تونس والتطورات الجيوسياسية

تونس والتطورات الجيوسياسية

على مدى السنوات الأخيرة بعد الثورة انشغلت تونس في معالجة أوضاعها الداخلية لتأمين مرحلة الانتقال الديمقراطي, مع إعطاء الأولوية لإعادة بناء النظام السياسي, وهو خيار سليم, فأحرزت نجاحا على هذا المستوى جعلها محل تقدير لدى المجتمع الدولي الذي أصبح ينوه بالاستثناء التونسي في المنطقة العربية, وجاء التتويج في أسمى معانيه بمنح تونس جائزة نوبل للسلام ممثلة في رباعي المجتمع المدني الراعي للحوار الوطني الذي كرس منهجية التوافق الوطني كأنموذج لمعالجة الأوضاع والإشكالات التي تطرأ بين الفرقاء السياسيين في مختلف المجالات, على أن هذا النجاح السياسي قابله تعثر على المستوى الاقتصادي والاجتماعي بسبب ظروف غير ملائمة على الصعيدين الداخلي والخارجي, بينما يبقي الوضع الأمني هشا تحت ضغط وهرسلة الجماعات الإرهابية رغم اليقظة والجهود الكبيرة التي تبذلها المؤسسة الأمنية بنجاحات نسبية

وبينما تبدو الحكومة راضية عن عملها ومتفائلة بالمستقبل على الرغم من الصعوبات جاءت الأحداث الأخيرة غير مطمئنة (تصريحات اعتبرت خطيرة لشخصية إعلامية بحوزتها معلومات حول اغتيالات سياسية ملفاتها في عهدة القضاء, محاولة اغتيال رجل أعمال وشخصية سياسية بسوسة, تمدد العمليات الإرهابية ضد المدنيين في سفوح الجبال وتواصل سقوط الضحايا في عمليات التمشيط, انتقادات من داخل الائتلاف الحاكم ومن خارجه على حركة في سلك المعتمدين, احتجاجات بصفاقس على خلفية إقالة إمام, صراع معلن على السلطة داخل الحزب "الأغلبي", وزير مستقيل ووزير مقال), ومنذ أسابيع طفت على الساحة من جديد خلافات وتجاذبات سياسية على خلفية ما أعتبر تناقضا بين مسار العدالة الانتقالية ومشروع القانون المتعلق بالمصالحة الاقتصادية والمالية, كل ذلك يحصل في وقت تحتاج فيه البلاد أكثر من أي وقت مضى للم الشمل من أجل التوافق حول المصالحة الوطنية الشاملة لتكريس الوحدة الوطنية حتى نواصل مرحلة إعادة البناء بأقصى ظروف النجاح, ونقوى على مجابهة التحديات المطروحة على المستويات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية داخليا, ونتعاطى بنجاعة مع التحولات الجيوسياسية الجارية في محيطنا الإقليمي والدولي التي تسببت في تداعيات خطيرة على مستوى الوضع الأمني بالبلاد بصورة خاصة فضلا عن التأثيرات السلبية على المسار التنموي. 

ولإن بدت تونس خلال السنوات الماضية غير متابعة كما ينبغي لما يدور في محيطها الجيوسياسي العربي من تطورات خطيرة, من جراء استمرار حالة عدم الاستقرار والفلتان الأمني والاقتتال في ليبيا وسوريا والعراق إلى حد الفتنة, بما أدى إلى تنامي ظاهرة التهريب والجريمة المنظمة على الحدود وما رافقها من تكرر عمليات تسريب الأسلحة وتسلل عناصر الجماعات المتشددة للقيام بعمليات إرهابية في جهات مختلفة من البلاد بلغت أوجها في جبل الشعانبي وفي باردو وسوسة, فهي لم تكن في عزلة عن محيطها المتوسطي والغربي بل كانت محل متابعة و"مراقبة" من طرف المجتمع الدولي الذي لم يتردد في التعبير عن مساندته لمسار الانتقال الديمقراطي وعن استعداده للمساعدة على دعم المنظومة الأمنية وللتعاون من أجل إعادة تنشيط الدورة الاقتصادية في البلاد, وكان ذلك على مستوى العلاقات الثنائية مع العديد من الدول في أوروبا وفي أميركا الشمالية وفي إطار التعاون مع الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية , فضلا عن الدعم المعنوي (لحد الآن) من طرف مجموعة الثمانية الكبار وكذلك تأييد الأمم المتحدة, وجاء حصول تونس على جائزة نوبل للسلام كتتويج لهذا الاعتراف والدعم الدولي لنجاح الشعب التونسي بمختلف مكوناته في تكريس الانتقال الديمقراطي السلمي بعد الثورة وتثبيت الدولة المدنية الحداثية ودينها الإسلام في إطار تجربة فريدة تعتمد الوفاق الوطني كتعبير عن إرادة الشعب كما جاءت من خلال نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية, وكرست التعايش بين الديمقراطية والإسلام في إطار توافق سياسي بين كبار الفرقاء السياسيين نتمنى أن يكون استراتيجيا ولا يندرج في إطار التكتيكات السياسية, وبذلك تبرز تونس الدولة المسلمة الحداثية لتكون بحق محط الأمل في محيطها الجيوسياسي كأنموذج لإنجاز التحولات الديمقراطية بالطرق السلمية يمكن أن يحتذى في العديد من الدول وخاصة العربية منها التي لم تتوفق لحد الآن في الخروج من دوامة العنف والفوضى والفتنة التي عرفتها بعد ثورات "الربيع العربي".

ولا شك في أن حصول تونس على جائزة نوبل للسلام له قيمة رمزية كبيرة ترجمت عن اعتراف دولي بقدرة المجتمع المدني التونسي ممثلا في رباعي الحوار الوطني على إقامة جسور الحوار والتوافق بين الفرقاء السياسيين, والحكمة اليوم تكمن في أن يعتبر هذا التتويج الدولي حافزا للمجتمع التونسي بمختلف أطيافه لمواصلة المشوار والمثابرة على نفس النهج لإزالة أسباب الفرقة من على طريقه وتكريس وحدته الوطنية حتى يواجه بنجاح التحديات المطروحة على المستوى الأمني وعلى الصعيد التنموي, ولعل من أهم المبادرات التي يجب اتخاذها في هذا السياق مأسسة الحوار الوطني حتى يصبح آلية سياسية مستقلة يرجع إليها الفرقاء السياسيون عند الاقتضاء للحوار والتوافق حول الاختلافات الهامة التي تطرأ على الساحة.

ولعل من أهم المبادرات التي يمكن استعجال النظر فيها ضمن رباعي الحوار وحتى قبل مأسسته العمل على بلورة توافق حول المصالحة الوطنية على أساس التوليف بين مسار العدالة الانتقالية ومشروع القانون المتعلق بالمصالحة الاقتصادية والمالية وتوخي مقاربة متكاملة من مسارين متوازيين يعنى الأول بالملفات الاقتصادية والمالية لخصوصيته والثاني بملفات حقوق الإنسان مع الاستئناس ببعض التجارب المقارنة مثل تجربة المغرب الأقصى وتجربة جنوب إفريقيا , وقد يكون ذلك هو الخيار الأوحد لإعادة مناخ الثقة بين الفرقاء الساسيين وبين الأطراف الاقتصادية والاجتماعية لإخراج البلاد من منحى التجاذبات العقيمة الذي يسبب التردد والتباطؤ في عملية بناء المؤسسات الدستورية وفي دفع المسار التنموي وتسريع الإصلاحات الاقتصادية لإرساء المناخ الملائم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة في إطار الخطة الإنمائية القادمة, فضلا عن استيفاء مقومات الدعم الهيكلي واللوجستي للمنظومة الأمنية لتأمين التصدي للإرهاب وللتهريب وللجريمة المنظمة بصورة ناجعة, وكل ذلك من موجبات إعادة تنشيط المسار التنموي على المستوى الداخلي وتكريس وعود الشركاء الاقتصاديين لتونس في الخارج لاستئناف برامج تعاونهم معها, وكل ذلك من مقومات الاستقواء على مجابهة التطورات الجيوسياسية الخطيرة الجارية في محيطنا العربي وفي المنطقة الساحلية, وحتى تكون المصالحة شاملة ولا رجعة فيها لابد أن تكون محل إجماع من طرف مكونات المجتمع الوطني المؤهل لتجسيد الوحدة الوطنية الضامنة للنجاح في بناء الحاضر والمستقبل. 

نسأل الله التوفيق والسداد لما فيه خير البلاد والعباد .

صالح الحامدي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.