أخبار - 2017.12.01

آمال موسى: المواطنة أو خلاصة أسرار الديمقراطية

آمال موسى: المواطنة أو خلاصة أسرار الديمقراطية

في البداية من المهم أن نشير إلى أن توصيف مسألة المواطنة بأمّ المعارك في مجتمعاتنا العربيّة أبعد ما يكون عن كونه ضربا من ضروب المبالغة. كما أنّها معركة لا تشبه سائر المعارك: معركة صامتة لا تعلن عن نفسها بصريح الفعل والصورة والأدوات. فهي مسألة في علاقة عضويّة ومتشابكة مع مسائل أخرى يبدو فيها الطابع الإشكالي أكثر وضوحا وقوّة مثل مسائل الحداثة والعلمانية والديمقراطية رغم أنّ المواطنة هي قلب الحداثة وروح الديمقراطية. بمعنى آخر، فإنّ مسألة المواطنة من المسائل القليلة جدّا، التي تتمتّع بشيء من المخاتلة والغموض المقصود والوضوح الواهم. هي مخاتلة في الفضاء العربيّ الإسلاميّ وأبعد ما تكون عن ذلك في الفضـاء الغربي الذي يمثّل مسقط رأسهـا وأرض سلالتها من المفاهيم ذات الصلة بمنظومة المواطنة. إذن نحن أمـام معركة من نـوع خاصّ ولعبــة لا مجال فيها للتفاوض حول شروطها ومن يدخل فيها فهو مكره على مواصلتها وأقصى ما يمكن القيام به هو المراوغة سياسيا واجتماعيا في كيفية جعل إيقاع سرعة المضيّ في مسار المواطنة أقـلّ سرعة ممّا تستطيع السلحفاة.

أوّلا: هناك مخاتلة على مستوى معنى المواطنة ذاته. فهو لا يحيل إلى مفهوم الوطنيّة كما قد يخدعنا أصل الاشتقاق. بل إنّـه يعني بالأساس الانتمـاء إلى الدولة والمسـاواة بين جميـع المواطنين دون استثنـاء في الحقوق والواجبات. أي أنّها تُحدّد الهوية القانونية للفرد داخل المجتمع والدولة هي الإطار العام الذي تتشكّل فيــه وتحيا هوية الفاعل الاجتماعي القانونية. ومن هذا المنطلق، فإنّ المواطنة مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثّقافية ينتفع بها الفرد وتفرض عليه في المقابل واجبات تضبطها الدولة تماما كما تضمن الحقوق. ومن خلال هذا التعريف المفصّل بعض الشيء، فإنّ هويّة الدولة التي تتماشى مع فكر المواطنة وقيمها هي دون شكّ أو نقاش: هويّة مدنيّة. هذا على مستوى المدلول أو إحدى خلاصات المعنى الأقلّ تعقيدا.

ثانيا: يتعامل التصور الاجتماعيّ العربيّ العام مع مسألة المواطنة كمنتوج فكري حديث العهد ينتمي إلى المعجم المفاهيمي للحداثة وهو خطأ ينتـج عنـه قصور آلي في فهـم تـاريخ المواطنة والمحطة التاريخية الكبرى التي أعادت ولادة المفهوم وابتكاره على نحو أكثر ثباتا.ونقصد بذلك حدث الثورة الفرنسية. ذلك أن أصل كلمة المواطنة يعـود إلى العهـد اليـوناني ولكنه اكتمل وتجاوز وجـوده الجنيني التلميحي مع الثورة الفرنسية التي تمثّل كما نعرف الشق المعنوي الفكري لظاهرة الحداثة. ومن ثمة فإن المواطنة موروث الحداثة. في هذا السياق الذي حاولنا فيه إضاءة مسألة المواطنة، يتنزل سؤالنا التالي: إلى أيّ مدى تستطيع المجتمعات العربية التفاعل رمزيا بشكل إيجابي وديناميكي مع قيم المواطنة وشروطها واستحقاقاتها؟

إن الجدير بالتنويه يتمثل في كون مسألة المواطنة أصبحت اليوم من أكثر الكلمات كثافة في التواتر في الخطاب السياسي العربي الرسمي أو الإعلامي أو الخطاب الاجتماعي العام. ويكشف هذا التواتر وتحديدا سياقاته واستعالاته عما تتمتع بـه مسألة المواطنة من مخيال إيجابي في الفضــاء العربي والإسلامي وأنّها تمثل نوعا من المعاصرة والانتماء إلى لغة العالم الجديد. غير أنّه إلى جانب ما أشرنا إليه من سوء فهم وخلط في خصوص معاني المواطنة فإنّ هناك نوعا من التعارض البنيوي بين النسق الثقافي الذي أنتج ظاهرة المواطنة والنسق الثقافي العربي المستورد لها والذي يحمل في جيناته الولاء للعشيرة والجهوية والانتماءات الاثنية والعرقية. ونعتقد أن هذا التعارض الذي يختلف نسبيا من مجتمع عربي إلى آخر هو ما يجعل من قضية المواطنة أمّ المعارك والامتحان الحقيقي العملي للحداثة وللديمقراطية في مجتمعـتنا. ذلك أن النسق الثقافي العربي يقوم على تمايزات عدّة تدحضها المواطنة وتقطع معها حيث إن للمواطنة فكرة عبقرية رئيسة بسيطة في ظاهرها مؤلمة ثقافيا في باطنها: إنّها فكرة المساواة بين المواطنين ونبذ كل تمييز يقوم على أساس الدّين أو العرق أو الجنس.

لذلك، فإنّ المواطنة تشكّل امتحان معاصرة وانفتاح للثقافة العربية وكلّما كانت أكثر قدرة على التفاعل إيجابيا مع قيم المواطنة ومواجهة مشكلة التمايز التي تقتل فكرة المواطنة الرئيسة المتمثلة في المساواة، كانت ثقافتنا أكثر قدرة على إثبات كفاءتها في التغيير والحياة والتأقلم مع رئات جديدة تقوي جسد الثقافة العربية وتجعله يتنفس أفضل.

ولا نستطيع أن نتناول مسألة المواطنة في معزل عن مفهوم التنشئة الاجتماعية باعتبار أن المواطنة تربية وتنشئة بالأساس وتتساند في الاضطلاع بها وظيفيا مؤسسات التنشئة كافّة بشكل يضمن لخوض تجربة التربية على المواطنة استعدادات أقوى وأكثر هضما للجدوى من الانخراط في ظاهرتها. كمـا لا تفـوتنا الإشارة إلى أنّ المواطنة مسار وتجربة طويلة ومخــاض لا يخلـو من عسر وأوجــاع...ولكن هي كالطعم من يلتقطه لن يلتقـط أنفــاسه إلا بعد الإتيان على شروطها كـــافّة: ألم نقـل إنّهـا جـوهـر الديمقـراطية وقلـب الحداثة وأردفنا ذلك بأنّها أم المعارك العربيّة؟

وأغلب الظن أنّها معركة تستحقّ الخوض ومواصلة الخوض.

آمال موسى

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.