تونس والتحولات الجيوسياسية في المحيط العربي
يشهد العالم العربي منذ نهايات القرن الماضي تحولات جيوسياسية متتابعة انطلقت مع الحرب العراقية الإيرانية (حرب الخليج الأولى) ثم الغزو العراقي للكويت وما تبعه من حرب ضد العراق (حرب الخليج الثانية) بتدخل من القوى الدولية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة الأميركية يتواصل حتى اليوم بدون أن يسفر عن حلول لصالح الشعب العراقي وبقية شعوب المنطقة المتعطشة للسلم والأمن والأمان, بل أدت السياسات التي اعتمدت في فترة الحاكم العسكري (بريمر) إلى تأجيج الفتنة بين السنة والشيعة بعد حل الجيش العراقي واجتثاث حزب البعث وإلى تقسيم العراق على أساس الهوية العرقية والإيديولوجية, وازداد الوضع تعقيدا بدخول الجماعات "الإسلامية" المتشددة "الجهادية" على الخط واشتد معها الاقتتال حتى أصبح لا يعرف "من يقاتل من" فسحبت القوى المتدخلة قواتها العسكرية وتركت العراق في حالة فتنة حقيقية احتدمت منذ أكثر من سنة بظهور ما يسمى "بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" ويبدو أن من أكبر مكوناتها القوى الراجعة للنظام العراقي الأسبق وخاصة كوادر وأفراد الجيش العراقي.
في الأثناء وفي إطار ما سمي بثورات الربيع العربي تأججت الفتنة في سوريا وتدخلت التنظيمات "الإسلامية الجهادية" فعقدت الوضع, وجاء تمدد "تنظيم داعش" في سوريا ليزيده تعقيدا, ولم يجد تدخل القوى الغربية في سوريا (كما في العراق) نفعا, ومنذ حوالي خمس سنوات والوضع يراوح مكانه بلا غالب ولا مغلوب والشعب السوري هو الضحية, وأمام عدم الفصل من طرف التحالف الغربي دخل "الدب" الروسي ويدعمه على ما يبدو "الطنين" الصيني على الخط "بطلب" من النظام السوري وتأييد من إيران وتنسيق مع العراق ليخلط الأوراق من جديد فارتبكت القوى الغربية وفوجئت بالتطور السريع للموقف على الأرض بينما بقت البلدان العربية في التسلل أو على التماس, وسوف لن ينفع اعتذار (توني بلير) مؤخرا عن أخطاء حرب 2003 في العراق معترفا بما أسماه "ارتباطا" بين تلك الحرب وظهور تنظيم داعش لأن الضرر أصاب العراق وسوريا والمنطقة بأكملها في العمق.
ويبقى الوضع في سوريا كما في العراق خارجا عن السيطرة ولا يمكن التكهن بما ستؤول إليه الأحداث المتسارعة في المستقبل القريب ولا البعيد ومنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي تعيش من جديد فصلا من فصول الحرب الباردة بين الشرق والغرب نتمنى أن لا يطال الجوار التونسي وبالذات الشقيقة ليبيا التي تعاني هي أيضا من تمدد تداعيات الوضع في العراق وسوريا إلى أراضيها بما أصبح يهدد الوضع الأمني في بلادنا.
وبدون الرجوع إلى كيفية تعاطي الدبلوماسية التونسية في السنوات الماضية مع التطورات المشار إليها لأن المجال لا يسمح بذلك, فالمهم اليوم أن تصحيح المسار الدبلوماسي الذي بدأ منذ سنة 2014 دخل حيز الواقع في خصوص العلاقات مع كل من سوريا ومصر على أساس مبادئ وثوابت الدبلوماسية التونسية.
أما في خصوص التعامل مع جيوسياسية الوضع في ليبيا فلا أحد ينكر خطورة التطورات الجارية على حدود تونس الجنوبية الشرقية حيث لم يتوفق الأشقاء الليبيون إلى وضع حد للفوضى وللفلتان الأمني بعد الإطاحة بالنظام السابق منذ أكثر من أربع سنوات من الصراع على السلطة آل إلى تقسيم البلاد إلى مركزين رئيسيين للحكم الأول في طرابلس والثاني في طبرق إلى جانب انتشار الميليشيات والجماعات المسلحة المتصارعة, ولم تفلح جهود المبعوث الأممي لليبيا في إقناع الفرقاء الليبيين بالتصديق على الاتفاق الذي تم التوقيع عليه مؤخرا بعد مفاوضات الصخيرات بالمغرب الأقصى, ومما زاد في خطورة تداعيات الوضع في ليبيا دخول الجماعات الإسلامية "الجهادية" على الخط للتمركز في بعض المناطق الليبية وممارسة الإرهاب من أجل بسط نفوذها على الأرض والتخطيط للتمدد نحو الغرب في اتجاه تونس وربما الجزائر وحتى المغرب, وتشير آخر الأخبار إلى أن ما أصبح يعرف بتنظيم "الدولة الإسلامية" (في العراق والشام) قد بسط نفوذه على مدينة سرت الليبية ليجعل منها عاصمة إمارته في شمال إفريقيا وينطلق منها لنشر الإرهاب والاقتتال في المنطقة المغاربية ومنها إلى الساحل الإفريقي وربما وسط إفريقيا إذا لم يقع التصدي لها في الإبان وقبل التمدد الفعلي والتمركز.
وبدون الخوض في تفاصيل ما عانته تونس من تداعيات على أمنها من جراء هذا الوضع خلال السنوات الأخيرة بدءا باستقرار بعض الفرق الإرهابية التابعة لمختلف الجماعات الإسلامية المتشددة بجبال الشعانبي ومغيلة وسمامة بالقصرين وبالجبال المجاورة بولايتي الكاف وجندوبة رغم جهود المنظومة الأمنية والعسكرية للتصدي إليها بالتنسيق الاستخباراتي مع الجزائر, وانتهاء إلى عمليتي باردو وسوسة, وما خلفته العمليات الإرهابية من ضحايا وجرحى من التونسيين والأجانب ومن تأثيرات سلبية على الوضع الأمني ومنه على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد بما جعلها تعيش تحت وطأة ما يشبه حرب "استنزاف" مع الجماعات الإرهابية, فالمؤكد اليوم أن الخطر لا يزال قائما ما لم يوضع حد لتمدد التنظيمات الإرهابية وخاصة منها ما يسمى ب"داعش" الذي يبدو أن بعض طلائع ميليشياته قد تكون وصلت إلى ريف مدينة صبراطة على بعد أقل من مائة كيلومتر من الحدود التونسية, ولولا يقظة المؤسسة الأمنية والعسكرية الوطنية التي تتصدى بنجاح إلى محاولات التسلل على امتداد الخط الحدودي لتمكنت قوى الشر والإرهاب من التوغل داخل جزء من التراب الوطني لمحاولة إقامة قاعدة عملياتية محلية لمواصلة التمدد نحو الغرب.
ذلك هو التحدي الأكبر الذي تواجهه تونس في الحاضر وفي المستقبل للتوقي من حرب قد تفرض عليها في قادم الأيام - لا قدر الله - خاصة والقدرات العسكرية لداعش في ليبيا قد تعزز بإمكانات بشرية ولوجستية جديدة قادمة من سوريا والعراق بعد دخول روسيا بقوة في الحرب إلى جانب الجيش السوري وربما الجيش العراقي , ولا ننسى في هذا السياق الخطر الذي يمثله رجوع "الجهاديين التونسيين" من هذين البلدين وانضمامهم لخلايا "نائمة" من الجماعات المتشددة التكفيرية قد تكون موجودة بالبلاد وتتحين الفرص لتنضم لجماعات الإرهاب من داعش وغيرها للنيل من أمن البلاد واستقرارها.
وتبعا لذلك فلا مناص من استنفار كل الإمكانات الوطنية المتاحة وبالتعاون مع الأشقاء والأصدقاء من أجل التفاعل بكل حزم مع هذا التحدي الخطير ومن ذلك تفعيل العمل الدبلوماسي كرافد لتأمين الأمن القومي في مثل هذه الأوضاع في إطار تجسيد نظرية الدفاع الشامل, وقد تكون أولى المبادرات في هذا الشأن بالتنسيق مع الأمم المتحدة لجمع الفرقاء الليبيين حول توافقات الصخيرات أو حول أي مسار آخر مكمل لحثهم على المضي في تكوين حكومة وفاق وطنية واكتمال بناء مؤسسات الدولة الليبية التي ستكون من أولى أولوياتها القضاء على الجماعات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم داعش, ويمكن بلورة مثل هذه المبادرة ضمن "آلية جوار ليبيا" التي تم إرساؤها سنة 2014 برئاسة تونس, وفي كل الأحوال ينبغي أن تكون تونس فاعلة في مجريات هذا الوضع الجيوسياسي والأمر يتعلق بأمنها الاستراتيجي وبتأمين بقاء الدولة المدنية. نسأل الله التوفيق والسداد لما فيه خير البلاد والعباد.
صالح الحامدي
- اكتب تعليق
- تعليق