رحلة في عالم الأرشيف الوطني (فيديو)
عندما يمرّ المرء من شارع 9 أفريل بالعاصمة، يلحظ العدد الهامّ من مقرّات المؤسّسات الوطنية المشهورة التي تقع على جانبي هذا الشّارع، فهذا مستشفى شارل نيكول وتلك اتّصالات تونس وذلك متحف التّربية وهذه محكمة التّعقيب وهناك كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية ... لكنّه لا يخطر بباله، وهو يمرّ مرّ الكرام على بناية شاهقة حديثة التشييد جميلة الهندسة والتّزويق تسندها دار الكتب الوطنية من جهة الغرب، أنّه يجانب واحدة من أهمّ المؤسسات الوطنية التي تفخر بها البلاد، بما تحويه في طيات فضائها من نفائس الوثائق التاريخية للبلاد التونسية ولحفظها لذاكرة الشعب التونسي. إنها مقرّ الأرشيف الوطني التونسي.
انطلاقا من زيارة للمؤسسة تسنّى لنا إعداد هذا الملفّ الذي يبيّن طبيعة الدّور الموكول إليها ويسلّط الضّوء على طرق تنظيم الأرشيف الوطني وسبل النّفاذ إليه، فضلا عن تقديم عيّنات من الوثائق النّفيسة التي يحتويها من ضمن ما يناهز 40 مليون وثيقة أنتجتها الإدارة التونسية عبر القرون.
ويقف هذا الرّصيد الأرشيفي الهائل دليلا ساطعا على تجذّر تقاليد الدولة في تونس منذ العهد الحسيني واستمرارية كيانها حتّى في أحلك الفترات التي مرّت بها البلاد. كما يبرز في جانب منه ريادة تونس على الصعيدين التّشريعي والقانوني بفضل إنجازات عدد من بايات تونس المستنيرين والإسهامات الجليلة لروّاد الإصلاح في القرن التاسع عشر، وفي مقدّمتهم خير الدين باشا.
وقد ساعدنا في إنجاز هذا الملفّ مدير عام الأرشيف الوطني الأستاذ الهادي جلّاب الذي لم يبخل علينا بالتّوضيحات والشروح التي طلبناها منه.
مـا الأرشفة؟
تمثّل الأرشفة ورقيّة كانت أو رقميّة أو سمعيّة بصريّة في كل دولة مصدرا مهمّا وأساسيّا للمعلومات تسمح بفهم المــاضي وتوثيـــق ما يجري في الحاضر وتوجّه إلى ما بقي القيام به في المستقبل.
وهي الحافظة لذاكرة الشعوب الفردية والجماعية والبديل عن الذاكرة الانسانية الذي يصعب الاستغناء عنه لتعويض ذاكرة إنسانية محدودة وغير موضوعية ومعرّضة للفناء.
ويحدّد القانون التونسي الأرشيف (القانون عدد 95 لسنة 1988، المؤرّخ في 2 أوت 1988) على أنّه مجموع الوثائق التي أنشأها أو تحصّل عليها أثناء ممارسة نشاطه كلّ شخص طبيعي أو معنوي وكلّ مرفق عمومي أو هيئة عامّة أو خاصّة مهما كان تاريخ هذه الوثائق وشكلها ووعائها. والأرشيف العام يتبع ملك الدولة العام وهو غير قابل للتّفويت ولا لسقوط الحقّ فيه بمرور الزمن. وعلى هذا الأساس هو الخيط الناظم لتواصل الدولة واستمرار الإدارة.
إنشــاء الأرشيف التـونسي وتنظيمه
أشار السيد الهادي جلّاب إلى أنّ تاريخ تنظيم أرشيف الدولة التونسية يعود إلى سنة 1874 زمن الوزير الأكبر خير الدين التونسي (تولى الوزارة الكبرى بين 1873 و1877) بإنشاء هيكل يعنى بالأرشيف سمّي «خزنة حفظ مكاتيب الدولة» يتبع القسم الأوّل من الوزارة الكبرى وهو قسم يعنى بشؤون الأعمال والأوطان والعروش وإدارة تحرير المحاسبات.وأضاف أنّه تمّ بعد ذلك نقل محفوظات الدولة من ضاحية باردو مقرّ حكم البايات إلى «دار الباي» مقرّ الوزارة الكبرى، وكان حفظها بصورة منظّمة، بذكر عنوان كلّ وثيقة ومكان خزنها بكلّ دقّة وتسجيل الملاحظات المتعلقة بالحالات الخاصّة التي تطرأ عليها.
وعن الدّور الذي لعبه خير الدين بعد إنشاء الأرشيف أكّد السيد الهادي جلّاب، أنه كان أوّل من احترم نظام الأرشيف هذا، وكان يطلب كتابيا من المسؤولين عن الأرشيف الوثائق التي يحتاجها فيعمله ويتعهد بارجاعها. ويعود له الفضل في حفظ وحماية وثائق نعتزّ بها وتثبت ريادة تونس في مجال الإصلاحات والتّنظيم الإداري مثل نصّ عهد الأمان ودستور 1861 وقرار أحمد باي الأوّل بإلغاء العبودية... وهذا يؤكّد حسب محدّثنا أنّ العناية بالأرشيف دليل على نضج الدولة وعلى عراقتها، فالأرشيف يضمّن فيه عمل هياكل الدولة وهو مقوّم من مقوّمات سيادتها لذا وجبت حمايته وحفظــه واستغـــلاله وفــق ما ينصّ عليه القانون دون المساس بأمن الدولة والوطن والحياة الخاصّة للأشخاص. وأوضح أنّ مؤسّسة الأرشيف هي مؤسّسة عصرية تقوم بدورها الكلاسيكي وهو جمع الأرشيف التاريخي وحفظه ومعالجته ووصفه وتكشيفه ووضع البيانات حوله في منظومة معلوماتية وإتاحته للباحثين والمواطنين.وإضافة إلى ذلك ومنذ سنة 1988 أصبحت المؤسّسة تلعب دورا جديدا يتمثّل في مساعدة الهياكل العمومية منتجة الوثائق على حسن تنظيم وثائقها لضمان حسن التصرّف في الأرشيف الجاري والوسيط وحسن التصرف في المعلومة وهي مهمّة حديثة في تناول الأرشيف ظهرت خاصّة في أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا.
ويصل اليوم عدد الوثائق التي يحفظها الأرشيف الوطني إلى ما يقارب 40 مليون وثيقة أنشأتها الإدارة التونسية خلال أداء مهامّها وإدارتها للشأن العام في مختلف المجالات السياسية والاتّصادية والاجتماعية والتربوية منذ القرن الخامس عشر وإلى اليوم، وهذا الرّقم في ازدياد مطّرد بفضل الترحيلات التي تقوم بها الوزارات والمرافق العمومية.
النّفاذ إلى الأرشيف
وحول من له الحقّ في النفاذ إلى الأرشيف أكّد السيد الهادي جلّاب أنّ القانون الذي ينظّم الأرشيف وضّح حقّ كل مواطن تونسي في النّفاذ إلى الوثائق المحفوظة بالأرشيف الوطني وأنّ إتاحة هذه الوثائق يخضع لأحكام الفصول 15و16 من القانون والتي تنصّ على إتاحة النّفاذ إلى الأرشيف بعد مرور 30 سنة. وترتفع هذه الآجال إلى 60 سنة بالنّسبة إلى الوثائق التي تحتوي على معطيات شخصية أو أمنية وكذلك الملفّات القضائية. وتصل هذه الآجال إلى 100 سنة بالنّسبة إلى دفاتر العدول ودفاتر الحالة المدنية وملفّات الموظّفين والملفّات الطبية (تحسب المدة بداية من تاريخ الميلاد). أمّا بالنسبة إلى الوثائق الإدارية النشطة والموجودة بالمصالح الإدارية للدولة فإنّ النّفاذ إليها يخضع لأحكام القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 المؤرّخ في 24 مارس 2016 والمتعلّق بالحقّ في النّفاذ إلى المعلومة ما لم تكن مستثناة من النّفاذ على معنى هذا القانون.
وبخصوص انخراط الهياكل العمومية في نظام الأرشيف أكّد المدير العام للأرشيف الوطني انخراط كل الوزارات بدون استثناء في النظام الوطني للوثائق والأرشيف وقد صاغت أدوات لذلك بعد دراستها والموافقة عليها من قبل الأرشيف الوطني، فتعدّ كل وزارة قائمة اسمية في الوثائق التي تنشئها وتحصيها ويتمّ تداولها وهي نوعان: الوثائق المشتركة بين الوزارات والوثائق الخاصّة بكلّ وزارة ويتمّ تحديد مدد الأرشيف وكيفية التصرف فيه في جداول مدد استبقاء الوثائق ونظم التصنيف بالنّسبة إلى كلّ وزارة وبالنّسبة إلى الوثائق المشتركة بين الوزارات والمؤسّسات العمومية وتنشر في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية. كما ترحّل الوزارات الوثائق التاريخيّة التي لم تعد في حاجة إليها إلى المقرّ الخاصّ بها في الأرشيف الوطني يسمّى الأرشيف الانتقالي أو الوسيط.. ورغم أنّ بعض الصّعــوبـات لا تزال قائمة بخصوص ظروف الخزن أو نظام التّصنيف فإنّ جداول الآجال تطبّق بصورة جيّدة وكذلك الإتلاف الذي يتمّ بصورة عادية وبتطبيق صارم للقانون وكذلك التّرحيل يتمّ بنفس الصرامة.
عبد الحفيظ الهرقام وخالد الشابّي
قراءة المزيد:
كيف نثري الأرشيف الوطني ونحميه
الهـادي جــلّاب: سعي دؤوب للنهوض بقطاع الأرشيف وحفظ الذّاكرة الوطنية
الرّائـد التّــونـــســي من أهمّ الوثائق في الأرشيف الوطني
المرحوم المنصف الفخفاخ, باني مؤسّسة الأرشيف العصرية
من وثائق الأرشيف الوطني : قرار إلغاء العبودية في تونس
رسم معاوضة من صفاقس: أقدم وثيــقــة فـي الأرشيـف الـوطـني
في الأرشيف الوطني: دفــتــر لإثـبـات تسليــم »الصرّة« إلى مستحقّـيـها بمــكّـة والمدينــة
في الأرشيف الوطني: النّسخة الأصلية لعهد الأمـان
من أطرف وثائق الأرشيف الوطني: رسالة تهنئة من الخليفة الأموي بإسبانيا إلى الأمين باي
في الأرشيف الوطني: رسالة إلى بورڤيـبة في مقرّ إقامته بباريس يوم إعـلان الاستقلال
في الأرشيف الوطني: فرمان يثمّن مشاركة الجيش التـونسي في حرب القرم
- اكتب تعليق
- تعليق