إدارة التمدّن في ضوء جذوة المقتبس
"ذكر صاحب «جذوة المقتبس » في ترجمة أبي عمر بن سعدي أنه تحدث عند وصوله إلى القيروان من ديار المشرق إلى ابن أبي زيد 1 عمّ شاهده هناك من مجالس أهل الكلام و قال: حضرتُها مرتين، ثم تركتُها ولم أعد إليها. فقيل: ولمَ؟ قال: أما أوّل مجلس حضرته فرأيته مجلسا قد جمع الفِرَق كلها : المسلمين من أهل السنة والبدعة، والكفار من المجوس، والدهرية، والزنادقة، واليهود، والنصارى، وسائر أجناس الكفر، ولكل فرقة رئيس يتكلم على مذهبه، ويجادل عنه. فإذا غصّ المجلس بأهله، ورأوا أنه لم يبق لهم أحد ينتظرونه، قال قائل من الكفار : قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتجَّ علينا المسلمون بكتابهم، ولا بقول نبيّهم فإنّا لا نصدّق بذلك ولا نُقرّ به، وإنما نتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النظر والقياس، فيقولون : نعم، لك ذلك. قال أبو عمر: فلما سمعتُ ذلك لم أعد إلى ذلك المجلس، ثم قيل لي : ثَم مجلس آخر للكلام، فذهبت إليه، فوجدتهم مثل سيرة أصحابهم سواء، فقطعت مجالس أهل الكلام، فلم أعد إليها."
فقيل لأبي عمر: ورضيَ المسلمون بهذا من الفعل والقول؟ قال: هذا الذي شاهدتُه منهم.
فقال ابن أبي زيد: ذهب العلماء، وذهبت حُرمة الإسلام وحقوقه، وكيف يُبيح المسلمون المناظرة بين المسلمين والكفار؟
وهذا لا يجوز أن يُفعل لأهل البدع الذين هم مسلمون ويقرّون بالإسلام، وبمحمد عليه السلام، أما الكفار فإنما يُدْعون إلى الإسلام، فإن قبلوا كفّ عنهم، وإن أبوا وبذلوا الجزية في موضع يجوز قبولها كف عنهم، وقُبل منهم؛ وأما أن يناظروا على أن لا يُحتج عليهم بكتابنا، ولا بنبيّنا، فهذا لا يجوز، فإنّا للّه وإنّا إليه لراجعون. 2
إذا اعتمدنا رواية صاحب "جذوة المقتبس" و أقررنا بأن هذا كان شأن النخبة العالمة من أهل إفريقية في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي وكان هذا شأن واقع الاختلاف بين علماء بلاد المشرق.
فإن السؤال الذي يتبادر هو: فيمَ استطاعت نخبنا و علماؤنا، اليوم، مغربا و مشرقا، أن تؤثر في طبيعة بنية ذلك الواقع الثقافي والفكري الذي ميّز القرون السالفة؟
واقع الحال، مغربا و مشرقا، يثير قلقا حقيقيا في ما انتهينا إليه هنا وهناك في خصوص موضوع الاختلاف وكيفية قبول التعدد الفكري و المذهبي و الديني و في القدرة على تمثله وإدارته و حسن تفعيله.
ما أتاح "الربيع العربي" كشفَه في أجزاء من بلاد المغارب من تعثر بين أكّده ما يجري حاليا هنا و هناك في بلاد المشرق من تدمير وهمجية باسم الإسلام فكان في جوهره تعرية فاضحة لعقم ثقافي وفكري وتصحّر ديني وسياسي.
اللافت للنظر في هذه المفارقة أن هذا "التمركز المرَضي على الذات" نجده قد استشرى وأضحى مُخترِقا لعموم الفضاء العربي-الإسلامي الذي كان طوال التاريخ القديم و الوسيط موطنا للنبوءات و التعدد والتثاقف أي عنصرا حافزا على التمدّن والارتقاء. ما يُفزع اليوم، بعد أن تأججتْ الخطابات التعبوية المنغلقة التي لا تُعنَى إلاّ بترسيخ الاعتقاد لدى المناصرين والأتباع بامتلاك البديل الجاهز والعمل على فرضه هو اختفاء شبه كامل لطبيعة الشرق الحيّ التي ورد ذكرها في "جذوة المقتبس" التي تنتظمها روح "إدارة التمدّن" لتستفحل مكانها مهالك إدارة التوحش.
الإشكال الحقيقي أن "سياسات التمركز والتفرّد" في البلاد العربية الحديثة والمعاصرة قد تعيّنت في ثقافة المُنْبَتِّ التي لم تعمل، خاصة في مرحلة العولمة، وفي ما تلاها من المسيرات الثورية الناشئة في البلاد العربية، على توفير الشروط الأفضل للتحرر المسؤول من أجل الانعتاق من تبعية الذهن الوثوقي والاستلاب التصحيري.
من هنا تتبين الحاجة المتأكدة إلى ثقافة تواجه حالة "التصحّر الذاتي" تلك التي يسميها برهان غليون التخفيض الثقافي الذي تفاقمت آثاره السلبية نتيجة عولمة تسعى لمركزة العالم حول قطب واحد وبما تعمل على إحداثه من تمايز ثقافي تتكوّن من جرائه شبكات للتضامن والاندماج في ثقافة النخبة العالمية على اتساع الأرض. هو تمايز يُفقر ويُعَرّي الثقافات الوطنية بما يفضي إلى انهيارها نتيجة إفراغها من كل طاقات الفاعلية و التجدد و النجاعة العلمية و الاجتماعية والسياسية. 3لا مناص إزاء هذا الإخفاق التاريخي من العمل على استعادة فاعليةَ الذات الثقافية- المجتمعية برِهانٍ مدنيٍّ ثلاثي الأبعاد: بعدٌ قيمي فيه تركيز لتربية جديدة قائمة على قيم الإنصات والتعدد والتفوّق في المستويين الوطني والإنساني، وبُعدٌ منهجي يتجاوز الخطاب الوثوقي الاستقطابي الذي يُستشفّ من كلام ابن أبي زيد في "جذوة المقتبس" ذلك أننا لن ننال احترام العالَم و تقديره إلا إذا كانت نظرتنا لذواتنا مغايرة وبانية وإليه أشد تمثُّلاً واتساعا.
يتحدد البعد الثالث، أخيرا، في الرهان المجتمعي- الثقافي بقدرة النخب الصاعدة على صناعة رأي عام متضامن و متيح لتعاقد جديد واندماج وطني معاصر واعٍ بخصوصياته ومجددٍ لها وهو ما لا يتأتَّ إلا بالارتقاء بالثقافات الوطنية لتفعّل في حقول العلم و الفكر والإبداع.
1 * هو ابن أبي زيد المعروف بالقيرواني (310 – 386 / 922 - 992 م) من أعلام المذهب المالكي و مصنّف كتاب النوادر و الزيادات و الرسالة و مختصر المدونة لسحنون بن سعيد
2 * الحميدي : جذوة المقتبس في علماء الأندلس. تحقيق : إبراهيم الأبياري. دار الكتب الإسلامية/ دار الكتاب المصري/ دار الكتاب اللبناني. القاهرة/بيروت. الطبعة الثانية 1983 . الجزء الأول. ص 175 176 ) بتصرف )
3 * راجع حوارية برهان غليون و سمير أمين: ثقافة العولمة و عولمة الثقافة، دار الفكر دمشق 2002
د.احميده النيفر
- اكتب تعليق
- تعليق