أخبار - 2018.08.21

المـــســــاواة في الإرث: الدولة المدنيّة ونهاية الإسلام السّياسي؟

المـــســــاواة في الإرث: الدولة المدنيّة ونهاية الإسلام السّياسي؟

قطـــــع رئيــــس الجمهورية التُفاحة نصفين، فمضى في مشروعه الرامي الى عــــرض تعـــديل مجلة الأحــــوال الشخصية على البرلمان، من أجل إقـــرار مبدإ المــــساواة في الإرث بين المرأة والرجــل. لكنّه سيتـــرك الباب مفتـــوحا (في النـــص) لمــــن يـــريد الالتــــــزام بأحكــــام الشريعـــة في هـــذا الباب، أي مـــن حــقّ المواطـــن أنّ يُـــــوصي بمنـــح الذكــــر مـــن الإرث كحّظ الأنثييـــن.

بهذا الموقف الوسطي تفادى التصادم مع أنصـــار حـــركة «النهضة» المُعارضين بشدّة لهذا التوجّه. غير أنّ عــلاقات «التوافق» مع قيادة الحركة لن تكون، بعد هذه الواقعة، مثلما كانت قبلها. ويجوز القول إنّ الطرفين، رئيس الجمهورية و«النهضة»، سارا بخطوات تُرضي أنصارهما، ولو جزئيا، إذ ضمن الأوّل في احتفال 13 أوت دعما معنويا لمشروعه من أطياف المجتمع المدني (الحداثي)، وهو دعمٌ يفتح على رئاسيات 2019، إذ ستذهب مُخرجاته إمّا للرئيس الحالي أو لمرشّح آخر للحزب. وعلى أية حال فالواضح أنّ الرئيس الحالي أراد أنّ يُنهي عُهدته بخطة يُسجّلها له التاريخ أسوة ببورقيبة الذي كان أب مجلّة الأحوال الشخصية.

احتواء غضب القواعد

أمّا «النهضة» فعملت على إرضاء قواعدها بتوجيه «رسالة الاحترازات» إلى صاحب المبادرة، مع إطلاق العنان، في الآن نفسه، لبعض قواعدها المُتشدّدة للتظاهر ضدّ المشروع، فضلا عن تجنيد جيش من الفيسبوكيين للتصدي له والسخرية من صاحبه. والمُلاحظُ أنّ «النهضة» لو أرادت لحرّكت قطاعات أخرى من أنصارها ومن التيارات والتنظيمات المنسجمة معها في مسألة الميراث، مثل حزب التحرير والسلفيين. إلاّ أنّ حرصها الشديد على الظهور بمظهر الاعتدال أمام العالم الخارجي، جعلها تخشى من تقويض كلّ ما بنته، فهي ما انفكّت منذ 2011، وحتّى قبل ذلك، تقدّم شواهد الاعتدال والوسطية، ولذلك لا يمكن أنّ تمحو اليوم بموقف اندفاعي صورة سوّقتها على مدى سبعة أعوام، وهو الحرجُ الذي أشار إليه رئيس الجمهورية، حين قال إنّ الحركة تحاول أنّ تُثبت لنا وللخارج أنّها حركة سياسية ذات طابع مدني.

مع ذلك فإنّ التباعد في المواقف بين رئيس حركة «النهضة» ورئيس الجمهورية بلغ درجة من الاتّساع لم يشهدها من قبل، بدءا بالخلاف على ترحيل الحكومة الحالية أو إبقائها، مرورا بمحاولة «النداء» حجب الثقة عن وزير الداخلية الجديد، بُغية إرباك رئيس الحكومة، ثمّ الخلاف على مشيخة الحاضرة، وانتهاء بالخلاف على المساواة في الميراث، التي كانت القطرة التي أفاضت كأس التباعد بين مواقفهما. ولعلّ هذا التباعد يُذّكرنا بالصورة التي روَجها الرئيس الحالي في حملته الانتخابية من أنّ «النهضة» و»النداء» خطان متوازيان لا يلتقيان.

لا يحتمل الانتظار

والأرجح أنّ البون سيتسع إذا ما توقّفنا عند بعض مفاصل تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، ومنها التنصيص على أنّ «المساواة في الميراث حـــقّ لا يحتمـــل الانتظـــار» (ص 178)، وذلك بعدما لاحظ أعضاء اللجنة أنّ «المواريث نظامٌ متجمّدٌ» (ص 173). من هنا ينبغي توقّع  عودة الحرب الباردة بين حليفي الأمس «النهضة» و«النداء»، كلّما اقتربنا من الاستحقاقين الانتخابيين المقبلين البرلماني والرئاسي. واستطرادا فالتجييش مُستمرّ مواكبة للمراحل التي سيمرّ منها مشروع القانون، الذي وعد رئيس الدولة بإحالته على مجلس نواب الشعب «قريبا».

هنا تبرزُ مسألة مسكوت عنها، وتتعلّق بقرار المؤتمر الأخير لحركة «النهضة» ترشيح رئيس الحركة للانتخابات الرئاسية المقبلة. وقد شكّل المرشّحُ فعلا فريقا خاصّا يشتغل منذ فترة على الإعداد للاستحقاق الرئاسي المقبل. ولعـــلّ هذا سيكون أهمّ مُتغيّر في انتخابات 2019، قياسا على الانتخـــابات الســـابقة التي خـــاضتها الحركة بحصــان مُستأجر وانتهـــت بقطيعة.

القطيعة مُستبعدة

مع ذلك فالقطيعة بين «الشيخين» مُستبعدة، بل على العكس سيستمرّ الحوار و(الخلاف)، لكن مع الالتزام بمدوّنة سلوك مبنية على دوائر التقاطع، التي يخصّ بعضُها مصالح الدولة العليا واستتباب السلم الأهلي أو ارتباطات تونس الاستراتيجية. وما من شك في أنّ كلّ طرف سيستقوي بفصل من الدستور في حربه على الطرف الآخر، وتحديدا الفصل الأوّل (تونس دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لُغتها والجمهورية نظامها)، والفصل 46، الذي أكّد أنّ «على الدولة أنّ تلتزم بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتدعم مكاسبها وتعمل على  تطويرها». ومردّ هذا التنازع على فقرات من الدستور إلى تناقض بعض فصوله مع فصول أخرى، نتيجة ظروف الاحتقان التي وُلد فيها، والتي أدّت إلى اعتماد أسلوب التلفيق والترضيات السياسية اللامبدئية.

هذا عن موقف رئيس الجمهورية، مثلما أعلنه في يوم المرأة، وعن موقف «النهضة» مثلما ورد في بياناتها ورسالتها إلى الرئاسة، فما موقف الآخرين في الركح السياسي؟ وهل مازال لهم من دور في توجيه الأحداث؟ في أعقاب الانتخابات البلدية اكتسى المشهد السياسي طابعا غير مألوف عُنوانه الجمود، بسبب انكفاء أجسام سياسية عدّة كانت ألسنتُها أطول من قاماتها، وأيضا بسبب الصراعات الداخلية التي تنخرها، والتي انتهت بحزب «آفاق تونس»، على سبيل المثال، إلى تفكّك هياكله واندثار كتلته البرلمانية. والأمثلة المشابهة كثيرة. وسنلحظُ أنّ تلك الأجسام ستتموقع مع «النهضة» أو مع «النداء» دون أنّ تكون لها القوة التنظيمية التي تبني عليها موقفا مستقلا، فضلا عن قدرتها على إيجاد خيار ثالث، وهو ما سيُعيد الساحة السياسية إلى المربّع الأول، مُربّع الاستقطاب الثنائي و«التصويت المُفيد»، الذي قتل الحياة السياسية وأفقد المواطن ثقته في مصداقية صندوق الاقتراع.

ر.خ.

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.