شؤون عربية -
2015.09.30
تونس والأفق الإيراني الجديد
لا جدال في أنّ الاتفاق الذي توصّلت إليه إيران حول برنامجها النووي معمجموعة «الخمسة زائد واحد » يوم الثلاثاء 14 جويلية 2015 ، بعد أشهرطويلة من المفاوضات الشاقّة والمعقّدة، ستكون له انعكاسات سياسية واقتصادية وأمنية بالغة الأهمية على الصعيدين الإقليمي والدولي، لا سيّما إذا ما تمت ترجمة محتواه إلى الواقع، والتزمت الأطراف الموقّعة عليه بتنفيذه بحذافيره، دون تعطيل أو مماطلة.
هذا الاتفاق الذي أنهى حسب تعبير ال »واشنطن بوست » حقبة «العداوة العمياء » التي امتدّت بين إيران والغرب منذ سنة 1979 ، والذي أبعد عن المنطقة شبح «صدام » مدمّر كان يخيّم عليها طيلة السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة، من شأنه أن يخلق مناخا جديدا يفترض أن يفضي إلى مقاربة مشاكل المنطقة من منظور وبأسلوب جديدين، وهو
بقدرما يؤكد محورية دور إيران في المنطقة بحكم موقعها الاستراتيجي فيها، فإنه يثبت أن الخلافات معها، مهما كانت درجة استعصائها، يمكن أن تجد طريقها إلى التسوية السلمية عن طربق الحوار البنّاء والتفاوض صادق النية...
وعلى نفس المقدار من الأهمية ستكون انعكاسات الاتفاق على الصعيد الاقتصادي، فاستعادة إيران لقدراتها الإنتاجية والتصديرية من النفط والغاز سيكون لها تأثير مؤكد في السوق العالمية للطاقة والمحروقات، سواء من حيث الأسعار أو من حيث آليات التحكم فيها من خلال منظمة البلدان المصدرة للنفط...
لذلك لم يكن عجيبا أن تهاطلت، بمجرّد التوقيع على الاتفاق، الوفود السياسية والاقتصادية على طهران من كل حدب وصوب، وأن عادت البعثات الدبلوماسية المغلقة في العاصمة الإيرانية إلى فتح أبوابها من جديد، وأن بدأ الاعداد حثيثا لتبادل غير مسبوق للزيارات بين القيادة الايرانية وبين قيادات العديد من الدول بما فيها الدول التي كانت تشترك في معاقبة إيران...
ففي أفق رفع العقوبات الأممية والأمريكية والأوروبية التي كانت مسلطة عليها، ينتظر أن تعرف إيران الدولة ذات الثمانين مليون ساكن، وذات الموارد الطبيعية الهائلة )تتوفر على ما يعادل احتياطيات المملكة العربية السعودية من النفط واحتياطيات روسيا من الغاز الطبيعي واحتياطيات استراليا من المعادن( طفرة تنموية كبرى ستجعل منها سوقا واسعة واعدة لجميع دول العالم وفي مقدّمتها الدول التي كانت تزايد على بعضها البعض في محاصرتها...
ولا شكّ أن الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمّدة في بنوك الغرب والتي يقدرها البعض ب 150 مليار دولار،ستعزز إمكانيات ايران التي تطمح الى تطوير بنيتها التحتية وتحديث مختلف قطاعاتها الاقتصادية مما سيجعل الدول تتنافس على «خطبة » شراكتها الوازنة وفي نفس الوقت القادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية.
على أن العجيب في الأمر هو أن الدول العربية على عكس الدول الغربية التي بدأت تستعد للتعامل مع إيران وفقا لقواعد جديدة، مؤكدة بذلك مقولة إنه لا عداوة ولا صداقة دائمتين بين الدول وإنما هي المصلحة أولا وأخيرا، انقسمت كالعادة على بعضها البعض إذ رأى بعضها في الاتفاق خطرا محدقا، فنظر إليه نظرة خوف وريبة، بينما فضل البعض الآخر الفرجة والانتظار...
وفي الأثناء، وفي مقابل الانكماش والتردّد العربيين، أخذت الدبلوماسية الإيرانية بزمام المبادرة، وهو ما تج لّ في الجولات الإقليمية الثلاث التي قام بها إلى حد الآن وزير الخارجية الإيراني في العديد من الدول العربية والمجاورة بما فيها تونس التي حل بها يوم الاثنين 31 اوت 2015 .
إن هذه الزيارة التي أعتقد أنه سيكون من المفيد أن يردّ عليها وزير الشؤون الخارجية بزيارة إلى طهران في وقت قريب، تؤكد أن الجانب الإيراني يولي اهتماما خاصا لعلاقاته مع بلادنا، ومن المفترض أن نقاسمه نفس الاهتمام، لما في ذلك من منافع لكلا الجانبين.
وفي رأيي فإنّ ما أسميه «الأفق الإيراني الجديد » سيوفّر للتعاون بين تونس وإيران فرصة حقيقية للنمو والتوسّع مستقبلا، سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد
الاقتصادي...
أما على الصعيد السياسي فإن التعاون يمكن أن يتجسّم في تدعيم التشاور والتنسيق بين البلدين بشأن المسائل المتعلقة بمخاطر تفاقم التطرف والطائفية والإرهاب،
وبضرورات تضافر الجهود الإقليمية لتوطيد أركان الأمن والسلم والاستقرار في المنطقة، وذلك بالاعتماد على ما يجمع بين مواقفهما من هذه المسائل من مشتركات تنبني على تقاسم خيار معالجة الأزمات بالحكمة والتعقّل والاعتدال.
وفي هذا الإطار يندرج التوجّه الذي تحدث عنه وزير الشؤون الخارجية في تصريح لقناة «العالم » الإخبارية، حيث أكد أن تونس ترى أن الأزمات القائمة هي بين المتطرفين والمعتدلين وليست صراعا دينيا، وهي ستعمل على إبلاغ وجهة نظرها هذه إلى جميع الأطراف الغربية والأوروبية والعربية، مع التأكيد على أن الاعتدال هو
الذي يقود الى إيجاد حلول سلمية وليس عسكرية للخلافات.
ومن جانبه، اعتبر نظيره الإيراني أن سياسة تونس الخارجية التي تتميز باستقلاليتها واعتدالها توفّر للجميع فرص التعاون والتحاور معها من أجل المساهمة في
حل مشاكل المنطقة.
وأما على الصعيد الاقتصادي، فإن الأمر المؤكد أن تعزيز التعاون التونسي الإيراني وتوسيع نطاقه أمر ممكن، ومفيد، ومثلما قال وزير الشؤون الخارجية الإيراني فإن هذا التعاون يمكن أن يشمل مستقبلا «مجالات الطاقة، والبترول، والكهرباء، والعلوم التقنية، والفسفاط، والزراعة، والنقل، بإقامة خطوط جوية وبحرية بين البلدين .»
وما أريد أن أؤكد عليه في هذا السياق هو أن بلادنا التي استطاعت أن ترسي قواعد تعاون متين مع إيران، زمن حصارها، تستطيع اليوم أن تضاعف من حجم هذا التعاون بعد رفع العقوبات التي كانت تحد من إمكانيات تنويعه وتوسيعه.
وتقليديّا شكلت إيران بالنسبة إلى الفسفاط التونسي سوقا هامة، ينبغي التسريع بالعمل على استعادتها لا سيما بعد أن بدأ هذا القطاع يعود إلى سالف نشاطه، بل إنه سيكون من المهم في نظري أن نفكر جديا في تطوير التعاون والتبادل في هذا المجال الحيوي بإرساء ما قد يكون مناسبا من شراكات استثمارية وإنتاجية وتسويقية بين الجانبين. وعلى صعيد آخر، سيكون من المهم في نظري التركيز في المرحلة القريبة القادمة على مجالي السياحة والنقل...
فمن إيران يسافر سنويا ما يتراوح بين ثمانية وعشرة ملايين إيراني إلى الخارج للسياحة، وقد أمكن، خلال السنوات الماضية، لبعض وكالات الأسفار التونسية بالتعاون مع بعض الوكالات الإيرانية استقطاب بضعة آلاف من السواح الايرانيين إلى تونس رغم جميع الصعوبات التي كانت قائمة بحكم العقوبات المسلطة على ايران.
والآن وفي أفق رفع هذه العقوبات، أعتقد أنه سيكون من المفيد أن نعمل على استقطاب المزيد من السواح الايرانيين علما بأن استقطاب واحد بالمائة فقط منهم، سيعني استقطاب ما بين ثمانين ومائة ألف سائح سنويا... على ان تحقيق مثل هذا الهدف سيبقى رهين الربط جوّيا بين البلدين.
وإلى جانب كل ذلك، ومن منطلق ما عاينته خلال فترة عملي سفيرا لتونس بطهران، أعتقد أن بلادنا تستطيع مستقبلا أن ترسي أشكالا جديدة من التعاون المثمر
مع إيران في عدة مجالات، من بينها خاصة صناعة السيارات والحافلات، وصناعة القاطرات والمقطورات، وصناعة الطائرات الصغيرة، و صناعة محطات توليد الكهرباء، وصناعة الأدوية والمواد الصيدلية... ففي هذه المجالات التي اضطرت إيران، زمن الحصار، إلى تطويرها بالاعتماد على قدراتها الذاتية، استطاعت أن تحقق انجازات جديرة بالتقدير سواء من حيث جودة المنتجات أو من حيث كلفته
محمد ابراهيم الحصايري
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
- اكتب تعليق
- تعليق
أصداء المؤسسات