ما نأمله من النخبة التونسيّة
من المفارقات التي نلحظها اليوم في تونس انكماش النخبة الفكريّة وتقلّص حضورها في الفضاء العمومي، بعد زهاء خمس سنوات من اندلاع ثورة كان من أهمّ مكاسبها اتساع مجال الحريات، ومن ضمنها حريّة الرأي والتعبير، وانفتاح آفاق رحبة أمام مختلف الحساسيات الفكريّة والسياسيّة للمشاركة الواسعة في تصريف الشأن العام.
وتدعونا هذه المفارقة إلى إمعان النظر في الأسباب التي تدفع العديد من المثقّفين وأصحاب الرأي إلى الاكتفاء بموقع الجالس على الربوة وتحاشي الخوض في المسائل الوطنيّة وطرح التصوّرات والبدائل الممكنة لحلّ المشاكل القائمة، في فترة مفصليّة من مسيرة البلاد .
ولعلّ من أبرز هذه الأسباب تقصير الأطر المجتمعيّة في استقطاب النخب وتحفيزها إلى الاهتمام بالشؤون الوطنيّة، علاوة على انحدار مستوى الحوار السياسي وانحرافه عن سبل التناول الهادئ الرصين لقضايا مصيريّة تهمّ حاضر تونس ومستقبلها، في ظلّ احتدام الصراعات الشخصيّة واستمرار التجاذبات والمهاترات السياسيّة وانسياب سيول الاتهامات الموجّهة إلى هذا الطرف أو ذاك عبر بعض وسائل الإعلام، التي وجدت في عراك الشارع السياسي وصخبه وسيلة لجذب المتلقّي. ومن البديهي أن يفقد المواطن عامّة والمثقّف خاصّة الثقة في الطبقة السياسيّة وأن يحوّل وجهة اهتمامه نحو ما هو ٲجدى وأنفع.
وإذ نتفهّم نسبيّا عزوف العديد من عناصر النخبة الفكريّة عن ممارسة العمل السياسي للأسباب الآنفة الذكر، وربّما لقناعات شخصيّة تحملهم على الحفاظ على حياديتهم واستقلاليتهم إزاء السلطة السياسيّة، بما ينسجم مع متطلّبات وظيفتهم النقديّة، فإنّنا نبقى حيارى أمام ما تشهده الساحة التونسيّة من تواصل حالة القحط الفكري والتصحّر الثقافي، بعد الثورة، رغم إضافات قيّمة في عدد من المجالات، لا نعتقد أنّها قادرة على حجب أزمة إبداع مستفحلة وانحسار جليّ للإنتاج الفكري والثقافي الوطني.
واليوم وقد تسنّى لتونس الديمقراطيّة الانصهار في منظومة القيم الكونيّة في كنف التناغم مع خصائص الهويّة الوطنيّة، فإنّ الأمل يظلّ قائما في أن تنهض النخبة التونسيّة بدور فاعل، خارج الدوائر الأكاديميّة الضيّقة، في ملء الفضاء العمومي-الذي يسعى دعاة التيّار المتطرّف والمتحجّر إلى السيطرة عليه- وذلك بانخراطها في الحراك السياسي ومساهمتها في إثراء الحوار الوطني والارتقاء بمستواه.
ولاشكّ أنّ ما يُبتغى إدراكه صحوة فكريّة وثقافيّة، تقطع مع الحالة السائدة وتضمن تواصل رسالة حضاريّة، كانت تونس في طليعة من اضطلع بها في محيطها العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بفضل مدوّنة إصلاحيّة رائدة وضعها أعلام بارزون من أمثال خير الدين باشا وابن أبي الضياف والشيخ محمود قابادو.
وقد شكّلت هذه المدوّنة المنطلق النظري لتيارات أدبيّة وفكريّة وإعلاميّة قاومت في بداية القرن العشرين الاستعمار ودعّمت الحركة الوطنيّة وقضايا الحريّة والتحرّر.
والمؤمّل أن تُرسم سياسات ثقافية وتربوية ناجعة تفضي إلى تجديد الفكر التونسي وإلى تطوير الانتاج الثقافي وتجويده، من خلال التشجيع على الاستثمار في شتّى حقول هذا الإنتاج ودعم كلّ مسعى فردي و جمعياتي جادّ يسهم في دفع حركة الفكر والإبداع، في هذه المرحلة الانتقاليّة التي تحمّل النخب الفكريّة ووسائل الإعلام بوجه خاصّ مسؤولية تشكيل الرأي العام وصياغة الوعي الجماعي، حتّى لا يكون الفاعلون المؤثّرون في الساحة الوطنيّة من خارج الحدود.
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق