط، وتعلّمت أنّ المكان الخطر هو وسط المكان، والوقت الخطر هو وسط الوقت.
الصّحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق