التونسيّون ودستورهم: جدليّة التملّك والاغتراب

التونسيّون ودستورهم: جدليّة  التملّك والاغتراب

بقلم نضال المكّي. كلّية الحقوق، جامعة لافال، كندا -  للدستورانيّة (le constitutionnalisme) في تونس جذور عريقة تعود إلى عهد الأمان (1857) وأوّل دستور لتونس (1861) وهو كذلك الأوّل في العالم العربيّ. ولئن عطّل الاستعمار الفرنسي (1881- 1956) لتونس تطوّر الدستورانيّة فكرا وممارسة خاصّة في نهاية القرن التاسع عشر، فإنّ فكرة الدستورانيّة عادت بقوّة منذ عشرينيّات القرن العشرين حيث شكّل مطلب دستور لتونس أحد أهمّ مطالب الحركة الوطنيّة حتّى أنّ الحزب الذي كان نواة هذه الحركة حمل اسم "الحزب الحرّ الدستوري الجديد".

وقد اختارت تونس انتخاب مجلس قومي تأسيسيّ لإعداد أوّل دستور للدولة المستقلّة. وشكّلت النقاشات والسجالات داخله فرصة لبلورة فكرة الدستور وفلسفته وإن ظلّت منحصرة لدى النخب المثقّفة من المجتمع. ولكن مع انحراف النظام نحو التسلّط وبلوغ أقصى درجات الدكتاتوريّة إبّان حكم زين العابدين بن علي تراجعت الدستورانيّة التونسيّة وبقيت شكلا دون مضمون. وليس أدلّ على ذلك من التنقيحات العديدة التي أدخلت على دستور 1959 زمن بن علي والتي كان هدفها الوحيد إضفاء شرعيّة دستوريّة شكليّة على التلاعب بالدستور وروحه من أجل تكريس نظام ديكتاتوري يجمّع كلّ السلط بيد شخص واحد.  وقد أدّى هذا الامتهان للدستور إلى إعراض النخب من سياسيّين وجامعيّين عنه واعتباره مجرّد أداة لدى الحزب الحاكم وزعيمه لبسط الهيمنة على الدولة والشعب. كما فقد الدستور كلّ صدى لدى عموم الناس بل وأصبح رمز الديكتاتوريّة بامتياز. بحيث أصبح المجتمع في حالة اغتراب (Aliénation) تامّ إزاء دستوره الذي أصبح دستور بن على وحزبه لا دستور الدولة التونسيّة وشعبها.

إلى أن حدثت الثورة.

دستور 2014: من التملّك إلى الاغتراب الثاني

تختلف ثورات الشعوب قليلا أو كثيرا بحسب سياقاتها التاريخيّة والاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة وقد يؤدّي بعضها إلى إرساء أنظمة تسعى لتحرير الإنسان الفرد وتحقيق المساواة في حين تؤدّي ثورات أخرى إلى تكريس فكر يقمع الإنسان ويلغي الحرّية الفرديّة ويكرّس التمييز. غير أنّ الثورات في الغالب تحدث في بداياتها أثرا انبعاثيّا (un effet régénérateur) يجعل أفراد المجتمع يشتركون في حيّز زمنيّ معيّن في الشعور بأنّهم يعيشون لحظة فارقة في تاريخ أمّتهم وأنّهم سيكتبون معا صفحة جديدة في تاريخ شعبهم. وهو شعور يغذّي الحماسة العامّة لدى الناس ويجعل جزءا كبيرا من طاقتهم الفاعلة تنصبّ على هدف أو مثال (idéal) مشترك. وهذا ما حدث إبّان سقوط نظام بن علي مطلع سنة 2011. فلقد عمّ لدى التونسيّين شعور بأنّهم استرجعوا بلدهم واستعادوا السيادة الشعبيّة التي صادرها النظام على مدى عقود طويلة. وكانت أولى نتائج هذا الانبعاث إصرار قطاعات مهمّة من النخب والجماهير على  القطع التامّ مع دستور 1959 وإعداد دستور جديد إيذانا بولادة جمهوريّة جديدة حقيقيّة.

المسار التأسيسيّ وتملّك الدستور

للمرّة الثانية في تاريخها الحديث تختار تونس سنة 2011 مجلسا وطنيّا تأسيسيّا ليضع دستورا جديدا للبلاد. وقد كانت يقظة المجتمع المدني ووعيه بأنّ القطع الجذري مع الإرث الاستبدادي وخطر العودة للديكتاتوريّة لا يتمّ فقط ب"إنتاج" نصّ دستوريّ ديمقراطيّ وإنّما أيضا وخاصّة بإعداد هذا النصّ بطريقة تشاركيّة تسمح بحوار موسّع حول الدستور ومختلف المسائل التي يتطرّق إليها كالفصل بين السلط والحقوق الأساسيّة واللامركزيّة والهيآت الدستوريّة المستقلّة والقضاء المستقلّ وخاصّة المحكمة الدستوريّة.

وهكذا ذهبت تونس في خيار المقاربة التشاركيّة في إعداد الدستور وقد حظيت تونس بمرافقة دوليّة على قدر كبير من الأهميّة لإنجاح هذا الخيار سواء من قبل منظّمات دوليّة (الأمم المتّحدة، لجنة البندقيّة Commission de Venise التابعة لمجلس أوروبا Le Conseil de l’Europe ، منظّمة المعهد الدولي للديمقراطيّة والمساعدة الانتخابية International IDEA) أو منظّمات غير حكوميّة أجنبيّة عديدة. ورغم التحفّظات القليلة نسبيّا بشأن مدى نجاح هذا التمشّي فإنّه يمكن القول أنّ الوظيفة البيداغوجيّة التي حقّقها لا يمكن بحال نفيها. ويمكننا أن نؤكّد أنّه بشكل عامّ تملّك التونسيّون دستور 2014 واعتبروه دستورا يحظى بقدر كبير من المشروعيّة لأنّهم إمّا ساهموا في إعداده وخاصّة في النقاش حوله إمّا مباشرة أو بشكل غير مباشر أو لأنّ هواجسهم ومطالبهم وقع التطرّق إليها ونقاشها أثناء المسار التأسيسيّ وفي عديد الحالات تكريس هذه المطالب في الدستور. وطبعا لا توجد تجربة في العالم حصل فيها تملّك شامل وكامل لدستور من قبل كلّ أفراد الشعب فهذا غير ممكن وليس ضروريّا أصلا. فالمهمّ والضروريّ هو أن يتحقّق التملّك لدى قطاعات واسعة من الشعب بحيث يكون الدستور مقبولا عموما من الشعب ويكتسي لا فقط شرعيّة بالمعنى القانونيّ بل مشروعيّة سياسيّة وهو ما يمكن أن نعبّر عنه بعبارة قد لا تكون علميّة ولكنّها تشير إلى ما نعنيه ألا وهي شعور عموم الناس بأن تلك الوثيقة هي دستورهم وأنّها العقد الذي أبرموه مع من سيتولّى السلطة.

ويتجلّى تملّك التونسيّين عموما لدستور 2014 في عدّة مظاهر من بينها الاهتمام الكبير الذي حظي به في الدوائر العلميّة والسياسيّة. فحرّرت المقالات وانعقدت المؤتمرات والورشات وقدّمت المحاضرات حوله في الجامعات ومراكز الدراسات. كما واصل الأكاديميّون الحوار الذي بدؤوه مع مكوّنات المجتمع المدنيّ أثناء المسار التأسيسيّ لشرح فصول الدستور وفلسفته وأيضا لبيان نقائصه وهناته.  كما لعب الإعلام دورا هامّا في هذا الدرس الجماعي حول الدستور ومكّن من جعل مفهوم الدستور وعلويّته يدخل معجم التونسيّين اليومي. وهذا في النهاية هو أهمّ اختبار يمكن من خلاله أن نقيس مدى تملّك شعب لدستوره. وسواء عظّم عموم التونسيّين من شأن دستور 2014 (في مرحلة أولى خاصّة) أو قلّلوا منه، وسواء أشادوا به ك"أفضل دساتير العالم" أو تفنّنوا في تعداد مثالبه وهناته فقد دخل الدستور البيوت والمقاهي وسائر "الأماكن الصاخبة" وصار مرجعا حاضرا في غالب الأوقات سواء للحسم في ما استعصى من نقاشات سياسيّة وفكريّة أو للمطالبة بحقّ وحتّى للتندّر في بعض الأحيان. ويمكن القول أنّ الخيار التشاركيّ مكّن عموما من تحقيق ثقافة قانونيّة ودستوريّة أرفع للتونسيّين من تلك التي كانت لهم زمن الديكتاتوريّة.

غير أنّه وبمرور الأشهر ثمّ السنوات على دخول دستور 2014 حيّز التنفيذ فتر الحماس الذي خلقه في النفوس وأدّى العقم السياسيّ للطبقة الحاكمة وفشلها التامّ على المستوى الاقتصادي إلى خفوت بريق الدستور وإلى حصول اغتراب المواطنين إزاءه مرّة أخرى.

"السبع العجاف" والدستور: من الاغتراب إلى السقوط

لا يختلف اثنان حول كون السنوات السبع التي تلت دخول دستور سنة 2014 حيّز التنفيذ "سنوات عجاف" على جميع المستويات. فلا جميع فصول الدستور وقع إعمالها ولا المؤسّسات السياسيّة عرفت استقرارا ونجاعة ولا عجلة الاقتصاد عادت للدوران. وثمّة شبه إجماع أنّ رئيس الجمهوريّة حين برّر قرارات 25 جويلية 2021 بوجود خطر داهم على الدولة لم يكن بصدد المبالغة أو التهويل. ولم يكن رئيس الجمهوريّة ليقوم بتفعيل الفصل 80 من الدستور المنظّم لحالة الاستثناء لولا وجود مؤشّرات حقيقيّة وخطيرة تهدّد السلم الاجتماعية. ولو تركنا جانبا مسألة دستوريّة الإجراءات التي اتّخذها فإنّنا نلاحظ أنّه على المستوى السياسيّ لم يعترض ولم يمتعض من قرارات 25 جويلية إلاّ الأحزاب التي كانت في منظومة الحكم قبل 25 جويلية 2021 ومن يدور في فلكها من زبائن سياسيّين تكوّنوا على مراحل وبدرجات مختلفة منذ 2012.

كيف يمكننا أن نفهم هذه السرعة بل والسهولة التي أفل بها نجم دستور 2014 الذي كان بعضهم قد نعته في لحظة انتشاء ب"أفضل دستور في العالم"؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة وإن كانت تتطلّب من جانب المدافعين عن منظومة 2014- 2021 قدرا من النزاهة والصدق والشجاعة. لقد تلقّى دستور 2014 ضربة قويّة يوم 25 جويلية 2021 تلتها ضربة أشدّ قوّة وأثرا بفعل الأمر الرئاسي المؤرّخ في 22 سبتمبر 2021 الذي علّق بوضوح العمل بالبابين الثالث والرابع المتعلّقين تباعا بالسلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة ليكون يوم 13 ديسمبر 2021 ربّما التاريخ الذي أعلنت فيه نهاية هذا الدستور وسقوطه. سرعة كبيرة تهاوى بها إذن هذا الدستور (سبع سنوات فقط منذ انطلاق العمل به) والمثير أكثر للانتباه هو غياب أيّ مظهر جدّي من مظاهر الاعتراض على عمليّة "إعدامه" التي تمّت على المراحل التي ذكرناها سوى عدد من المظاهرات التي نظّمتها حركة النهضة وكان واضحا عجزها عن تحريك الجماهير العريضة وكيف كان يمكن لها ذلك وقد رأينا الجحافل في عديد المدن تحتفل عندما اتّخذ رئيس الجمهورية قرارات 25 جولية.

إنّ هذه اللامبالاة الشعبيّة، حتّى لا نقول الأجواء الاحتفالية، التي رافقت عموما نهاية دستور 2014 تعود أساسا لممارسات الفاعلين السياسيّين وتحديدا الأحزاب التي حكمت أو شاركت في الحكم بين 2014  2021. وليس من المفيد ولا الممكن هنا أن نعود على وصف دقيق ومطوّل  لهذه الممارسة فقد كتب فقهاء القانون الدستوريّ التونسيّون كثيرا حول هذه المسألة وسنكتفي باستنتاج واحد ولكنّه في غاية الأهمّية ألا وهو أنّ الدستور لم يعد  يعني شيئا لعموم التونسيّين (ولا نتحدّث عن القانونيّين ومحترفي السياسة) وهذا لا يعود لعيوب في ذاته (وهي عديدة) ولكن لأنّ الرأي العامّ أصبح يماهي بين الطبقة الحاكمة الفاشلة وعديمة الكفاءة والمتحالفة جهارا مع جهات فاسدة والدستور. وقد ساد شعور حتّى لدى قطاعات واسعة من القانونيّين بأنّ الدستور الذي يفترض أن يكون أداة لتحقيق الحرّية استحال أداة لاحتجاز الشعب كرهينة باسم الشرعيّة الدستوريّة والقانونيّة التي يمثّلها البرلمان والحكومة التي تدعمها أغلبيّة فيه. والحال أنّ المشروعيّة الشعبيّة الحقيقيّة والتي عبّر عنها الشارع في عديد المناسبات في واد آخر تماما في ظلّ رفض الحكومة لتلقّي إشارات الشارع وتحليلها وفهمها في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة وهو درس عابر للحكومات والأغلبيّات وعلى السلطة الحاليّة أيضا أن تضعه نصب عينيها ولا يغرّنّها أنّ الحراك الشعبيّ هو الذي هلّل لقراراتها ودعمها في مرحلة أولى.

إنّ ما يهمّنا إذن هو التأكيد على هذه القطيعة والاغتراب الذين حصلا بين الشعب ودستوره حتّى صار التونسيّون رهائن باسم الدستور (Otages au nom de la Constitution). فلمّا سقط الدستور هلّل بعضهم وواصل البعض الآخر سبيله كأنّ شيئا لم يكن. وهذا الاغتراب لم يحصل طبعا يوم 25 جويلية أو قبله بأسابيع بل بدأ الأمر بالتراكم منذ الأشهر الأولى لتطبيق الدستور. ولم تكن الطبقة السياسيّة التي حسبت أنّها حصلت على صكّ على بياض تعي هذا الأمر أو ربّما لم تكن تريد أن تعيه وتجد له الحلول. ومن حيل التاريخ أنّ نفس الذين كانوا يردّدون بأنّ دستور 1959 لا صدى له في قلوب التونسيّين أيّام الديكتاتوريّة لأنّه دستور الغرف المظلمة وخدمة النظام لم ينتبهوا أنّ ممارستهم للسلطة تسير في نفس الاتّجاه وتجعل الشعب غريبا عن دستوره وتخلق شعورا لدى الكثيرين بأنّ الدستور نقمة على شعبه. ولعلّ العجز عن قراءة التاريخ واستخلاص العبر والدروس منه من مميّزات الحركات التي تعتقد أنّ المجتمعات الإنسانيّة تخضع لقوانين ماورائيّة وسحريّة عجائبيّة لا علاقة لها بالعلوم الاجتماعية والإنسانيّة.

والآن ما العمل؟

أعلن رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد يوم 13 ديسمبر 2021 عن تنظيم استشارة شعبيّة تتمخّض عنها مشاريع إصلاحات دستوريّة وتشريعيّة (أساسا القانون الانتخابي) وستقوم لجنة بتجميع المقترحات وصياغتها لتعرض على استفتاء شعبيّ يوم 25 جويلية 2022 قبل المرور إلى انتخابات تشريعيّة يوم 17 ديسمبر 2022. سنترك جانبا مسألة فرضيّة رفض التنقيحات في الاستفتاء وهي فرضيّة تطرح إشكاليّات قانونيّة وسياسيّة جمّة وتفتح على مسارات لا نتمنّى أن نجد أنفسنا أمامها.

سنركّز في هذا المقال على المسار الذي انتهجه الرئيس لنبدي بعض الملاحظات حوله ولنقدّم  بعض التوصيات.

لو عدنا إلى الأمر الرئاسي المؤرّخ في 22 سبتمبر 2021 لوجدنا أنّه يتحدّث عن إقامة نظام ديمقراطيّ حقيقي (الفصل 22 فقرة 2 من الأمر الرئاسي) وفي هذا إشارة إلى ما يعتبره الرئيس ديمقراطيّة شكليّة زائفة ومفرغة من كلّ محتوى حقيقيّ في منظومة 2014- 2021. وقد لا نختلف معه كثيرا في هذا التقييم على المستوى السياسيّ ولكن يهمّنا أن نتساءل عمّا يقترحه الرئيس لتحقيق الديمقراطيّة الحقيقيّة.

في غياب وثيقة مفصّلة ننطلق منها لاستجلاء معالم برنامج الرئيس السياسيّ في هذا الشأن يمكن اعتمادا على عديد التصريحات التي أدلى بها في حوارات صحفيّة أو خلال الندوات التي شارك فيها أن نشير إلى فكرة البناء القاعدي التي يتبنّاها ويتقاسمها مع عدد من المحيطين به. والفكرة الأساسيّة في هذا التصوّر هي أن تنبع السلطة من القاعدة الشعبيّة وأن يتمكّن المواطنون دائما من مراقبة المسؤولين المنتخبين وخاصّة محاسبتهم أوّلا وأساسا عبر الإعفاء وهي فكرة ما فتئت تسحره منذ أن كان يلقي درس القانون الدستوري في المدرج رقم 14 بكلّية العلوم القانونيّة والسياسيّة والاجتماعية بتونس حيث كان دائما يعطي مثال إجراء الإعفاء Recall المعمول به إلى اليوم في ولاية كالفورنيا الأمريكيّة.

قد تكون هذه الفكرة إحدى وسائل تحقيق الديمقراطيّة الحقيقيّة وتقنية من تقنياتها ولكنّها لا ينبغي أن تتحوّل في ذهن الرئيس إلى عصا سحريّة ستحلّ كلّ المشاكل وستنهي الفساد والزبائنيّة السياسيّة والمحسوبيّة وشراء الأصوات وغيرها من علل المجتمع بجرّة قلم. وجميعها إشكالات ستطرح أيضا في الجوانب المتعلّقة بانتخاب الممثّلين في مختلف المجالس التي يحتوي عليها تصوّر النظام القاعدي. فالنظريّة شيء والمجتمع وحقيقته وحياته وتعقيداته ومفاجآته شيء آخر تماما.

ولهذا من المهمّ التعرّض لخيارات الرئيس بشيء من التفصيل. ويمكن أن نتساءل ما إذا كانت الاستشارة الشعبيّة (تنطلق مطلع جانفي 2022) التي أعلن عنها مدخلا وإطارا مناسبا لتحقيق الديمقراطيّة الحقيقيّة؟

علينا أوّلا أن لا نرفض فكرة الاستشارة الشعبيّة الإلكترونيّة بشكل مبدئيّ. ونذكّر هنا بأنّه في إطار المسار التأسيسيّ لدستور 2014 أحدث المجلس الوطنيّ التأسيسيّ منصّة على موقعه على الإنترنات لتلقّي الاقتراحات حول الدستور. كما أنّ دولا عديدة اعتمدت هذه الطريقة من بين طرق أخرى وعلى رأسها دولة جنوب إفريقيا التي أصبح دستورها مرجعا في الدساتير التي اعتمدت مقاربة تشاركيّة. كما أنّ مبادرة الرئيس تتضمّن استشارات مباشرة في المعتمديّات وكذلك خارج البلاد حسب ما يفهم من تصريحه وهو ما يذكّر بالحوارات التي نظّمها المجلس الوطنيّ التأسيسيّ حول الدستور في مختلف الولايات ومع الجالية التونسيّة بالخارج.

يبقى أنّ الحيّز الزمنيّ الذي حدّده الرئيس (انتهاء الاستشارات داخل البلاد وخارجها يوم 20 مارس 2022) يعتبر قصيرا مقارنة بالزمن الذي استغرقه المجلس الوطنيّ التأسيسيّ في إعداد الدستور (سنتان). ولئن أمكن تفسير طول مدّة عمل المجلس التأسيسيّ باعتبارات أخرى غير المقاربة التشاركيّة فإنّ هذه الأخيرة لم تكن لتنجح لو خصّص لها المجلس شهرين أو ثلاثة فقط. وبالتالي فالمدّة الزمنيّة التي اقترحها الرئيس يمكن أن نعتبرها قصيرة نسبيّا إلاّ إذا اعتبرنا أنّنا هذه المرّة لا ننطلق من لا شيء وإنّما نراكم على النقاشات التي حصلت بين 2012 و2014 وخاصّة نستفيد ونعتبر من تجربة 2014- 2021 الدستوريّة والسياسيّة لنتخلّى عن الخيارات التي أثبتت فشلها. ولهذه الأسباب فإنّنا نرى شيئا من التناقض عندما نجد أصواتا تقول بأنّ الرئيس "مدّد" فترة انفراده بالحكم وفي نفس الوقت تنتقد قصر الوقت المخصّص للاستشارة الشعبيّة. ولو تمعّنا في الآجال المقترحة لتنظيم الاستشارات ثم صياغة التنقيحات أو الإصلاحات ثمّ الفترة الضروريّة لتقديم أسئلة الاستفتاء وشرحها للمواطنين ثمّ إجراء الاستفتاء في حدّ ذاته قبل الإعداد للانتخابات التشريعيّة لوجدنا أنّه حسابيّا لا يوجد هامش كبير إن وجد أصلا.

إنّ الإشكال الحقيقيّ ليس في المدّة الزمنيّة المخصّصة للاستشارة الشعبيّة فقد رأينا أنّنا لا ننطلق من العدم هذه المرّة كما أنّنا لسنا أمام مجلس تأسيسيّ فهم مهمّته بشكل موسّع وكبّلته الصراعات السياسيّة. وهذا يعني أنّه بين غرّة جانفي  و20 مارس 2022 يمكننا نظريّا أن ننظّم استشارة حقيقيّة حول تجربة دستور 2014 ومكامن ضعفها وأيّ دستور منقّح أو جديد نريد. إنّ السؤال الحقيقيّ هو مدى استجابة المواطنين لهذه المبادرة ومدى تفاعل الأحزاب السياسيّة معها بشكل إيجابيّ وبنّاء ونيّة الرئيس ومحيطه في تشريك جميع القوى الحيّة في البلاد (ويبدو من خلال تصريحات الرئيس أنّه يرفض بشكل مبدئيّ الحوار مع جهات معيّنة). فاستشارة شعبيّة دون مشاركة كثيفة (وهو أمر ممكن من خلال المنصّات الإلكترونيّة) من مكوّنات المجتمع المدني والمواطنين وفي ظلّ مناخ من عدم الثقة بين الرئيس وبعض الأحزاب وبين الأحزاب في حدّ ذاتها ستكون صوريّة ولن تخلق الشعور بالتملّك الذي هو أمر أساسيّ لتحقيق قبول اجتماعي عامّ بالإصلاحات. وما يمكن أن نوصي به في هذا السياق هو أن يقع تبنّي تصوّر موسّع للاستشارة الشعبيّة عبر فتح باب المشاركة للجميع سواء كانوا مواطنين أفرادا (وهو في اعتقادنا التمشّي الذي يفضّله الرئيس الذي ينبذ الأحزاب و"الهيئات الوسطيّة" Les corps intermédiaires إذ يعتبرها تصادر سيادة الشعب عوض أن تعبّر عنها وتمثّلها بصدق ) أو جمعيّات أو أحزابا.

كما نوصي بشكل خاصّ بفتح الحوار للمجتمع المدنيّ العلميّ والمتكوّن أساسا وفي ما يهمّنا هنا من الجمعيّات المهتمّة بموادّ القانون وتحديدا تلك المهتمّة بالقانون الدستوريّ ونخصّ بالذكر الجمعيّة التونسيّة للقانون الدستوري التي لعبت دورا بارزا أثناء المسار التأسيسيّ لدستور 2014 حال دون تكريس فصول غريبة تماما عن روح الدستورانيّة وعن فلسفة حقوق الإنسان الكونيّة.

كما لا ينبغي تجاهل ما يمكن أن يقدّمه المجتمع الدوليّ من دعم لوجستيّ ومرافقة قانونيّة ودستوريّة لهذه الاستشارة وهو أمر لم نر إشارات في اتّجاهه في خطابات رئيس الجمهوريّة إلى حدّ الآن على الأقلّ. ولذلك ندعو رئيس الجمهوريّة إلى الانفتاح على المرافقة الدوليّة المحايدة والتقنيّة إذ سنغنم منها لا فقط دعما لوجستيّا مادّيّا للاستشارة الشعبيّة بل كذلك مشورة قانونيّة ودستوريّة تثري النقاش وتنيره.

أمّا على مستوى محتوى الإصلاحات الدستوريّة فمن المهمّ أن يكون دستور 2014 حدّا أدنى ننطلق منه لتدعيم منظومة الحقوق والحرّيات لا النكوص والتراجع عنها. ولدينا اليوم فرصة لتلافي الفشل الذي وقع إبّان المسار التأسيسيّ لدستور 2014 حيث ظلّت مرجعيّة القانون الدوليّ لحقوق الإنسان باهتة في دستور 2014 في ضوء التركيز على الخصوصيّة الثقافيّة والتي غالبا ما تهدف فقط للتفصّي من الالتزامات الدوليّة لحقوق الإنسان وتكون بوّابة لتسلّل فكر رجعيّ مناوئ لقيم الدستورانيّة والحداثة وحقوق الإنسان في الفضاء العامّ ومنه إلى التشريعات.

كما لدينا أيضا فرصة تاريخيّة لدعم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدستور. ونذكّر في هذا السياق بمشروع الدستور الذي كان العميد الصادق بلعيد قدّمه كمقترح للمجلس الوطنيّ التأسيسيّ غير أنّ هذا الأخير لم يستفد منه كما ينبغي لتكريس منظومة متكاملة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحمايتها. وإذا كان أمر 22 سبتمبر يسعى فعلا لإحلال نظام ديمقراطي حقيقيّ فإنّ تكريس مزيد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وخاصّة إرفاقها بضمانات حقيقيّة لوضعها موضع التنفيذ وتمكين المواطنين من المطالبة بها أمام القضاء أنجع وسيلة لإحلال هذه الديمقراطيّة الحقيقيّة.

كما أنّ قضاءا دستوريّا مستقلاّ وضامنا للحقوق الاقتصادية والاجتماعية هو الضمانة الأفضل لتملّك الناس للدستور ولعدم اعتباره مجرّد خطاب لا أثر له في واقعهم اليوميّ كما كان الشأن مع دستور 2014 وهو ما أدّى إلى القطيعة بين الشعب والدستور وحدوث الاغتراب الذي أبرزناه سالفا.
إنّ معاينة الساحة السياسيّة اليوم تشير إلى أنّه ورغم وجود بعض المعارضة لقرارات الرئيس وتمشّيه فإنّ الأمور ستسير نحو القبول بها والاحتكام النهائيّ إلى الشعب صاحب السيادة الأوّل والأخير.

ولهذا علينا جميعا أن نركّز على جعل الاستشارة تكتسي طابعا حقيقيّا وتحويلها إلى حوار جدّي ومعمّق وبنّاء حول الإصلاحات التي ينبغي إدخالها على دستور 2014 ولم لا دستور جديد تماما. حوار مفتوح يكون حوارا وطنيّا شاملا حتّى نضمن أكبر قدر من التملّك للدستور. ورئيس الجمهوريّة تقع على عاتقه مسؤوليّة تاريخيّة في هذا الصدد لا ريب أنّه يدرك مداها وأبعادها. وعلينا أن نذكّر بأنّ الاستفتاء إذا نجح فإنّه مؤشّر على درجة عالية من التملّك للدستور أو التنقيحات وليس دليلا على تملّك مطلق لهما لا فقط لأنّ نتيجة الاستفتاء هي حاصل من أدلوا فعلا بأصواتهم دون الممتنعين والمقاطعين أو الساهين لانشغالهم بتحصيل خبزهم اليوميّ (وما أكثرهم في تونس !) بل لأنّ عدد الأسئلة وصياغتها والترابط بينها قد لا يسمح بفهم الرهانات وأبعادها. كما علينا جميعا أن نضع نصب أعيننا التجربة السابقة لدستور 2014 والتي تبيّن أّنّه من المستحيل تحقيق تملّك تامّ من قبل عموم الشعب للدستور ولكنّه من السهل جدّا الوصول إلى اغتراب كلّي للشعب عنه. فنصّ الدستور مهمّ وكذلك المسار المرتكز على المقاربة التشاركيّة ولكنّ الأهمّ يبقى دائما ما يعتبر عموم الناس أنّ الدستور حقّقه لهم في حياتهم اليوميّة.

نضال المكّي
كلّية الحقوق، جامعة لافال، كندا


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.