رشيد خشانة: حكومة على مقاس الحزبين الكبيرين

حكومة على مقاس الحزبين الكبيرين

بدأت قصةُ التحوير الوزاري مع سقوط الحجر الأول من التشكيلة الحكومية، في أعقاب إعفاء وزير التربية السابق من مهامه، استجابة للضغوط. ثم سقط الحجر الثاني مع إقالة وزيرة المالية السابقة، بعد تصريح صحفي اعتُبر غير مناسب، قبل أن تتضعضع الواجهة بأكملها، مع اضطرار وزير الاستثمار الخارجي والتعاون الدولي السابق (وزير المالية بالنيابة) إلى تقديم استقالته، ليتمكن من المثول أمام القضاء، بالرغم مما عُرف عنه من استقامة وكفاءة.

بهذا التدرُّج تضخّمت كرة الثلج حبّة بعد أخرى، وفرضت تحويرا موسّعا شمل عددا كبيرا من الوزارات وكتابات الدولة، من بينها ثلاثا من وزارات السيادة الأربع، إلى جانب وزارات هامة مثل الصناعة والتعليم والمالية والصحة.

رُبعُ الساعة الأخير

يُفترض أن تكون حكومة الشاهد2 الأخيرة قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية المقررة لسنة 2019 إذ لا يمكن التسلي بتغيير الوزراء في الفترة القصيرة نسبيا، التي مازالت تفصلنا عن الانتخابات القادمة. وبحسب أعضاء حكومة سابقين، يحتاج كل وزير جديد إلى ثلاثة شهور في المُعدَل، من أجل استيعاب الوضع في القطاع المسؤول عنه، وتعديل أوتاره مع أوتار أعضاء الفريق الذي يشتغل معه. وينطبق هذا الأمر حتى على الوزراء العائدين إلى وزارات شغلوها من قبل، لأنهم سيُفاجأون بتغييرات كثيرة لم يعهدوها في الماضي. وبتعبير آخر لن يبرز عطاء الوزراء الجدد إلا مع بداية السنة المقبلة.

نأتي الآن إلى سؤال تقليدي يتردّدُ مع كل تحوير وزاري، وهو التالي: هل كانت معايير التوزير مستندة على الكفاءة أم على اعتبارات أخرى؟ إذا استعرضنا الأسماء والحقائب التي أسندت لكل واحد من الوزراء، لا نشعر أن الخبرة والكفاءة هما اللذان أُخذا في الاعتبار. وقد رجَح رئيس الحكومة في نهاية المطاف كفة انتمائه الحزبي، فساير مطالب قيادة «النداء» (أو من تبقى منها)، ولم يلو العصا في يد «النهضة»، انسجاما مع التحالف القائم بين الشقين الحاكمين منذ ثلاث سنوات. وهذا ما يُفسر إسناد 13 حقيبة لـ«النداء»، مع احتفاظه بحقيبة سيادية (الخارجية).

أعصاب الاقتصاد

أما «النهضة» فحصلت على ثماني وزارات وكتابات دولة، بالإضافة إلى الوزير المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة، بشكل يجوز معه القول بإنها بدأت تسيطر على أعصاب الاقتصاد. وحصلت الأحزاب الأخرى المشاركة في «تحالف قرطاج»، على وزارتين أو وزارة واحدة تُبرّرُ بهما أو بها دفاعها عن أداء الحكومة. وهكذا حافظ حزب «آفاق» على حقيبة البيئة والتنمية المحلية (وهي وزارة لا يمكن الاستهانة بدورها) وحقيبة التكوين المهني (التي أسندت إلى أبرز منافسي رئيس الحزب)، فيما تُركت الفلاحة لحزب «المسار» ووزارة العلاقات مع البرلمان لـ«الحزب الجمهوري».

توحي هذه القراءة لسيرورة التحوير ومآلاته بثلاث ملاحظات أساسية كالتالي:

  • الملاحظة الأولى هي أن التحوير انبنى على تقاسُم الحقائب بين الأحزاب الموقعة على «وثيقة قرطاج»، وهذا يعني أن المنهج في انتقاء أعضاء الحكومة لم يكن الكفاءة بقدر ما كان الولاء الحزبي، مع بعض الاستثناءات القليلة مثل وزير الدفاع، الذي سبق أن برهن على كفاءته في تسيير وزارة غير سهلة.
  • الملاحظة الثانية أن توزيع الحقائب بين حزبي «النداء» و«النهضة» تمّ بالتراضي، وهو ما يُفسر أن قيادة الحزب الثاني سارعت إلى الإعلان عن دعمها للتشكيلة الوزارية والطلب من نوابها في البرلمان منحها الثقة. وهُنا نشعر أن رئيس الحكومة لم يكن راغبا في إضاعة وقت كثير في التفاوض مع الحزبين الكبيرين، مُفضلا قبل كل شيء أن يضمن تحصيل ثقة الأغلبية في البرلمان.
  • الملاحظة الثالثة تخصّ رسكلة وزراء من العهد السابق، وإدخالهم إلى الحكومة مُجدّدا، بشكل مكثف لم يسبق أن لجأت إليه أية حكومة منذ وزارة محمد الغنوشي الأولى بعد 14 جانفي 2011، وكأن الكفاءات مفقودة من البلاد. رُبما لا ينطبق هذا الأمر على وزير الدفاع الجديد القديم، الذي أظهر مقدرة لدى تسيير الوزارة في الفترة التي تلت الثورة، قبل أن تتخلص منه «الترويكا».

عشر حكومات

بعد توالي عشر حكومات على السلطة منذ الثورة إلى اليوم (حكومة محمد الغنوشي1 ثم الغنوشي2 فالباجي قائد السبسي، ثم حمادي الجبالي تلتها حكومة علي العريض، فمهدي جمعة، ثم الحبيب الصيد1 فحكومة الصيد2، تلتها حكومة الشاهد1 والآن الشاهد2)، بعد كل هذه التجارب من المفروض في كل من يُعيّن على رأس قطاع أن يكون من أهل الذكر في مجاله، وبالتالي أن يكون قادرا على صياغة خريطة طريق للقطاع، على أساسها تُسند له الحقيبة. ويتولى رئيس الحكومة ومجلس الوزراء برُمته تحديد الأهداف الكبرى، التي ستندرج فيها خرائط الطريق القطاعية. أما إذا أتى الوزير إلى الوزارة وهو خالي الوفاض وصفر اليدين، فأقصى ما سيفعله هو تطبيق المثل الشعبي عن تعلُم الحجامة في رؤوس اليتامى.

لنضرب مثلا من بلد نُتابع أخباره أكثر من سواه منذ كتاب خير الدين باشا «أقوم المسالك»، ففي فرنسا ستتخطى موازنة التربية في 2018 لأول مرة، حاجز الـ 50 مليار يورو (حوالي 145 مليار دينار)، انطلاقا من رؤية تمنح الأولوية للاستثمار في المستقبل تعليما وتكوينا، للرفع من المستوى الثقافي للقوى الحية، وكسب معركة المعرفة، مع الترفيع في الوقت نفسه من موازنة الدفاع إلى 30 مليار يورو (87 مليار دينار)، بالنظر إلى التّحديّات الأمنية الجديدة التي تواجهها البلاد. وطبعا، على كل وزير من الوزيرين الماسكين بهاتين الحقيبتين أن تكون له خريطة طريق في إطار قانون المالية لسنة 2018.

أبعد من التحوير الوزاري، الأهمّ اليوم هو التغلب على التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تُواجهها تونس، فالانطلاقة الحقيقية للاقتصاد الوطني لن تتمّ إلا بتوسيع الاستثمار الداخلي والخارجي، وهي السبيل الوحيدة لإحداث مواطن الشغل للشباب، بما ينأى به عن المخدرات والجريمة والتطرف. وهذا يقتضي إصلاحات عميقة في المنظومة الجبائية وحزمة جديدة من الإصلاحات في القطاع العام والقطاع البنكي لإنعاش الاقتصاد، مع الابتعاد عن الحسابات الإنتخابية، وخاصة عن الخطاب الشعبوي، الذي تلجأ إليه بعض الأطراف السياسية لكي تُسمع صوتها.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.